1
 

أزمـــة الإنســـان الحـــديـــث

تأليف : تشارلز فرنكل 

عرض :محتبى العلوي

تعد عملية كتابة تاريخ للحضارة عمل تشوبه الصعوبة بمكان، خاصة وأن هذه العملية تقتضي تنظيم معطيات شديدة التنوع والاختلاف ومع هذا التنوع، فإننا نعتبر اليوم هذا التاريخ أساسياً لمن يريد أن يفهم فحوى هذا التاريخ ويرسم آفاقاً يتوصل من خلالها إلى تصور قريب من الحقيقة لما يمثله التاريخ بأجمعه.. على هذا الأساس وحده يمكن أن ننمي فلسفة التاريخ.

في هذه الفلسفة برزت إشكالية نوقشت على نطاق واسع وهي: هل يستطيع المؤرخ، كونه مؤرخاً، أن يذهب إلى ما وراء البحث عن الوقائع ووصفها بإخضاعها لحكمه وبتفسيرها انطلاقاً من جملة تصوراته عن فحوى الحياة ومعناها؟

كثير من المؤرخين قد حاولوا إيجاد فائدة يستفيدون منها، ذرائعياً على الأقل لتفسير اكتشافاتهم، حتى أن البعض قد اعتبر هذه الاستفادة - وإن تكن عرضية - كانت الباعث الرئيسي لدراساتهم في مجال التاريخ.

عملياً؛ ومن وجهة نظر أخلاقية أكثر منها فكرية أو جمالية، نتساءل إن كان يجدر بنا أن نلجأ إلى مثل هذه الأحكام؟.

من الناحية الأخلاقية نشأت على هذا الصعيد غالبية الآراء المتباعدة، وهكذا يصف (لورد بولينغبروك) التاريخ كأنه (الفلسفة التي تعلّم بالقدوة) ويؤكد على أن هذه الفلسفة تقودنا إلى معرفة (بعض المبادئ العامة وكذلك بعض قواعد الحياة والسلوك التي يجب أن تكون على الدوام صحيحة ما دامت مطابقة لطبيعة الأشياء التي لا تتغير) فالمؤرخ في هذه الحالة (يصوغ مذهباً عاماً، أخلاقياً وسياسياً على أسس أشد ثقة مختبراً إياها، ومؤيداً لصحتها بواسطة التجربة الشاملة).. .

والتاريخ إذا ما نظر إليه من هذه الناحية، يتحلى بمعنى منفرد بالنسبة للأخلاق..

وقد دافع (جوزيف برايستلي) عن دراسة التاريخ لأنها كانت (تعزز الفضيلة)، إذ إن (الرذيلة في التاريخ لا تظهر أبداً موضوعاً للإغراء) فإن التاريخ (يجعلنا قادرين على تكوين فكرة صحيحة عن كرامة الطبيعة الإنسانية وعن ضعفها)..

كما إن (لورد أكتون) قد لفت الانتباه بقوة إلى المضامين الأخلاقية في التاريخ، فكان يدّعي، وقد طبق القانون الأخلاقي بأحكام لا عوج فيه، انه اكتشف (سر السلطة والكرامة والنفعية في التاريخ).. وكان يؤكد على أن جوهر التاريخ في صورة ما، يضرب بجذوره في الكفاح من أجل الحرية الأخلاقية، ويلاحظ أنه يمكننا أن نجعل من تاريخ للحرية (الدليل الذي يقودنا في كل التاريخ) بالعمل على إبراز (حركة هذه القوى الأخلاقية من خلال جميع الحوادث وفي جميع العصور) مبدعة هنا، مدمرة هناك، عاملة على التغيير على الدوام، هذه القوى التي نظمت المؤسسات الإنسانية ثم أعادت تنظيمها وأعطت الفكر البشري أشكاله في الطاقة في تغير لا ينقطع)..

إن الاهتمام الحالي بفلسفة التاريخ لا يشكل من هذه الوجهة اختلافاً عن ذلك الاهتمام الذي واجهته - فلسفة التاريخ - أول مرة لما اتخذت لها اسماً خاصاً يميزها عن غيرها من المواضيع..

وفلسفة التاريخ هي تفكير حول معنى التاريخ وهدفها اكتشاف القوانين العامة التي تحكم الصيرورة الإنسانية.. ويجب عدم الخلط بين فلسفة التاريخ من جهة والتفكير المنطقي الذي نطبقه على التاريخ كعلم يدرس تعاقب الأحداث والنشاطات في الماضي من جهة أخرى..

فالفلسفة الحقيقية للتاريخ ليست ميتافيزيقيا للمصير الإنساني وتفسير لتعاقب الأحداث بالاستناد إلى نظرة معينة للعالم وفكرة محددة عن الإنسان. وهذا يفترض وجود عدة مفاهيم مختلفة للصيرورة التاريخية تسعى إلى معرفة ما إذا كانت هذه الصيرورة تخضع لقانون أم أنها محكومة بالفوضى وهل بالإمكان استخلاص نظام عام يحكمها وما هو معناه؟ وهذا يتطلب منا القيام باستعراض لمختلف التفسيرات الخاصة بهذه الصيرورة..

1) عرضية الصيرورة ودور الصدفة: هذا الاتجاه يفهم الصيرورة التاريخية على أنها تتابع غير متماسك للحوادث المعزولة بعضها عن بعض، وأن اللحظات تتلاشى تدريجياً مع تدافع الزمن..

ويركز بعض المؤرخين على دور الصدفة ونتائجها في إثارة الأحداث وتوجيهها، ويعطيها أهمية كبيرة، وبعضهم يركز على الجانب غير المرئي في شخصية الرجال العظام في التاريخ ودوره في صنع الأحداث وتحديد مصير البشر.

2) حتمية المصير الإنساني وقدريته: يستبدل هذا الاتجاه ما هو عرضي، بما هو ضروري، فالصيرورة البشرية تخضع لقوانين محددة وتستبعد الصدفة..

3) غائية الصيرورة الإنسانية ونظريات التقدم: يرى هذا الاتجاه أنه بدل فهم الصيرورة على أساس خضوعها لسبب معين يتوجب علينا أن نفهمها على أساس توجهها نحو غاية محددة.

4) منطق الصيرورة التاريخية وجدليتها: النظام الذي يتحكم بالصيرورة التاريخية يمكن له أن يفهم على أنه نظام منطقي.. وهذا المفهوم للتاريخ هو المفهوم الجدلي الذي نادى به (هيغل).

5) نظرية الدورات المتعاقبة: وهي نظرية قديمة.. وتقول بالمفهوم الدوري للتاريخ والصيرورة التاريخية.

وقد عرفها الأقدمون باسم نظرية (العود الأبدي) وتعتبر هذه النظرية أنه بعد مرور عدة آلاف من السنين على التاريخ البشري يعود التاريخ من جديد إلى نقطة البداية في حركة دائرية.

6) نظرية التقلبات: صاحب هذه النظرية هو (سوروكن) عالم الاجتماع الأميركي. وقد ظهرت في كتابه (الدينامية الاجتماعية والثقافية).. وهو يحتوي على دراسة عن التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية للحضارة الغربية منذ عصر اليونان وحتى الوقت الحاضر.. ويستخلص منها النتيجة التالية: إن هذه التحولات لا تعبر عن تقدم إلى أمام ولا عن تطور دوري وإنما هي عبارة عن تقلبات مستمرة فقط.

ويعتبر (فولتير) - ظاهراً - أول من استعمل اصطلاح (فلسفة التاريخ).. فقد أراد أن يبدو مفهومه لتاريخ الإنسان يحمل تمايزاً عن المفهوم الذي بينه الأسقف (بسوت) في كتابه (حديث في التاريخ العام) الذي كان منذ القرن السابع عشر هو التفسير اللاهوتي السائد لطبيعة التاريخ الإنساني ومعناه.. وقد نقد فولتير هذا الكتاب على أساس أن هذا التاريخ لا يمثل سوى جزءاً صغيراً من الجنس البشري، يعيش في زاوية من شبه الجزيرة الأوربية التي هي امتداد للبر الآسيوي الكبير.. واعتبره فوق ذلك تفسيراً لتاريخ البشرية كلها مدوناً من وجهة نظر دينية خاصة تمثل وحياً خص به هذا الجزء الصغير من البشر، ولا يتمكن من فهمه إلا أولئك الذين يشتركون في هذه النظرة.. واقترح فولتير بدلاً من هذا التفسير المذهبي، نظرة فلسفية للتاريخ، أساسها المبادئ العقلية العامة، ويمكن تطبيقها تطبيقاً متساوياً على المدنيات جميعها، الشرقي منها والغربي.. وتعني فلسفة التاريخ هذه النظرة إلى التاريخ دون إقليمية، واعتبار جميع الناس وكل المجتمعات خاضعة لقوانين ثابتة، مستجيبة لمشاعر عامة واحدة، تقلقها كلها مشاكل واحدة، وتبحث جميعها بمختلف الطرق عن هدف واحد، كما تعني فهم هذا كله دون أي عون من وحي مذهبي أو وساطة من رجال الدين..

كانت فلسفة فولتير التاريخية رد فعل لأول صدمة كبيرة نشأت عن تأثر العقل الأوربي بالعلم الحديث واتساع الاتصال مع بقية أنحاء العالم.. والاهتمام الحالي بفلسفات التاريخ - إضافة إلى تلك الأسباب - يعتبر بعضه استجابة للصدمة الكبيرة الثانية التي أصابت العقل الغربي عندما ارتقت بقية العالم فوقفت على قدم المساواة مع الغرب..

وكتاب (أزمة الإنسان الحديث) جاء دفاعاً عن ثورة التجدد، إنه محاولة لإظهار أن نبوءات المتشائمين ليس لها ما يبررها. وإن الآمال التي جاءت مع مطلع الفترة الحديثة لا تزال هي الآمال التي نتأثر بها في سيرنا.. والغاية التي يرمي هذا الكتاب إليها مزدوجة.. فالغرض الأول هو التعرف إلى المدى الذي لا يزال باستطاعة الإنسان الرشيد أن يصل إليه في إيمانه بتاريخ البشرية ومصيرها، وإلى الآراء التي لا يزال باستطاعته أن يستخدمها بتعقل، وأي آمال يسمح لنفسه بتبنيها في تفكيره السياسي ومساهمته في القضايا العامة..

والغرض الثاني هو أن يشق طريقا تؤدي إلى فلسفة اجتماعية تعالج شؤون المجتمع الواقعية، لوضع صورة لمجتمع أفضل وتخطيط يؤدي إلى تحقيق ذلك التحسن، بحيث يمكن أن يرتاح إليها خيال الرجال الليبراليين..

ترى ما هو السبب في هذه الأزمة التي جعلها المؤلف عنواناً لكتابه؟.

السبب هو هذه النظرة إلى التاريخ ومعها هذه الآراء، التي يقول عنها المؤلف أنها العلّة الرئيسية للحالة التي نعانيها الآن، وأنها المسؤولة عن الفشل الذريع الذي نكب به الإنسان الحديث، بل عن الذعر الحالي الذي تعانيه الليبرالية..

والليبرالية؛ مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي.. ففي الميدان السياسي وعلى نطاق الفرد يؤكد هذا المذهب، على القبول بأفكار الغير وأفعاله حتى ولو كانت متعارضة مع أفكار المذهب، وأفعاله شرط المعاملة بالمثل.. وعلى النطاق الجماعي فإن الليبرالية هي النظام السياسي المبني على التعددية الأيديولوجية والتنظيمية الحزبية والنقابية التي لا يضمنها حسب ذلك المذهب، سوى النظام البرلماني الديمقراطي الذي يفصل فعلياً بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويؤمّن الحريات الشخصية والعامة بما في ذلك حرية المعتقد الديني..

والواقع أن الليبرالية اكتسبت مفاهيم مختلفة مع مرور الزمن.. فعلى الرغم من تشديد الليبراليين الرأسماليين على أهمية الحرية فإنهم في الغالب يتصرفون ضد حريات الأفراد والشعوب في علاقاتهم الدولية لارتباط الظاهرة الرأسمالية بالامبريالية وما يتضمن ذلك من استغلال واستعباد للشعوب.

كما أن الليبرالية تهمل مصلحة الجماعة تحت شعار اهتمامها بمصالح الأفراد.. إلا أن ذلك كله لا ينفي وجود اتجاهات ديمقراطية ضمن تيار الليبرالي وميل البعض منهم نحو الإصلاح التدريجي..

أما في الميدان الاقتصادي، فإن الليبرالية تأخذ منبعها من المدرسة الطبيعية التي تؤكد على أنه يوجد على النطاق الاقتصادي نظام طبيعي يتحقق بواسطة مبادرات الفرد (الإنسان الاقتصادي) الذي ينحو بشكل طبيعي نحو تلبية أقصى ما يمكن من الحاجات بأقل ما يمكن من الأتعاب..

وفي مفهوم الليبراليين فإن مصالح الأفراد تتطابق تماماً مع مصلحة المجتمع، لأن القوانين الاقتصادية الطبيعية - في نظرها - تؤدي إلى إحداث التوازن بين الأسعار والإنتاج والمداخيل، وبالتالي فتحقيق الحرية الاقتصادية يؤدي إلى تحقيق النظام الطبيعي الذي أراده الله للبشرية..

كما تؤكد الليبرالية الاقتصادية أيضاً على أن عدم المساواة الاجتماعية هي أمر طبيعي بل ضروري وحتمي وأن البطالة ليست إلا مرضاً عابراً يختفي عندما يتحقق الانسجام النهائي في المجتمع..

والليبرالية الاقتصادية التي تقرن دوماً بالليبرالية السياسية، ولدت في القرن الثامن عشر حيث نادى بها بشكل خاص كل من (آدم سميث) و(مالثوس) و(ريكاردو).. ثم ازدهرت في القرن التاسع عشر على أيدي نخبة من الاقتصاديين مثل (جون ستيورات ميل) و(جان باتيست ساي) وذلك إثر نجاح وازدهار الثورة الصناعية.. ففي ذلك القرن أصبحت الليبرالية العقيدة الرسمية للدول التي دخلت بوتقة التطور الصناعي.. وتحددت آنذاك النقاط الأساسية لذلك المذهب الاقتصادي بالتأكيد على حرية المنشآت وحرية الاستثمارات وبان التقاء العرض بالطلب في السوق هو الذي يحدد السعر وهو ما يعرف بقانون العرض والطلب الذي يؤدي تعطيله في نظر المدرسة الليبرالية، إلى إحداث أزمات خطيرة، ويمنع إقامة المجتمع الطبيعي المتناسق..

هذا الكتاب إذن؛ كتاب في فلسفة التاريخ.. إنه يتناول النظريات التي يجب الأخذ بها عن الطبيعة البشرية، وعن التنظيم الاجتماعي، والمثل التي من الجائز ومن الممكن البحث عنها، والتخطيط الاجتماعي الذي يتوجب علينا استخدامه في محاولتنا لمعالجة معضلاتنا الحالية..

وثمة ناحية أخرى.. هي أن فلسفة التاريخ، وهي بسبيل تقصي القيم الخالدة، تعرض العديد من القرائن لوزن القضايا الحالية والحلول المؤقتة في نطاق أوسع.. إنها تتيح لنا الفرصة لنقيم، معتمدين، ضمانات تحول دون ضياع القيم الأساسية في غمرة معالجتنا أموراً طارئة، وبذلك نتجنب تعقيد القضايا الأخرى أثناء انشغالنا بقضية واحدة، فمهما بلغت هذه القضية من الإلحاح..

تستطيع فلسفة التاريخ أن تنهج نهجين معاً: نهجاً يزيد الخيال الاجتماعي شعوراً بالمسؤولية إذ يربطه بالرواسي، ونهجاً يزيد هذا الخيال حرية ومرونة إذ يوسع أمامه جمال إدراك الإمكانات البشرية..

إنها نظرية لتفسير كيفية حدوث الأشياء في التاريخ، وما يمكن للناس أن يصنعوا من تاريخهم، فهي إذن تخطيط ضمني للعمل الاجتماعي، ويمكن أن تكون الطليعة الواعية لوضع برنامج اجتماعي متماسك..

الليبرالية وتصــور النكبـــة 

المسؤولية في أكثر ما نعاني اليوم من متاعب تقع على فلسفة للتاريخ، على ما يرى فلاسفة التاريخ أنفسهم. إذ يقال أنه في مدة تتراوح بين مائتين وستمائة من السنين، كان المجتمع الغربي يثقله مفهوم مخطئ خطأ أصيلاً لطبيعة التاريخ البشري وإمكاناته. فقد كان يجهد جهداً يثير الشفقة في سبيل تفهم الحوادث بحدود من المنطق لا تلائمها، بل إنها حقاً لا يمكن أن تلائم أي عالم قد يعيش فيه الإنسان، وكان يحاول محاولة عمياء أن يحقق مثلاً لا يستطيع أي إنسان تحقيقها، أو لو تحققت لفقدت قيمتا.. وقد اتضح لنا الفراغ والأذى اللذان انطوت عليهما هذه النظرة للتاريخ في الفاشية والشيوعية، وفي آمال الإنسان الحديث المحطمة، وفي الظلام والرعب اللذين يخيمان على زمننا..

إن الثورة الفكرية التي تنمو الآن تدريجياً، إنما أصلها ومحورها الاقتناع بأن طريقة مواجهة الليبرالية للقضايا الإنسانية لا تنطوي على شيء، وبأنها، وهي المسؤولة عن القسم الأكبر من متاعبنا، قد أخذت تحتضر.. وتكاد هذه الفكرة تكون المنهاج الذي تدور حوله أكثر فلسفات التاريخ الحديثة، ونقطة انطلاق هذه الفلسفات هي ناحية الضعف في النظرة الليبرالية للتاريخ. والهدف المشترك الذي ترمي إليه هو إبدال هذه النظرة. كما أن رسالتنا تتبلور في القول أننا لا نستطيع السير قدماً في سبيل حل مشاكلنا الحالية إلا إذا تخلصنا من فلسفة التاريخ الليبرالية وأقمنا مكانها فلسفة خيراً منها..

من الجلي أن الإيمان بمجتمع مكون من فئات متنوعة تناضل في سبيل النفوذ، يفرض أيضاً وجود بعض مصالح مشتركة فيما بينها، وبعض الاتجاهات تؤثر بالمفاوضة والتسامح المتبادل وحل الخلافات الاجتماعية دون تحيز حزبي. وتتميز الليبرالية، بين جميع الحركات الاجتماعية التي ظهرت على مسرح التاريخ البشري، بأنها ترى أنه من الممكن النظر إلى القضايا الإنسانية نظرة قريبة من الموضوعية، وأن هذه النظرة الموضوعية هي الأداة الرئيسية للاحتفاظ بالمجتمع مرناً ومتماسكاً في آن واحد.. وقد كان صنع الأدوات الفكرية اللازمة لتكوين الفهم الموضوعي ونشره شغلاً شاغلاً للمفكر الليبرالي الحديث..

قلق الاعتقاد:

ثمة أربعة افتراضات أساسية يقوم عليها المفهوم الليبرالي للتاريخ:

الأول: الاعتقاد بأن التقدم البشري يمكن أن يقاس بمقاييس علمانية وأن المقاييس الخلقية العلمانية التي لا تتجاوز مجال المصلحة البشرية الزمنية، تكفي لتفسير تاريخ البشر وتنظيم شؤونهم.. والثاني هو مذهب إمكان تحقيق الكمال البشري تحقيقاً غير محدود.. والثالث الاعتقاد بأن القول بوجود الحقيقة الموضوعية في دراسة التاريخ والمجتمع البشري قول مليء بالمعاني.. وأن الذكاء وحسن النية يمكن أن يرقيا إلى مستوى من الحياة لا يحد منه الشذوذ الشخصي أو المركز الاجتماعي أو الوضع التاريخي.. وأخيراً ثمة اعتقاد بان المجتمع يمكن أن يعالج في حدود أجزائه، وليس من الضروري أن يفهم أو يعاد تكوينه كلاً واحداً أو دفعة واحدة.. وهذا هو الاعتقاد بأن التقدم الاجتماعي يمكن أن يتم بواسطة وسائل تشريعية أو قضائية أو إدارية تنظم قصداً من أجل ذلك، وعن طريق إعادة بناء النظم البشرية قسماً قسماً لا عن طريق الاهتداء الروحي أو الدعوة الخلقية لتطهير القلوب أو تدخل القوى الخارجية الفجائي.. وقد قامت على إنكار كل هذه الافتراضات فلسفة للتاريخ كانت هي السبب الرئيسي لأزمة الإنسان الحديث..

كتب (تسترتون): (نحن اليوم مصابون بتواضع في غير محله.. كان مفهوم التواضع في أن يشك المرء في نفسه إلا أن تساوره ريبة في الحقيقة.. أما الآن فقد انقلب الأمر إلى عكسه تماماً.. فالتواضع قديماً حمل الإنسان على أن يرتاب في جهوده الأمر الذي قد يدفعه إلى أن يعمل بجهد أكبر. لكن التواضع اليوم يجعل المرء يشك بأهدافه، فيحمله إلى وقف العمل بالمرة)..

وقد رفع هذا التشخيص إلى مستوى نظرية مدروسة للتاريخ الحديث، أساسها أن تاريخ المجتمع الحديث إنما هو قصة نمو حتمي لمرض خبيث هو نكران الحقائق الأبدية.. ففي الثقافة الحديثة كل شيء نسبي وليس ثمة شيء مطلق. فليس لنا مبادئ أولية ولا قيم نهائية ولا عقائد راسخة لا فكاك منها ولا إيمان بوجود معنى غائي للحياة.. وعندما تُعرض لنا أي قضية خلقية فليس لنا آخر الأمر إلا أن نهز أكتافنا ونقبل بأفضلية أمر على الآخر، فإما حرية أو تساهل إذا حدث أن كنا نشعر بذلك، وأما طغيان واضطهاد للأقليات إذا حدث أن جاء شعورنا مخالفاً لذلك.. وقد ترتب على هذا أن خلت بيوتنا من النظام ومدارسنا من الغايات الواضحة وصارت سياستنا الخارجية مائعة ضعيف.. وثمة تشكك واستخفاف في مقاييسنا الخلقية الشخصية، وانتهازية في سياستنا، وإحساس عام بالانسياق وانعدام الغاية في حياتنا اليومية.. وشر ما في الأمر أننا استسلمنا لهذه الحالة من الشك الذي يسير بنا قفزاً، واعتبرناها قضية مبدأ.. ذلك لأننا نعيش تحت سحر فلسفة تعتبر احتقار السلطة - أي سلطة - فضيلة وتملأ نفوسنا جميعاً بالرعب من الأخذ بأي عقيدة..

هذا الرأي تكونت منه فلسفات عميقة الأثر في التربية والقانون والسياسة.. ولعل الفيلسوف الفرنسي (جاك ماريتان) أبلغ من عبر عن هذا الاتجاه..

كيف نظر ماريتان إلى التاريخ؟

تبدأ نظريته من نقطة بديهية، وهي أن كل مجتمع بشري إنما هو بناء قائم على (السلطة) أي أنها تحتوي على تنظيم لتسلسل السلطة.. فبعض الناس يأمرون والآخرون يطيعون، أو إذا كان المجتمع متساويا كل التساوي فلا بد أن يكون ثمة قوانين عامة ينتظر من كل واحد أن يخضع لها.. على أن الخضوع لهذه القوانين، يمكن أن تكون له أسباب مختلفة.. فقد يفرض بالإكراه كما يمكن أن يكون بالرضا. وقد يكون المجتمع خاضعاً لحكم طاغية كما يمكن أن يقوم على رضا أفراده طوعاً واختياراً.. فإذا كان المجتمع من هذا النوع الأخير، فإنه لابد للذين يخضعون من الاعتقاد أنهم إنما يفعلون ذلك من أجل غاية نبيلة.. ولذلك لابد أن يكون لهم قيم ولابد أن يؤمنوا بهذه القيم..

من هنا؛ تبرز فلسفة ماريتان بخطوطها الرئيسية.. فهو يرى أنه إذا كان لابد للناس أن يؤمنوا بالقيم فإنه لابد لهم أن يقتنعوا بأن هذا ليس مجرد مصلحتهم الفردية أو الأنماط المؤقتة التي تسود مجتمعهم.. بل يجب عليهم أن يقتنعوا بأن القيم التي تبرر ممارسة هذه السلطة الاجتماعية وخضوعهم لها تستند إلى شيء خارج عنهم هم - شيء أبدي وغير متغير - وهذا يجب أن يكون شيئاً أسمى من إرادتهم ومن مشيئة حاكمهم، شيئاً يعرفونه بمجرد الاكتشاف لا يختارونه اختياراً لأنفسهم..

ثم يؤكد ماريتان القول بأن الناس، في كل ثقافة سليمة، يجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام شيء هو أبعد من الحياة البشرية، وهو يتجاوز مسرح الإنسانية. فالثقافة السليمة تحتاج إلى فلسفة تؤكد وجود حقائق مطلقة ثابتة أي حقائق غير مرتبطة بحقبة تاريخية معينة بل تنطبق عليها جميعاً بشكل عام..

وماريتان مقتنع بأن هذا، على وجه الدقة، هو ما تنسبه الثقافة الحديثة. وقد نسبته لأنها كانت مأخوذة بسحر فلسفة للتاريخ تنكر وجود أي حقائق خالدة.. والثقافة التي تفهم التاريخ على هذا النحو إنما تقرر أنها مبنية على العمل، أي أنه ليس للأمور التي يرتبط بها الناس - من المبادئ الخلقية أو النظم السياسية أو القضايا أو العقائد - أي أساس وطيد يستند إليه..

وباختصار فإنها تأخذ بفلسفة للتاريخ لا يطاق العيش معها، بل إنها تنحر الاعتقادات التي تجعل الاحتشام البشري، بل حتى النظام الاجتماعي البسيط، أمراً ممكناً.. وهذا ما فعلته الثقافة الليبرالية الحديثة.. وما التيار المنحدر الذي تنساق إليه المدنية الحديثة إلا ظلاً متطاولاً لفلسفة التاريخ الليبرالية..

الاكتشاف الثاني للخطيئة:

بدأت مغامرة الليبرالية الحديثة بحلمها بإمكان تحقيق الكمال البشري، لكنها انتهت، بمشهد من الإثم البشري الذي رفع إلى مستوى جديد من التدليس والفعالية.. وهذا الختام المخيف قد أثبت أن الليبرالية أخطأت في أمر على جانب كبير من الأهمية، وهو أن أي فلسفة اجتماعية لا يجانبها الصواب إلا إذا نظرت إلى الطبيعة البشرية نفسها..

وثمة ما يذكرنا بأنه متى وجد الشر في العالم، فإنه ليس مجرد نتيجة للنظم الاجتماعية أو الجهل البشري.. إنه يصدر عن شيء أعمق، هو انحراف في النفس البشرية ذاتها.. فعندما يخطئ الفكر البشري، لا يكون ذلك ناتجاً عن مجرد احتمال وقوع البشر في الزلل، بل عن أنانية الإنسان وكبريائه، وعندما يوجد ظلم أو قسوة في المجتمع، فإن ذلك يعكس ضغينة في روح الإنسان..

وبسبب ذلك فإن الليبراليين وذوي النوايا الحسنة عجزوا عن فهم الحقائق القاسية للحياة في هذا القرن أو عن الصمود لها.. والحكمة التي قالها (إرميا): (تباً لإنسان يؤمن بالإنسان) قد برزت على أنها محك جديد للواقعية السياسية..

هل باستطاعة التاريخ أن يكشف الحقيقة:

يرجع الفضل في وضع علم اجتماع المعرفة وضعاً مفصلاً مميزاً تمييزاً لا هوادة فيه إلى العالم الاجتماعي (كارل مانهيم)..

أعاد مانهيم بناء النظرة الفكرية إلى الإنسان الحديث وتزويده بمفاهيم جذرية ينظر بها إلى تاريخه..

كانت فلسفته محاولة لتحضير برنامج للمجتمع الحديث يمكن من انصراف الذكاء المنظم لمعالجة الشؤون الاجتماعية، الأمر الذي طالما حلم به الليبراليون منذ القدم.. لكن مانهيم كان مقتنعاً بأن هذه الفكرة الليبرالية لا يمكن تحقيقها إلا بتعديل فلسفة التاريخ الليبرالية في إحدى نقاطها الرئيسية..

ويتساءل مانهيم لماذا انتهى المثل الأعلى الليبرالي في محاولته لتطبيق الذكاء المنظم على الشؤون الاجتماعية إلى هذا الفشل؟ ويجيب بأن ذلك يرجع إلى أن الليبرالية جردت العقل من الطبيعة وأقصته عن الدوافع الحيوية للنفس البشرية وعن أوضاع الإنسان الاجتماعية.

لقد اعتبرت العقل شيئاً ثابتاً منفصلاً لا زمنياً وجعلت هدف التفكير البشري السعي وراء حقيقة موضوعية قد انتزع منها كل هوى وتحزب يوجدان في مخلوق تاريخي يكافح لمعالجة مشاكل عملية.. ذلك أن الليبرالية، وقد بهرتها ما حققته الرياضيات والعلوم الطبيعية، قد أخذت بنموذج للعقل البشري مبني على هذا النوع من التفكير الشكلي المجرد.. لكن من الواضح أن اعتبار هذا المثل الأعلى للحقيقة المتجردة عن الأشخاص في معالجة الشؤون الاجتماعية مماثلاً للحقيقة الموضوعية القائمة في العلوم الطبيعية إنما هو وهم وخداع.

والليبرالية، في محاولتها تطبيق نظرة بدائية إلى العقل، لم تنجح إلا في جعلها العقل عاجزاً..

وقد اعتقد مانهيم أن المجتمع الحديث قد عجز عن السيطرة على الجمود الفكري الخفي وانفجار التعصب العقائدي اللذين حالا دون حل الخلافات الاجتماعية بالوسائل السلمية، لا لسبب سوى أن مثال العقل الليبرالي أنكر أن التفكير البشري يبدأ بالأمور العملية وأن له حدوداً.. فالفكرة الرئيسية والقضية الرئيسية في فلسفة مانهيم التاريخية هي هذه الفكرة القائلة بأننا كلنا مساهمون في ما يحدث في التاريخ البشري.. ولذلك لا يمكن أن يكون شيء اسمه موضوعية يتصف بها التاريخ، إننا لا نرى قط الذي (يحدث) على حقيقته، وفي الواقع أنه حتى طلب شيء مثل هذا أمر لا معنى له.. فشؤون الإنسان تجري وكأنها في قاعة محاطة بالمرايا كل الصور التي تعكسها مشوهة، ولكل منها زاويتها الخاصة، وكل ما نستطيع أن نرويه هو عما نراه في المرايا، إذ ليس ثمة شيء آخر يمكن أن يرى.

والتفكير الاجتماعي كله هو حتماً تفكير أناس لهم في الأحداث دور، وشعور نحوها، وتصور محدود لها.. وكل اعتقاد يحمل رقعة عليها التاريخ والمكان والنسب الاجتماعي للذي يقول به. والفكرة القائلة بوجود حقيقة موضوعية عن الشؤون البشرية، مستقلة عن الرجل الذي يؤكدها، إنما هي عنصر واحد من عناصر التصور الخاص بالليبرالية..

لقد أراد مانهيم أن يأتي بمفهوم للموضوعية جديد من أساسه. فالموضوعية على ما يرى، ليست ذلك الموقف المجرد عن الهوى والصفة الشخصية، الذي صنعته الليبرالية. والآراء ليست موضوعية لأنها متحررة من تأثير بيئة اجتماعية معينة أو وضع تاريخي معين.. ونحن، إذا حملنا الصفة العقائدية الحتمية للتفكير على محمل الجد، تبين لنا أنه لا يمكن أن تكون الأفكار موضوعية إلا بمعنى يختلف عن ذلك كثيراً.. ولا نبدأ بالسير على الطريق المؤدي إلى الفهم الشامل المنشود، إلا عندما ندرك تمام الإدراك أن كل وجهة نظر لها مجال محدود..

إن الناس، إذ يدركون تعصبهم وتحاملهم، تقوى نظرتهم الموضوعية عندما يتناولون بالعطف عقائد غير عقائدهم الحاضرة، ويرون الأمور من وجهة نظر الآخرين.. و(الحقيقة) في عصر ما ليست في معزل عن تصور ذلك العصر، إن التصور الموحد هو الذي يضم الجميع معاً..

تقدم العقل البشري:

ما هي فكرة التقدم الفكري، وكيف يتم، وما هي النتائج الخلقية والاجتماعية المترتبة عليه؟

إن الاعتقاد بأن التقدم الفكري، وخاصة التقدم العلمي، هو مفتاح تقدم الحضارة، والذي كان من جوهر النظرة الليبرالية التقليدية للتاريخ.. ولكن كلا من الفلاسفة الذين عرضنا لآرائهم حتى الآن يقول أن التقدم الفكري في العالم الحديث، كما يمثله التقدم العلمي قد كان أثره، فيما يتعلق بتقدم الإنسان الخلقي والاجتماعي، ضئيلاً نسبياً.. فالأستاذ (مريتان) يرى أن الذي نبحث عنه في جميع المسائل الجوهرية في الأخلاق والسياسة إنما هو حقائق مطلقة تسمو على التغيير والتطور.. وحجة (نيبور) أن خطيئة الإنسان المستعصية تحول بالمرة دون تأثير الفهم الموضوعي النزيه في التاريخ البشري.. والفكرة الجوهرية في أقوال فلاسفة التاريخية، مثل مانهيم، هي أن العقل البشري لا يخلق أو ينمي القوة اللازمة لتقرير نهجه المستقل بنفسه..

وهؤلاء الفلاسفة إذ يعبرون عن نظرتهم هذه، يتحدثون عن الشك المتزايد الانتشار - وهو في الواقع أكثر بكثير من الشك - بأن ذلك التقدم الفكري والعلمي، إنما هو أحبولة وخداع، وأن هذا العالم الحديث قد أعطى مكاناً مركزياً في الحضارة لجزء من الحياة البشرية ليس على خير ما يمكن أن يقال عنه، سوى جزء صغير بالنسبة إلى تلك الأجزاء التي تعمل على التقدم الإنساني. فإن القسم الأكبر من تفكيرنا الحالي حول مستقبل الإنسان الحديث يدور حول استعباد العقل البشري في انحلال الأهواء الباطنة والانفعالات، وفوضى النفس البشرية المقنعة الغامضة..

نظرية (توينبي) في التحول التاريخي:

يجمع كتاب (آرنولد تويبني) دراسة التاريخ جميع ما تم عرضه من أوجه النقد الموجهة إلى النظرة المعاصرة للتاريخ، ويضمها معاً في إطار من نظرية جليلة للتاريخ ككل من حيث معناه وتوجيهه.. ودراسة توينبي محاولة للنظر إلى التاريخ باعتباره مجموعة حية موحدة من الأعمال والأحوال، وللنظر إلى سجل الشؤون البشرية على ضوء قرائنها بحيث تظهر حيويتها الأساسية وترابطها ببعضها.. ويشير إلى أن المجتمع الحديث وكتابة التاريخ الحديثة قد سيطر عليهما اتجاهان؛ النظام الصناعي والقومية.. فقد جاءت محاولة في غير محلها دفعت بالمؤرخين إلى تقليد توزيع العمل في الصناعة، فكتبوا التاريخ قطعاً فوزعوها فيما بينهم كما لو كانوا في مصنع لتجميع القطع وبناء الآلات والأجهزة منها.. لقد قطعوه وأزالوا طلاوته على أيدي المتخصصين الذين لا يعنون إلا بأجزاء دقيقة من سير التاريخ.. فانتزعت الحياة منه بأيدي قوم جربوا أن يطبقوا أساليب العلم الطبيعي على دراسة الشؤون البشرية، واقترفوا (الخطأ الكبير) في اعتبار المخلوقات الحية كما لو كانت خالية من الروح.. ومع ذلك فقد كان تأثير القومية أشد غوراً.. فقد كتب المؤرخون المحدثون التاريخ كما لو كان قصة دول قومية منفصلة مستقلة، فعلوا ذلك دون أن يقفوا هنيهة ليفكروا في الأمر.. وبذلك خلطوا بين هذا النظام - أو انعدام النظام - الدولي المؤقت الذي أصبح منذ الآن زياً قديماً، وبين الإطار الثابت الذي يسير التاريخ ضمنه..

ولكن كيف يستطيع الإنسان الاهتداء إلى إطار ثابت يتخطى أوهام زمانه ومكانه؟.

يرى توينبي أن أحداث التاريخ يجب أن توضع في (مجال للدراسة التاريخية يمكن فهمه) حتى نتمكن من رؤيتها في وحدتها الحية وترابطها كله. إذ لا يمكننا فهم التاريخ الاقتصادي لمجتمع ما إلا إذا رأيناه على ضوء جميع النواحي الأخرى لحياة ذلك المجتمع، من سياسية وثقافية ودينية وروح معنوية داخلية..

ولا يمكننا فهم تاريخ أي أمة ما دمنا نقتصر على الأحداث التي تقع ضمن حدودها الجغرافية الرسمية. ذلك بأن تاريخ أي نظام أو أية أمة إنما هو جزء من كل أكبر. وإلى أن نعرف ما هو هذا الكل الأكبر، فإننا نظل نعالج مجردات مصطنعة لا الحقيقة نفسها.

وبعد..

فإن فلسفات التاريخ قامت بثلاث مهمات رئيسية. ففي المجال الأول يمكن اعتبارها مقالات في المنطق. أي أنها محاولات للاستيثاق مما يعتبر دليلاً صالحاً لاعتقاداتنا في القضايا الإنسانية، وفي المجال الثاني؛ فإن فلسفات التاريخ تحوي تعميمات ونظريات غايتها أن تفسر الدافع لسير التاريخ، وعلاقة حوادث التاريخ الواحدة بالأخرى..

والمجال الثالث، فقد كانت فلسفات التاريخ محاولات لكي تضم بطريقة دقيقة القيم والمثل التي لها نوع من الصمود والحكمية بالنسبة إلى موكب القضايا الإنسانية الطويل.