nba

 

آفاق الإصلاح والتجديد..

الحوار طريقاً..

 

 

مرتضـــى معــاش

[email protected]

  في وضع تاريخي لا يحسد تقع الأمة في دائرة مغلقة من التفكك واليأس والإحباط، يخيم عليها في شكل كابوس يجثم على حيويتها، فيخنق حركتها، ويحولها إلى أطلال حزينة، تحوم حولها كواسر تنتظر أن تفترس ما تبقى منها!..

لكن القدر التاريخي لا يستطيع أن يحبس إرادة الإنسان في زنزاناته، مادامت هناك إرادة حية تبحث عن النهوض والتحرر من أسر التخلف والبؤس، إرادة تهمس برموز التغيير، وتفكر بروح الإصلاح، وتتطلع إلى المستقبل بحيوية التجديد؛ فالإنسان قادر على تحويل اليأس إلى أمل والحزن إلى فرح، والترهل إلى حركة، عندما يمتلك الإرادة الحقيقية للإصلاح والتجديد، الإرادة التي تنبعث من الوعي والمعرفة والاخلاص والأصالة.

الحركة في طريق الإصلاح والتجديد لا يمكن أن تكون فردية بل هي حركة تعتمد في نتائجها الإيجابية على تحويلها إلى حركة جماعية، يشاركها أصحاب القضية أهدافها وهمومها ووعيها؛ لذلك تصبح هذه الحركة مجرد نظرية عندما تكون حبيسة أذهان المفكرين والمثقفين؛ فالإصلاح اتجاه إيجابي يتحقق من خلال الإرادة الجماعية لمختلف التوجهات والأفكار، وهذا لا يمكن أن يصبح في حيز الوجود ما لم يوجد قبله اتفاق عام يصب مجمل الجهود والطاقات في هذا الاتجاه؛ وهذا يعني وجود قنوات حوار مسبقة تسعى إلى تقريب الأفكار، ومجانسة النفوس، ورفع الحواجز، وترسيخ القواسم المشتركة، وإلا فإن حركة الإصلاح والتجديد سوف تلفظ انفاسها عندما تفتقد قنوات التنفس الطبيعي لها وهو الحوار.

لــبّ الأزمــــة..

ينبع جوهر الأزمة في أي جماعة أو مجتمع أو أمة من خلال ذلك العقد المنفرط الذي يوجه الطاقات الداخلية ويستنفرها لاستهلاك نفسها واستنزاف تماسكها، وبالتالي يفضي إلى الصدام الذي يؤدي بمختلف الاتجاهات المتناحرة لتفكيك لحمة المجتمع، وتهديم أسسه القائمة على التكافل والتعاون والعيش المشترك؛ فقد أصبحت لغة الصدام هي اللغة التي تتحدث بها فصائل الأمة واتجاهاتها وطوائفها وأحزابها، بحيث أصبح الصدام بأقصى سرعة هو الطريق الأوحد لانتحار الأمة ونهاية تاريخها!!.

فكيف يمكن لأي إنسان أن يعيش دون أن يتعايش مع أخيه الإنسان؟ وكيف يمكن لجماعة أو طائفة أن تتكيف مع الحياة وهي تجرّد أسلحتها ضد الآخر الذي يعيش ضمن نطاقها الاجتماعي؟ فبالصدام نتخلى عن حكمة الحياة، ونسير ضد غايات البشر في السلام، نحو جحيم ممتلئ بالبؤس والتخلف والدم؛ ويمكن أن تنظر للتاريخ من بدايته حتى تستكشف أن آلام البشر لم يجلبها إلا أولئك الذين اختاروا طريق الصدام بديلاً وحيداً لمصالحهم وأهدافهم ونزعاتهم التسلطية والشهوانية، منذ أن قتل قابيل هابيل.. والحروب هي - غالباً - من بُناة أفكار عنصرية واستعمارية وطائفية، اختار مهندسوها لغة الصدام لتحويل التاريخ البشري إلى أنهار دم تضرم النفوس بالثأر والانتقام؛ ليستحيل على الإنسان أن ينعم بجانب أخيه بالعيش المشترك والتكافل الطبيعي.

وإذا كانت المشكلة هي مشكلة تضاد الأفكار؛ فالحوار هو الطريق الأمثل لتحقيق التجانس، وإذا كانت المصالح هي جوهر التصادم، فإن المصالح المشتركة لا يمكن تقنينها دون وجود الحوار الحقيقي، ولكن طغيان الإنسان وجبروته واستعلائه يأبى على الآخرين أن يحققوا الخير المشترك؛ فيخسر الجميع روح الحياة ويخسر الإنسان أطماعه، وقد قال المسيح (ع): »ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه).

فالصدام هو لب الأزمة وجوهرها؛ إذ يكرس حالات التفكك والانفراط، والحوار هو الطريق الأمثل لتحقيق العقد المشترك والاتفاق العام الذي يضمن للجميع مصالحهم وحرياتهم وحقوقهم.

الإصلاح والتجديد، قراءة في المفهوم..

يعبر مفهوم الإصلاح بقراءته الأعمق عن إصلاح الإنسان روحاً وفكراً وجوهراً، فالفعل لغوياً يصبح أكثر دلالة وانطباقا عندما يستعمل في أعلى درجات اللغة، إذ إن اللغة هي استعمال انساني للتخاطب والتفاهم، ودلالاتها الإنسانية أكثر من فهمها المادي؛ فكلمة الإصلاح مثلاً هي استعمال ينطبق في جوهره على الإنسان معنوياً وأخلاقياً وفكرياً، أكثر من دلالاته المادية، فالمادة لا اختيار لها، والإنسان صاحب إرادة الخير والشر في هذه الحياة؛ فكل إصلاح يتوجه إلى الإنسان وكل فساد ينبعث منه؛ لذلك فان هذا المفهوم هو فعل إنساني يتحقق من خلال التفاعل مع الآخر ومفهومه المعاكس كذلك.

يقول الراغب: الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (الأعراف: 56)، والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس (فاصلحوا بين أخويكم) (الحجرات: 10)(1).

ويمكن أن يفهم من كلمة الإصلاح عدة معاني:

1- إن الأصل في الحياة هو الإنسان، والإنسان هو مادة الإصلاح، والصلاح والفساد هو أمر عارض.

2- إن الإصلاح يمكن أن يكون منذ البدء؛ فكل شيء هو صالح بحد ذاته، ولكن مع تغير الأسباب يتغير العنوان وقد يتحول إلى الفساد.

3- إن الإصلاح ينطبق عمليا بشكل أكبر على الفعل، بعد تحقق ضده وهو الفساد، وهذا اكثر استعمالاً وتحققاً.

4- إن الإصلاح فعل إنساني جماعي مشترك، يتحقق عبر مشاركة المجموع في الأمر، بينما الفساد هو أمر على العكس من ذلك.

5- إن الإصلاح فعل يستهدف التواصل مع الآخر والتفاهم معه، وإيجاد العناصر المشتركة للخروج من أزمة أو مشكلة.

ومن هنا فالإصلاح أمر يستهدف بالدرجة الأولى تحقيق التوافق المشترك لإيجاد الأرضية الصالحة للخروج من حالات التأزم (الفساد)، ولا يمكن ذلك دون وجود التفاهم والحوار المستمر؛ لأن الإصلاح عملية مستمرة، بمجرّد أن تقف عند حد معين، يخرج ضدها ويستولي على الفعل الإنساني؛ فالحوار هنا هو فعل إصلاحي مستمر لا ينقطع؛ لقطع الطريق أمام بروز الأزمات. والأمم تموت عندما تتوقف فيها حركة الإصلاح ويسيطر عليها الفساد.

أما التجديد فهو فعل مرادف للإصلاح، ولكنه يستهدف جانباً آخراً من حركة الأمة، وهو عملية التطور والتغيير؛ فهو يكمل حركة الإصلاح، ويغذيها بالحيوية والطاقة اللازمة؛ لذلك فان الإصلاح لا يكفي لوحده دون وجود عناصر تساعده باستكشاف آفاق جديدة لحركة الإنسان والمجتمع، وبدون التجديد يستنفذ الإصلاح إمكاناته الإصلاحية، ويصبح غير قادر على الاستمرار في عمليته وحركته، وهذا الأمر نجده في المجتمعات التقليدية التي تمارس إصلاحاً داخلياً مستمراً، ولكنها غير متجددة؛ فتتحرك فيها عناصر الفساد وتصبح عرضة لنهب وغزو الحركات التي تدعي التجديد، وقد حصل ذلك للأمة الإسلامية في بدايات القرن العشرين وأواسطه.

وجوهر التجديد يستند أساساً على الحوار مع الداخل الذاتي، والداخل الاجتماعي، والآخر المعارض، لفتح وجهات نظر موضوعية وبأجواء هادئة وصولاً إلى تجديد عقلاني مثمر يحقق عملية الإصلاح، ولا ينتج نقيضها.

إن أهم الأزمات التي تواجهها الأمة، هو فقدانها لتوازنها الداخلي الذي سببه حالات الصدام العنيف بين الأفكار والاتجاهات، بحيث أفقدها تماسكها وجعلها عرضة لنهب الآخرين، فالصدام يصرف الطاقات والجهود في صراعات ممزقة للكيان الاجتماعي، ويفرز نتائج خطيرة ظهرت في أشكال التناحر المصاحبة للعنف والإحباط وفقدان غايات الحركة الحضارية، وضياع أهداف الوجود الإنساني الفاعل.

قراءة في السلبيات..

يمكن القول إن الحركة الاستلابية التي تعيشها الأمة هي حركة ناتجة بشكل أساسي عن اندفاع سريع تختلقه مختلف التيارات، باتجاه المحور المركزي لنواة الأمة، وبالتالي تحطيم بنيتها الأساسية؛ إذ يظهر في البين أن هناك اتفاقاً لاشعورياً من أجل التحطيم والهدم لإثبات الذات والشعور المطلق بانتصار الأفكار ومحو الآخر، حتى لو كان ذلك يتم عبر الصدام؛ لذلك تسير الحركة بوتيرة متصاعدة لمزيد من التناحر والانشقاق، وبالتالي الانكفاء نحو الانعزال. وبقراءة إحصائية للأرقام التي تطرحها الأزمة بشكل دائم في مختلف المناطق، تظهر النتائج السلبية بشكل واضح على السطح؛ إذ إن الكثير من المشاكل الكبيرة التي نعاني منها هي نتاج عملية الصدام التي نعيشها يوميا.

الصدام نحو العنف..

الحوار هو لغة التفاهم الإنساني، فعبر الحوار يستطيع البشر أن يوصلوا للآخرين أفكارهم ومعتقداتهم، بالإقناع والتفهم والاحترام، وهذه هي القاعدة الأساسية التي يتفق عليها العقل البشري وعقلاء الأمم، ومع انقطاع الحوار تبرز التقاطعات البشرية كحقيقة ترتهنها النفوس الضيقة، كوسيلة لإيجاد حالة الصدام، وإثبات تسلطها وطغيانها على الآخرين؛ فالملاحظ أن معظم الصراعات البشرية والحروب الدامية ما هي إلا نتيجة لانقطاع قنوات الحوار، وحلول اسلحة الصدام التي تتكلم بلغة واحدة غايتها تحطيم الآخر مهما كان الثمن؛ ففي عالم اليوم يبدو أن الصراع والتناحر صناعة آخذة في النمو فالأطراف المتناحرة تريد أن تأخذ قرارات مشتركة تؤثر في عملية صنع القرار، وغالبية البشر ترفض أن تملى عليها القرارات والخطوات(2). إذ يصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة في حالة الصدام لحل المشاكل المترتبة على اختلاف الأفكار وتناقض المصالح؛ فعدم وجود الحوار المنفتح يؤدي بالتأكيد إلى الصدام، وهما حالتان لا يخلو الأمر من إحداهما، فالالتحام الإنساني في الفكر، واختلاف المصالح، واتصال المعرفة، يؤدي إلى وجود تثاقف وتواصل حتمي بين الجماعات والمجتمعات والحضارات، وهذا الاحتكاك الشديد - خصوصاً في زمن الثورة المعلوماتية - يستلزم بلورة الحوار وفتح آفاق التفاهم والتعايش، وإلا فإن الصراع منفجر حتماً، لأن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته وتصفية الآخر(3).

لا يمكن أن نتجاوز ظاهرة العنف التي تمزق روح الأمة، إلا بالاعتماد على الحوار كلغة خطاب استراتيجية تفتح حالة التفاهم بشكلها الواسع على الجميع؛ فسوء الفهم والتباعد بين الأفكار وحالة الجفاء والعيش في جزر منفصلة عن الآخرين، هي عناصر أساسية لسوء الظن بالآخرين وبالتالي التصادم معهم بعنف؛ ومن هنا فإن الإصرار على مبدأ الحوار - حتى لو رفض الطرف الآخر - وعدم التراجع عن مبدأ المبادئ كلها(الحوار)، والثبات عليه، وإن كلّف الاستشهاد في سبيله، هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف؛ لأن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار، يقود في النهاية إلى النزاع المادي؛ لأن الحروب تنشأ أولا في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية(4).

وفي كثير من الأحيان يعبر العنف عن حالة الضعف التي يعيشها مستخدمه، إذ يعجز عن استخدام لغة الحوار مع الآخر، لعدم فهمه لهذه اللغة خصوصا إذا عاش في أوساط منغلقة يلفها جو الاستبداد وتسلط الرأي الواحد، أو كونه لا يمتلك قوة المنطق في إقناع الآخرين؛ لفقدانه المعرفة اللازمة للحوار، ويمكن مشاهدة ذلك جليا في الحوارات اليومية التي يعيشها الناس؛ إذ يلجأ بعض الخصوم لرفع أصواتهم أو استعمال أيديهم أو إرهاب محاوريهم. وهناك قصة صينية تعبر عن ذلك، مفادها أنه كان هناك اثنان من الصينيين يتشاجران وسط الزحام بالكلمات، وعندما مرّ أحد الأجانب على هذا المشهد عبر عن دهشته: إن الأمر لم يتعد الكلمات وكان لأحدهما أن يبدأ في ضرب الآخر لحسم الأمر ولكن جاءته إجابة من صديقه الصيني بالمبدأ الصيني القائل: (إن الذي يضرب أولاً كأنه يعترف بأن أفكاره ضعيفة ولم تصمد أمام أفكار الآخر)(5).

ويعبر اختيار الإنسان أو الجماعة للحوار في التعامل مع الآخرين عن قوة وقدرة على التواصل بإيمان وثقة دون خوف من أفكار الآخرين؛ فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: »إن الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له). وعن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال: »عليك بالرفق فانه مفتاح الصواب وسجية أولي الألباب.. ارفق توفق.. لن لمن غالظك فانه يوشك أن يلين لك.. من استعمل الرفق لان له الشديد). فالتمسك بالحوار هو تعبير عن إدراك الفرد لهذه الثقافة الإنسانية التي تتوافق مع طبيعة الإنسان وغايته الوجودية، وتعبير عن قوة أفكاره ودلائله الشرعية والعقلية وقد أوصى أمير المؤمنين علي (ع) ولده الحسين(ع) قائلاً: »يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق) (6).

إن أي مجتمع أو أمة إنما يصنع كل منهما ثقافته بقصد نفع نفسه، وليس بقصد الإضرار بالآخرين؛ بمعنى أن الثقافة السليمة الراشدة إنما هي في الأساس فعل يقصد به تحقيق مصلحة حياتية وحضارية للمجتمع وليست رد فعل عدواني(7). بل إن الحوار مع الآخر يستهدف أساسا الانتفاع الذاتي معرفياً ومادياً؛ فالعدوان تجاه الآخر هو إضرار بالذات، وقطع الحوار هو حجب النور عن الواقع لرؤية الذات وفهم افكارها.

ثقافة التسلط والاستبداد..

تحتضن حالة الاستبداد السياسي الذي تعيشه الأمم والمجتمعات والجماعات استبدادا ثقافيا واجتماعيا اختمر في نفوس البشر، فتحول الى حالة تطبع أساسي في السلوك، وتعود على التمسك بالأحادية، ورفض الاستماع للرأي الآخر، وقطع الطريق أمام الحوار والتفاهم؛ ففي حالات ترسخ روح الاستبداد والتسلط يصبح الحوار منعدما، وإذا كان فعلى الأغلب يكون عقيما؛ ذلك أن الوضع ليس إلا سيطرة شمولية للرأي الواحد، متمثلاً بالسيطرة المطلقة للأحادية المنفردة. ويرى موريس ديفرجيه في كتابه (في الدكتاتورية) أنها وليدة لأزمات يتعرض لها البنيان الاجتماعي، ونموذج يعكس الوضع الاجتماعي؛ لأن الجذور والأصول العميقة هي التي أنجبته.

لقد أوجدت ثقافة التسلط شخصيات تفتقر إلى التوازن النفسي؛ فهي قد تستعلي استعلاءً كبيراً على الآخرين، إلا إذا كانوا من ذوي النفوذ والقوة، وهنا نجد خضوعاً وممارسة لأساليب الدونية(8).

ويمثل الاستبداد النقيض العملي للحوار، فمع وجوده يمتنع الحوار، لأنه يمثل اعترافا بالآخر، وبالتالي إذعاناً للتعددية والتنوع، وهذا أمر ترفضه جوهر الدكتاتورية، وفي نفس الوقت فإن قطع الطريق أمام الحوار يقود تدريجيا لتسلط الرأي المنفرد، واقصاء الرأي الآخر، وبالتالي وضع المجتمع في إطارين؛ إما التصادم بين الأفكار والاتجاهات المتعارضة والوصول للصدام المادي، أو اضمحلال الكل في فكر واحد واتجاه تسلطي منفرد؛ مما يعني انقراض الإبداع، وموت التنوع، واقصاء الاجتهاد، والتوقف التام عن الحركة الحيوية المستمرة.

ويمكن فهم العلاقة المترابطة بين غياب الحوار، وظهور الاستبداد؛ إذ إن عدم وجود الحوار يقود نحو الاستبداد، من خلال آلية وجود الآراء والأفكار الإنسانية المتنوعة؛ فثقافة الاستبداد تفترض وجود رأي واحد مطلق ينطبق مع أهدافها الأيديولوجية، أو يكرس مصالحها الفئوية الخاصة، وكذلك فان عدم التمسك بالحوار ينبع بشكل اساسي من خوف البعض من انكشاف خطل آرائه أو تعرض مصالحه للضرر؛ وفي كلتا الحالتين يقود التقديس المطلق للرأي الى موت التواصل والحوار وحتمية الصدام.

وهنا يمكن أن نرى أن البشر اعتادوا - وما زالوا - عند اندلاع المشاكل، اتهام الآخر وتنزيه الذات وهذا يحمل مجموعة من الأخطاء القاتلة؛ منها دفع آلية الكراهية إلى مداها الأقصى، وإلغاء الآخر، وفرملة جدلية الحوار ، وباعتماد آلية لوم الآخر نكون بشكل آخر قد أحيينا آلية تنزيه الذات وتقديسها بعصمتها عن الخطأ؛ فالعلاقة مرتبطة جوهريا وبشكل غير مباشر بين إدانة الآخر وتقديس الذات(9).

ولكن ما تحققه ثقافة الاستبداد هو تحطيم الوجود الفكري للإنسان، عبر قطع طرق التواصل؛ لذلك يصبح الفرد في هذه الاجواء مجرد هامش جامد على أطراف الجغرافيا، لا يفهم ولا يرى ما يحدث على حقيقته؛ فيفقد القدرة على التقييم السليم والتعرف الصحيح؛ ذلك أن أحادية الفكر والانغلاق المتسلط يمارسان عادة بصورة لاشعورية، دون محاولة التعرف العلمي الهادئ على ما يريد أن يقوله الآخر، وللأسف فإن ظاهرة الخطابات المنغلقة ظاهرة عالية التردد في تفاعل التيارات المختلفة في واقعنا الثقافي، وفي تفاعلات النخبة قبل العامة، وهي انعكاس بمعنى أدق وأوضح للملامح الرئيسية لثقافة التسلط- الاستبداد(10).

وتفرز ثقافة الاستبداد نمطا يطابق طبيعتها، وهو تحقيق مصالحها الفئوية الخاصة، ولو كان ذلك على حساب المصالح العامة، وهي بذلك تحدث انشقاقاً كبيراً في المجتمع يكرس حالة الفساد والصدام، وتحول ساحة المجتمع الى ساحة حرب بين مختلف الأفكار والاتجاهات، دون وجود لتعايش وتفاهم يضمن حالة التكافل والتعاون، وهي عقلية يسميها البعض بعقلية (الجُزُر المنعزلة) حيث لا تهتم كثيراً بخلق عمل جماعي ناجح، ولا تعبأ أساساً بالصالح العام، بل كل الاهتمامات موجهة في اتجاه صالحها الفردي(11).

تنامي العنصرية والطائفية..

التنوع والتعدد في وجود الجماعات واختلاف مشاربها وأشكالها هو سنة طبيعية جميلة في الحياة، فعبر ذلك تتحقق المنافسة الإيجابية ويحدث التطور والتقدم، ولكن أن تتمحور هذه الجماعات نحو ذاتها، وتتحول إلى طاقة هدامة ومستنفرة ضد الآخرين، فهو ضد حقيقة التنوع والتعدد؛ إذ التنوع الايجابي قائم على الاعتراف بالآخرين واحترام وجودهم.

ويؤدي انقطاع الحوار وعدمه بين الجماعات المتنوعة - دينياً وعرقياً وقومياً - إلى خلق تنافر خطير وفئوية متعصبة تتغذى في وجودها وغايتها على تدمير الآخر وإفنائه، وهذا الأمر هو سبب رئيسي في حدوث كثير من الأزمات في بلادنا بشكل خاص، وفي العالم بشكل عام، حيث يتصاعد القهر الفئوي ضد الآخر بعد أن كان وليداً لتاريخ حافل بالاضطهاد والتعصب وتدمير الآخرين، وهو الأمر الذي يزيد من الأوضاع تعقيداً في انقطاع قنوات الحوار والتفاهم.

إن تمييز فئة ضد فئة مضر بالمجتمع؛ لأن الذين يقع التمييز عليهم يكرهون على الانطواء والعزلة وعلى كبت فعاليتهم، وعلى إضمار الكراهية والحقد ضد الفئة التي تضطهدهم، وتنشب النزاعات بينهم وبين الذين ينكرون عليهم حقوقهم فتهدر فيها طاقات كان بوسع المجتمع أن يستفيد منها لو وجهت في الطريق البنّاء السوي(12).

ويتحول فقدان الحوار بين الفئات الى اضطهاد القوي منها للضعيف، وتسلطه عليه، ومحاولة محوه وتدميره، وبالتالي يقود ذلك لمزيد من نشوء الفساد والعنف والجريمة والتفكك الاجتماعي والسياسي وفي مرات كثيرة الى الحرب الأهلية، فإذا لم تستسلم الفئة المضطهدة لليأس والعجز فإنها تتبنى النظريات الهدامة، وتتذرع بها في سبيل تقويض سلطة المستبدين بها، فيصبح لدى كل فريق صورة خاطئة عن الآخر، وينكر عليه إنسانيته، وتذهب وحدة المجتمع هباء منثورا(13). ويمثل ترسيخ ثقافة الحوار الحل الأمثل لتحقيق التعايش والسلام؛ إذ يصبح التفاهم والتواصل أقدر على رفع التحفظات والأحكام المسبقة، ويمكن ذلك عبر تكييف تدريجي للعلاقات الفئوية، وتوجيهها نحو التساوي في الفرص، وعبر التحرر من المفاهيم الخاطئة لدى كل فئة عن الفئة الأخرى، والانعتاق من المخاوف والمصالح الضيقة التي تدفع الناس إلى التمييز ضد بعضهم البعض، ولا يمكن تحقيق كل هذا إلا عبر الجهود الشاقة التي تنطوي عليها عمليات التربية الاجتماعية، وتعزيز الشعور الاجتماعي الذي اضعفه انقسام المصالح وبعث الوعي بالقيم المشتركة التي تضمها الثقافة العامة(14).

ثقافة الخوف والانكفاء..

الخوف من الآخر وتجنب الحوار معه هو أحد المعضلات الكبيرة التي تواجه الأمة داخلياً وخارجياً؛ لذلك تسعى بعض الفئات باستمرار لوضع الحواجز أمام أي تقارب مع الآخر؛ خوفاً من مواجهة الآخر فكرياً، وتحصناً ضد انفتاح تابعيه على الرأي الآخر، وخشية من ضياع مصالحه، وتقوض سلطته الداخلية على جماعته؛ لذلك حرص البعض باستمرار على مخاصمة الثقافات والأفكار الأخرى، وتوجيه التهم لها بالتآمر والكفر، عبر تذرعه بأن الامكانات الاعلامية والثقافية للدول الاستعمارية كبيرة للغاية، بما يؤثر سلباً على أغلب الدول النامية، ويؤخر استقلالها الثقافي، ولكن هذا لايبرر الموقف السلبي الذي يتبناه البعض؛ إذ يدعو إلى مخاصمة كل الثقافات المعاصرة ويحرض على الاستهانة بها(15). ويبرر هذا المنطق بانزلاق الكثير نحو الصدامات العنيفة، ونشوء جماعات العنف والتشدد التي تنفي حالات الحوار والتفاهم الطبيعية وتحل بدلا عنها حالات التكفير والإرهاب ضد الآخر الداخلي والخارجي إذ الآخر في جميع الحالات يصبح في صف واحد معاد. ولكن مشكلة الخوف من الحوار مع الآخر والانفتاح عليه أكبر وأعمق من تقويض السلطة، وضياع المصالح؛ إذ هي ثقافة عامة تحكم الفكر الاجتماعي بشكل عام، وتعتبر أن الفكر الآخر يضر بعقائد الناس، ويؤدي إلى انحرافهم، وبالتالي لابد من عزل الناس عن التواصل مع الفكر الآخر، خوفاً من تزعزع عقيدته، ولكن هناك من يرى عكس ذلك، ويعتبر أن هذا الإسلام لا خوف عليه، وإذا كان الإسلام سوف يختفي بمجرد السماح للأفكار الأخرى بالتعبير عن نفسها، فلن يجدي هذا الدفاع الهزيل عنه، ثم إننا لم نستوعب التاريخ حقا حتى الآن حيث إن الإسلام ساد وانتشر بدون دوله السياسية(16).

وينظر جودت سعيد الى هذا الجانب، بأن قوة الأفكار لا يؤثر عليها الحوار مع الآخر بقوله: ينبغي أن لا يكون موت الأفكار وحياتها بالقتل؛ لأن تغير الأفكار ممكن بالعلم، وأن نعرف قانون الأفكار (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، ومقتضى العدل أن تعطى الأفكار جميعا فرص الحياة والسماع، ليتخلى الناس عن الأفكار الخاطئة طوعاً لا كرهاً، ينبغي أن نزيل الخوف من الأفكار الخاطئة، والخوف هو بسبب وهم الناس بأن الحق ضعيف والباطل قوي، وهو ظن سيئ بالحق وبالباطل أيضاً؛ إذ ليس الباطل قويا وليس الحق ضعيفاً، وإذا علم الناس الحق ووصل إليهم، فلن يبقى أكثر الناس مع الباطل بل مع الحق.

فالحوار مع الآخر والإقدام عليه يعبر عن قوة الايمان الذي يتحلى به المسلم وثقته بدينه ونفسه، خاصة إذا علمنا أن الاسلام ساد وانتشر في العالم بقوة الحوار والجدال بالتي هي أحسن مع الآخر، فالانسان يميل بفطرته نحو الحق والجمال، ويحب العدل والحرية والاخلاق الحميدة، وهذا مايبشر به الإسلام؛ فلابد من تجاوز عقدة الخوف التي حولت مجتمعاتنا وابناءنا إلى خنادق متصلدة ضد الفكر الآخر، حتى أصبح البعض مصداقا للآية القرآنية:(قال رب إني دعوت قومي ليلا نهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) (نوح:5-7)، والتحرر من الخوف هو الطريق لقوة العقل وقدرته على مواجهة الآخر بإيجابية واقناع، فالعقل يتحرر تماماً عندما يتجاوز عتبة الخوف من البحث، إذ إن الأمان للعقل هو في البحث، لأنه يتأسس على أرض صلدة، أما الانعكاس على الطرف الآخر للعلاقة المشؤومة فهو النزاع والانفعال في البحث وفقد ضبط النفس والحزبية والأسلوب التبريري لدعم الأفكار؛ فهذا الجو يعتبر غير منتج لأنه دفاع عن الآراء بأي ثمن وليس أسلوباً لتنمية الأفكار أو تبين وجه الصواب فيها(17).

إن عدم وجود الحوار مع الآخر بكافة أنواعه يزيد الفرد والمجتمع ضعفاً، ويصبح كالمريض الذي يفقد مناعته، فيصبح ضعيفاً نتيجة لعدم مواجهة مختلف الظروف الحياتية؛ فيكون واهنا أمام الهجمات القادمة عليه، أما الحوار فانه يزيده قوة وثقة ومعرفة وعلما ووعيا اعمق بالآخر ونقاط ضعفه وقوته، وبالتالي الاستفادة من تجارب الآخر، واستخراج الرؤى الايجابية منها؛ لذلك فإن أفكار الخائفين حول الغزو الفكري والاستيراد الثقافي، لا تقوم لها قائمة، حيث أن أي تبادل ثقافي في عصرنا الراهن إنما هو من الأمور الطبيعية، كما إن تعرض أي مجتمع معاصر لتيارات ثقافية غريبة أصبح في حكم الظواهر الكونية المتوفرة شروط حدوثها باستمرار، والفيصل بين التفاعل الثقافي وبين الغزو الثقافي، إنما هو في وجود إرادة الاختيار الثقافي؛ فإذا توفرت إرادة الاختيار الثقافي هذه لدى مثقفي أي مجتمع، فإنهم يصبحون قادرين على التعامل بل التفاعل مع كل الثقافات(18).

الإصلاح والتجديد واستراتيجية الحوار..

في طريق الإصلاح والتجديد فان الحوار لا يمثل وسيلة للتفاهم مع الآخرين فقط بل يمكن أن يعد استراتيجية أساسية نعتمد عليها لتحقيق هذه النهضة؛ إذ إن جوهر الحركة التقدمية يستند على الفعل الإنساني المعنوي، والتفاعل مع الآخر، والتثاقف بين المتنوع والمتعدد، لتحقيق النتاج التطوري للقاح الأفكار؛ لهذا فإن الحوار يصبح في هذه الحالة مصدراً سببياً للإصلاح والتجديد. فعن طريقه يتحول إلى الاتجاه الصحيح، وبسببه تستجمع الطاقات قواها التنافسية، لمزيد من التفوق والابداع.

ويمكن رؤية استراتيجية الإصلاح من خلال مجموعة زوايا هيكلية تشكل بعداً مستقبلياً متبصراً لاستشراف المستقبل من خلال تجارب الماضي؛ إذ إن القيم الأساسية التي قامت عليها رسالات الأنبياء والمصلحين تصبح أكثر تعمقاً وتوسعاً في الإدراك والمعرفة، كلما تقدم الزمن وازدحم الاتصال الانساني وزاد الاحتكاك الانساني.

أولاً: إن الحوار يمثل استراتيجية قامت عليها الرسالات الالهية في جدلها المستمر مع الآخرين؛ فالحوار هو رمز قوتها من أجل إقناع الآخرين، وبذلك فان قوة منطقها كان أساس نجاحها في الحوار، واستقطاب المؤمنين؛ فأصبحت خالدة بخلود أفكارها التي ترسخت في الأذهان والقلوب. والقرآن الكريم هو نموذج حي دائم لحوار مستمر مع الآخر تارة بأسلوب المحاججة، وأخرى بالجدل الحكيم، ومرة عبر الايحاء الرمزي للقصة المعبرة؛ فكان الحوار في القرآن رمز إقناع الآخرين من مختلف التوجهات، بقوة منطقه وسلامة أفكاره وحيوية قيمه.

ثانياً: إن الحوار يمثل محورا استراتيجياً، لان الحياة في الكون فطرت على التنوع والتعدد والاختلاف، فأصبح هذا التنوع الطبيعي في الطبيعة، والكون بشكل عام، وفي الانسان بشكل خاص، رمزاً لإعجاز الباري تعالى ووحدانيته؛ وهذا التنوع الفريد يحتم ويفرض استراتيجية الحوار لتحقيق الانسجام، وبلورة النظام البشري القائم على التعقل، وإيجاد عدالة الحقوق والمصالح.

ثالثاً: ولأن الحياة قائمة على التثاقف والتفاعل المعرفي المتواصل المتطور والمتجدد الى ما لا نهاية، كان الحوار استراتيجية محتمة لتحقيق المزيد المستمر من النمو والرشد المعرفي والمعلوماتي؛ وصولاً إلى التفوق العلمي والحضاري، لبناء إنسان اكثر تكاملية ونضجاً أخلاقياً وثقافياً.

رابعاً: تصبح حالة الحوار استراتيجية حضارية، عندما تتوقف حالة السلام والتعايش العالمي على التحقق المستمر للتعارف الانساني والثقافي بين الحضارات والأفكار؛ وصولاً إلى غايات تكاملية نبيلة طرحتها الآية القرآنية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)(الحجرات:13).

الهـــوامـــش:

(1) الراغب الاصفهاني، مفردات الفاظ القرآن الكريم، مادة صلح.

(2) د. حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، ص52،عالم المعرفة 190.

(3) د.خالص جلبي، سيكولوجية العنف، ص61، دار الفكر.

(4) المصدر السابق، ص61.

(5) مقدمة في علم التفاوض، ص204، مصدر سابق.

(6) العنف وحركة التغيير، مجلة النبأ: العددان 21-22، 23- 24.

(7) د.محمد رضا محرم، تحديث العقل السياسي الاسلامي،ص116،دار الفكر للدراسات والنشر.

(8) مقدمة في علم التفاوض،ص167، مصدر سابق.

(9) سيكولوجية العنف، ص202، مصدر سابق.

(10) مقدمة في علم التفاوض، ص180، مصدر سابق.

(11) نفس المصدر، ص267.

(12) روبرت.م.ماكيفر،ترجمة حسن صعب،تكوين الدولة،ص507،دار العلم للملايين.

(13) المصدر السابق.

(14) المصدر السابق.

(15) تحديث العقل السياسي الاسلامي،ص121، مصدر سابق.

(16) سيكولوجية العنف،ص56، مصدر سابق.

(17) المصدر السابق، ص99.

(18) تحديث العقل السياسي الاسلامي،ص120، مصدر سابق.