النبأ العدد 53 شوال 1421 كانون الثاني 2001

نور الله الأعظم بالمنظور الأخلاقي

من المحــاضـــرات الأخلاقيـــة لسماحـــة الفقيـــه المحقـــق آيــة الله السيـــد صـادق الشـيـــرازي

السلوك الأخلاقي الرفيع

التوافق بين الإنشاء والعمل

الهدف الأسمى

الحشر مع الأنبياء (ع)

الإقرار بالملك والهلاك

قال رسول الله (ص): (أربع من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم: من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيراً قال: الحمد لله، ومن إذا أصاب خطيئة قال: استغفر الله وأتوب إليه) )(1).

يتضح من خلال الحديث الشريف أن من قال هذه الجملة: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وهي آية كريمة من آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(2) يكون في نور الله الأعظم، وما أعظم ذلك الإنسان الذي يسير في حياته بنور الله تعالى، بمعنى أن لا زلّة ولا انحراف له ولا طغيان في نفسه عليه ولا سيطرة من الشيطان عليه أو الشهوات فالدنيا عنده حقيقةً كالجيفة.

نور الله يعني رؤية الأشياء على حقيقتها..

ولنضرب أمثلة مادية من خلال حياتنا حتى يتوضح معنى الرؤية لحقائق الأشياء معنوياً؛ فمثلاً:

قد يجلس الإنسان على مائدة طعام في مكان مظلم لا يعلم حينها ما الذي حوله من الأصناف حتى يأكله.. وقد يكون ما فيه خطورة على حياته فيلتقمه.. أما إذا كان يجلس في مكان مضيء وإنارته جيدة فهو يرى ما حوله ويميّز الأشياء على حقيقتها الظاهرية فيتجنب ما لا يرغب فيه ويبتعد عن مكامن الخطورة ويقبل على الأشياء المرغوبة أو ما يلتذّ به.

مثال آخر: إذا كان الشخص جالساً في مكان مظلم ويتكلم مع أناس عديدين فقد يكون هناك أصدقاء وأيضاً يوجد أعداء فيكون مضطرباً في كلامه لأنه لا يميز من هو جالس حوله وما هي نسبة ذلك الإنسان أو الشخص الذي يسمع كلامه فيتردّد كثيراً في الكلام..

أما لو تكلّم في وسط منير بالضياء فإنه يميز فيه بين الحضور ولا يضطرب في الكلام.

كلا المثالين كانا في الماديات، والأمر في المعنويات مقارب فإذا ما كان الإنسان فاقداً لنور الله يكون في تيه وضلالة وإن كان يكابر في نفسه ويتصوّر أنه يعرف ما حوله ويميزه ويسيطر على تصرفاته.. لكن الحقيقة شيء آخر غير ما يراه..

فالرسول الأعظم (ص) يقول الإنسان الذي تكون كلمته قولاً وفعلاً: (إنا لله وإنا إليه راجعون) يكون على نور الله تعالى. بمعنى أنه تعالى يمنحه الطاقة والقدرة ليرى ما هو المفيد وما هو المضر؟ وفيم يصرف عمره؟ وكيف يسيطر على غضبه وشهواته؟ وكيف يستطيع أن يتخلص من حب الدنيا وزخارفها؟

ومن الطبيعي أن الإنسان إذا عرف المفيد واللائق ينجذب إليه وأما المضر أو المذموم فيمتنع عنه.. وأما كون بعض الحقائق فيها ألم وتعب في إتباعها كترك الدنيا وزخارفها فهذا الألم غير حقيقي بالمنظور الفلسفي، أو قد تكون الحقيقة الناصعة أوضح لمن يرى بنور الله فيرى اللذّة الفعلية في ترك زخارف الدنيا وشهواتها.

الإقرار بالملك والهلاك

ولنرى ما تحمله تلك الآية الشريفة بهذه الكلمات من معنى (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

في تفسير الآية الشريفة روايات عديدة منها:

(عن صالح بن أبي حماد رفعه، قال جاء أمير المؤمنين (ع) إلى الأشعث بن قيس يعزيه بأخ له يقال له عبد الرحمن، فقال له أمير المؤمنين: إذا جزعت فحق الرحم أتيت وإن صبرت فحق الله أديت على إنك إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم، فقال الأشعث: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فقال أمير المؤمنين: تدري ما تأويلها. فقال الأشعث: أنت غاية العلم ومنتهاه، فقال له: أما قولك إنا لله فإقرار منك بالملك، وأما قولك وإنا إليه راجعون فإقرار منك بالهلاك) (3).

وفي التفسير عن الطبرسي (قد. س) أنه قال:

(قالوا إنا لله هذا إقرار بالعبودية أي نحن عبيد الله وملكه، وإنا إليه راجعون هذا إقرار بالبعث والنشور أي نحن إلى حكمه نصير) (4).

وعن الجنابذي في التفسير أنه قال:

(إنا لله مبدأً وملكاً وإنا إليه راجعون في المنتهى. والأخبار في فضل الصبر على المصيبة والاسترجاع عندها كثيرة جداً ولما كانت المصائب الواردة على الإنسان لا مداخلة لنفسه واختياره فيها حتى يجعل مآربه النفسانية غاية لها كان انموذج أجرها مشهوداً له في كسر أنانيته وكبريائه والتضرّع إلى ربه والالتجاء إليه والقرب منه، بخلاف العبادات التي يعملها الإنسان باختياره وينظر فيها إلى أغراض نفسه فإنه لا يجد فيها أجراً وقرباً ولذّة) (5).

وحاصل الروايات والتفاسير ما يلي:

إنا لله: اعتراف بالملك وإقرار به.

وإنا إليه راجعون: إقرار بالهلاك.

فكل مخلوق هو مملوك لله تعالى وليس لنفسه.. وكذلك هالك. بمعنى أنه لا يملك زمام أموره فيترك كل ما يملكه في الدنيا إلى من هو بعده.

الهدف الأسمى

ويظهر من خلال الغور في حديث رسول الله (ص) الذي افتتحنا به البحث أن من قال : (إنالله وإنا إليه راجعون) ينظر بنور الله تعالى.. ليس مجرد التلفظ بها وإنما الشعور بهذه الكلمة بمعنى أنه ينشئها من أعماقه، فأولاً يتصور المعنى بأنه مملوك لله تعالى وليس هو المالك الحقيقي لهذا البصر أو اللسان أو الأفعال والعلاقات وإنما الله سبحانه جعلها تحت تصرفه كما في قوله تعالى: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فقد وضع الله سبحانه هذه الحواس والأعضاء والعلاقات ليرى عمل الإنسان وعليه الثواب والعقاب فهي مملوكة لهدف أسمى.

فالملك لله تعالى وليس للمخلوق وإنما المخلوق ليس أكثر من عبد جيء به إلى الدار أو المتجر أو ما شابه من الأمور الدنيوية المحسوسة لينفذ ما يأمره به المولى، أو بمعنى أدق الخالق سبحانه جلّ وعلا.

هذا ما ينبغي أن يعرفه الإنسان ويتصوره في أعماقه، فقد وضع المالك سبحانه تحت قدرته السمع والبصر والقبض والبسط والمال والشخصية والعلم والذهاب والمجيء.. لكي ينفذ أوامره تعالى، كما إن السيد يهيأ أسباب ولوازم العمل لمملوكه لكي يقوم بعمله على أحسن وجه ويقدمه لسيده، وأما لو تقاعس فسيكون مصيره الطرد من قبل سيده.. والمخلوق هكذا يكون مع خالقه بعد أن هيأ له أسباب العمل والطاعة.

فمن أنشأ كلمة (إنا لله) وهو يعرف معناها يكون في نور الله تعالى أي يبصر عيوب نفسه، لأن النور هو الذي يكون وسيطاً وسبباً ليرى الإنسان ماحوله من عيوب، فمن أبصر بنور الله تعالى عرف حقائق الأمور وتجنب ما لا يعود عليه بالنفع.

فالأهمية تكمن في قدر المعرفة وعمق الإنشاء والتصرف الخارجي للعبد.

التوافق بين الإنشاء والعمل

يُنقل عن أحد الزهاد أنه في أثناء الصلاة عندما كان يصل في صلاته إلى سورة الفاتحة وبالأخص قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقشعر جلده ولا يستطيع أن ينشئها قط، لأن قراءة الآية الشريفة قراءة فقط هي عملية سهلة ولكن المعنى والتوجه إلى مايقول أمر صعب بمعنى أنني لا أعبد غيرك يا ربي..

والإنسان أمام هذه الآية الشريفة إما أن لا يعرف معناها أصلاً أو يعرفها لكنه لا يعلم مع من يتكلم فقراءته سطحية وروتينية، فقط أداء للواجب.

وقد يكون الشخص عارفاً بما ينشئ أي يعرف بأن المراد منها أنا لا أعبد غيرك يا الله فهنا الصعوبة في الإنشاء لأن البعض قد يعبد مع الله سبحانه ألف شيء من الدنيا كالزوجة والأولاد والشهوة والغضب.. فيجهد لأجل الإخلاص في الكلمة بأن يطرد عبادة هذه الأمور بمعنى الاهتمام بها في عرض التوكل على الله تعالى..

لا يخفى أن على الإنسان أن يكسب ويعيش ليؤدي العبادة ولكنها ليست الهدف، فالإنسان إذا علم بحرمة شيء وأتى به أو بقي عليه معناه أنه أشرك بالله تعالى لأنه عمل بما يخالف أوامر مولاه، ومن أوامر المولى تعالى أن لا تشرك بعبادته أحداً مهما كان صغيراً أو كبيراً.

ولذا يحصل هذا الاضطراب عند العالم الزاهد لأنه يملك نفساً تسير في نور الله سبحانه..

وينقل عن بعض العلماء أنه كان يقول:

عندما كنت أتوجه لزيارة الإمام الحسين (ع) وأقرأ الزيارة فأصل إلى قوله: (عبدك وابن عبدك وابن أمتك المقرّ بالرقّ والتارك للخلاف عليكم والموالي لوليكم والمعادي لعدوكم) (6) أخجل كثيراً من ذكرها لأني أعلم بأني لست قائماً برسم العبودية للإمام الحسين (ع) بالمعنى اللائق بها لذا لا أقدر أن أنشئها بسبب علمي بأن الإمام الحسين(ع) يعرف تصرفاتي، وفعلي لا يليق بهذا المقام.

ومن الطبيعي أن المراد بالعبودية القرب من الله تعالى باتباع منهج الإمام الحسين (ع) وليس شركاً بعبادة الخالق تعالى وأن نعمل وفق مبادئ الإمام الثائر والوقوف بوجه الظلم والاستبداد..

وفي نفس الوقت كنا نرى أناساً كثيرين يقرأون الزيارة دون التفات أو خجل مما يقولون ويعلمون بأن النهج الذي يسيرون عليه مخالف لنهج الحسين (ع).

الحشر مع الأنبياء (ع)

ينقل عن الشيخ أحمد بن فهد الحلي (قدس سره) كرامات عديدة وله كتب قيمة في الفقه والدعاء والعلوم الإسلامية المختلفة، وكان قبره في مدينة كربلاء المقدسة في منطقة تكون على طريق القادم من النجف الأشرف لزيارة مرقد الإمام الحسين(ع)، واليوم قبره واضح للزوار بعد استحداث الأبنية وقريب من حضرة الإمام الحسين (ع) ولكن قبل ذلك كانت هناك بساتين عديدة على الزائر أن يقطعها حتى يصل إلى قبره.

وينقل عن أحد العلماء الذين كانوا يسكنون مدينة النجف الأشرف أنه كانت له علاقة خاصة في زيارة مرقد الشيخ (قد.س) فعندما يأتي إلى كربلاء المقدسة يترجل من وسيلته لزيارة قبر الشيخ ثم يسير قليلاً لزيارة الإمام الحسين(ع). وتقديم الزيارة قد تكون راجعة للعالم نفسه أو لأن قبر الشيخ في وسط الطريق فينزل أولاً لزيارته. واستمرّ لمدة طويلة فرأى حينها في عالم الرؤيا والمنام بستاناً كبيراً يكتظّ بالعلماء من السابقين واللاحقين فينقل عن العالم أنه أخذ يتفحّص فيما بينهم ويبحث عن الشيخ ابن فهد الحلي (قد.س) للعلاقة الوطيدة في نفسه من خلال تردده الكثير على زيارة قبره فلم يجده فيما بينهم، ثم قال سألت من أحد العلماء أين أجد العالم ابن فهد الحلي؟

أجابني بأني أجده في ذلك البستان الآخر فذهبت إليه وإذا به يكتظ بالأنبياء (عليهم السلام) فسألت عنه فأرشدوني إليه فسلمت عليه عندما رأيته وأخبرته بأني دائم الزيارة له وأقرأ الفاتحة له، فأجابني ابن فهد بأن هذا يصلني وأنا أعلم به.

فسألته حينها: لماذا أنت هنا مع الأنبياء وليس مع العلماء؟! أجابني بأنه: أنا بحكم ممارستي في الدنيا أحشر مع العلماء ولكن بعمل واحد جعلني الله تعالى مع الأنبياء وهو:

إني في كل تصرفاتي أتصرف تصرف المملوك أو العبد لله تعالى، فكنت أُشعر نفسي هذا الأمر عندما أكتب أو أدرس أو أرشد الناس.

فهذه رؤية ينقلها أحد العلماء ولكن سيرة ابن فهد تؤيد ما جاء في الرؤية؛ إذ من جملة ما كتب على مرقده أنه في زمانه كان معظم أهل العراق والملك أيضاً لا يتبعون مذهب أهل البيت(ع) وبفضل عمل وإرشاد العالم ابن فهد الحلي ولقائه بالملك لمرات عديدة اعتنق الملك ومعظم أهل العراق مذهب أهل البيت(ع) حتى ضربت السكة في عهد ذلك الملك بأسماء الأئمة(ع).

وهذا الفضل وممارسة التبليغ والهداية طريق لأن يحشر الإنسان في مقامات عالية كأن يكون مع الأنبياء وفي الرواية:

(علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل).

السلوك الأخلاقي الرفيع

فالأمر يحتاج من الإنسان أن يركز دائماً ويشعر في نفسه العبودية وأنه مملوك لله تعالى فيسري ذلك الشعور في جميع أحواله وتصرفاته ليصدق عليه المراد من الحديث النبوي الشريف لو قال الإنسان (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهو في نور الله تعالى. لأن كل إنسان ليس بمعصوم من الزلل والخطأ ولكن لأجل أن يقلل من أخطائه وزلاته ولا تصل إلى حد كبير، وهذا من أصول الأخلاق أيضاً أن يشعر نفسه بأنه مملوك.

فليس العبرة أو الميزان في هذه الدنيا كثرة العبادة من صلاة وصوم وتهجد وزيارة.. وإنما بجنب العبادة سلوك أخلاقي متوازن مع قيمة العبادة، وهو أمر معنوي فلو أحب الإنسان هذه الدنيا وسار في ملذاتها ليستشعر في نفسه الكبر وما شابه وجاء بالعبادة تفقد قيمتها كونها لم تأت من شعور بالعبودية بالمعنى الحقيقي، لأن الله سبحانه ومن أجل الإنسان على حد تعبير بعض المفسرين يسمّي الدنيا في الآية الشريفة (مَتَاعٌ قَلِيلٌ)، وإلا في الواقع أن الدنيا ليس بمتاع وإنما الله أراد أن ينزل كلماته إلى مستوى البشر فسماها بالمتاع.

فالدنيا ظاهرها متاع لارتباطها بالماديات أما المعنويات فأعمق منها بكثير وأكثر متاعاً لأن الإنسان مهما كبر وتمتع في هذه الدنيا أحياناً يفقد كل ما سعى لأجله وخلال لحظات وبوساطة أصغر الأشياء وأحقرها كأن تدخل (إبرة) صغيرة في عينه أو تدخل حبة رز (التمن) في مجراه التنفسي فإما أن يموت أو يمرض أو يفقد عضواً من جسده رغم أنه مستعد لأن يصرف الملايين ليرجع ما فقده لكن دون فائدة قال تعالى:( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ).

ولأجل التمييز ومعرفة الأمور بشكلها الصحيح من خلال العيش في هذه الدنيا يحتاج الإنسان في قول (إنا لله وإنا إليه راجعون) أن يشعر في نفسه بالعبودية لله تعالى وأنه مملوك وفي النهاية هالك. لأن النتيجة هي السير في نور الله تعالى وذلك من أصول الأخلاق أيضاً أن يشعر نفسه بأنه مملوك ولا يلتفت إلى ملذّات هذه الدنيا الزائلة أو القليلة.

الهوامش:

(1) تفسير العياشي: ج1 ص69، المكتبة العالمية الإسلامية.

(2) البقرة: 156.

(3) تفسير البرهان للبحراني: ج1 ص168 ح6 مؤسسة الوفاء – بيروت.

(4) مجمع البيان: للطبرسي ج1 ص238 دار إحياء التراث العربي – بيروت.

(5) تفسير بيان السعادة: للجنابذي ج1 ص157 مؤسسة الأعلمي – بيروت.

(6) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي ص499 زيارة الحسين (ع) المطلقة.