مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 

شهر رمضان وسنة الرحمة الكونية

ملف العدد

محمد محسن العيد

 

الرحمة .. هي معنى جامع للحسن في مظاهر المحبة بين المتحابين، والود بين المتوادين والألفة بين المتآلفين، والميل والرغبة بين المتراغبين، وفي لطف الترابط بين المترابطين.. فهي العلة في كل حادث كوني سواء كان وجودياً أو حيوياً أو عقلياً. بل هي أم العمل، فهي في ذاتها علة.

والرحمة؛ هي سنة الله تعالى الرحمن الرحيم في خلقه، بل وهي كتابه على نفسه سبحانه وتعالى؛ إذ يقول:

(فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الأنعام 54.

وقال تعالى:

(كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) الانعام 12.

والرحمة هي بديهية بلغت من سعتها واحاطتها حد الخفاء، لأن كل شيء يتسع ويستطيل ويحيط فإنما يستعصي على الوضوح بمقدار اتساعه واستطالته.

إن كل ما في الكون وما فيه إنما بدأ بالرحمة وقام بها ويستمر ويدوم معها.. ويمكننا أن نتصور هذا من مجرد التفكير بالإجابة على التساؤلات التالية:

هل يمكن أن نتصور وجوداً ما، إذا حل التنافر والبغضاء بدل مظاهر الرحمة من الألفة والمحبة بين الأجزاء المكونة لذلك الوجود؟!

وماذا لو حل التنافر والبغضاء بين الذكر وانثاه؟ وبين الأم ووليدها؟ وبين الروح والجسد؟

والحقيقة من الواقع انه لا يمكن أن نتصور وجوداً - أي وجود - دون نظام.. وان أي نظام لا يمكن أن يوجد مع التنافر والبغضاء، لان النظام اصلاً هو حالة توافق ورحمة تنتج عن تآلف بين أجزاء الموجود.. ولذا فلا يمكن أن نجد وجوداً بلا نظام. ولذا فلا وجود بلا رحمة.

بالالفة ترتبط أجزاء الذرة (effemitty) ويبرز وجودها من تآلف البروتونات بشحنتها الموجبة في مكان واحد بقانون الرحمة مع تجاذبها بنفس القانون مع الاليكترونات السالبة في الغلاف وفق نظام وجود الذرة.

وبالرحمة ترتبط الجزيئات التي تبني عالمنا المادي المحسوس الذي نعيش فيه.. وللرحمة وبالرحمة تتفتح الزهور وتتعدد لونا وعطراً.. وللمحبة مظهر الرحمة تنجذب الفراشات والنحلات لتلك الزهور.. وللرحمة وبالرحمة تعطي النحلات العسل.. وبالرحمة وللرحمة تعطي النباتات الثمر. وتجود الأرض بالزرع.. وبالرحمة وللرحمة تغرد الطيور.. وتبني اعشاشها وتحتضن بيوضها.. وتزق افراخها.. وللرحمة وبالرحمة يحنو الآباء والامهات على صغارهم.. وبالرحمة وللرحمة تبتنى النفوس الصالحة في الناس.. وبالرحمة وللرحمة يسعى العقل السليم لأحكامه.

وبما أن المحبة هي مجسدات الرحمة في الواقع.. فهل يمكن أن نتصور أي شكل من أشكال الوجود دون وجود المحبة!! وهل يمكن أن يوجد شيء مع البغض والتنافر!!

ومن مبرزات وظواهر سعة الرحمة واحاطتها بكل وجود، هي كونها علة في كل حادث كوني وكل ظاهرة حياتية وكل حكم عقلي حسن.. قال تعالى:

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ) ص 9-10.

خزائن رحمة الله تعالى، وهي التي وسعت الكون والزمان (مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) في تساؤل رباني، أي في توجيه بأمر الله تعالى ولأمره، وإنما لبيان امره معلولاً لرحمته فليرتقوا في الأسباب حيث الرحمن الرحيم سبحانه هو مسبب الأسباب.

والحقيقة: أننا لا يمكن أن نعلل - بصدق دون قرينة الرحمة.. فكل علة لا تستند إلى هذه القرينة فإنما هي خارج معاني العلم بالعلة السبب - أحداث الطبيعية الكيمياوية والفيزياوية، ظواهر الليل والنهار والفصول الأربعة، والحر والبرد، والتزاوج والولادة، والموت والحياة وتوزيع المياه على الأرض (دورة المياه في الطبيعة)، ودورات الحياة لأي كائن حي... الخ كل هذه الحوادث معلولة للرحمة.

إن كل قوانين الطبيعة معلولة للرحمة، حتى شذوذ بعض الظواهر عن قوانين الطبيعة إنما يحصل تبعاً لسنة الرحمة، فمثلاً شذوذ الماء في ظاهرة التجمد في المناطق الباردة على سطح الأرض.

يعرف الغالب من المثقفين من مبادئ العلوم الطبيعية، أن هناك قانوناً ينظم العلاقة بين المادة في ابعادها وبين الحرارة هو قانون التمدد، الذي ينص: (إن ابعاد المادة تتمدد بارتفاع درجة الحرارة وتتقلص بالبرودة).. إلا أن مادة الماء والذي يغطي 5/4 سطح الأرض، فإنه يشذ عن هذا القانون عند بلوغ الماء درجة 4ْم، حيث يبدأ بالتمدد بالبرودة، ويزداد حجمه كلما ازدادات البرودة عكس المواد مما يؤدي إلى قلة كثافته خصوصاً بعد تصلبه إلى ثلج، مما يؤدي إلى ارتفاعه إلى السطح، وينزل في الوقت ذاته الماء الدافئ في (4ْم) إلى القاع.

وليس هناك علة نهائية لهذا الشذوذ غير الرحمة، فالماء بسبب قلة كثافته يطفو إلى السطح ويصير حاجزا يمنع من ايغال البرد في المناطق الباردة إلى أعماق الماء.. ففي الوقت الذي تشتد البرودة على سطح الأرض إلى درجات تبلغ العشرات تحت الصفر، تبقى الكائنات المائية الحية تسبح في بحبوحة من الدفء.. إذن فبالرحمة تحتفظ البيئة المائية بالحياة.. والبيئة البرية تعتمد إلى حد كبير في معاني حياتها على البيئة المائية.. ذلك لان هناك قوانين توازن محفوظ بين البيئتين لا يمكن تجاهلها على الإطلاق.

من هذا المثال، نجد أن الرحمة سنة حسنة في الكون، وهي أم لكل السنن وعلة كل العلل التي كان بها الكون ويقوم عليها ويستمر بها.

ونقول عن شهر رمضان انه شهر الرحمة، فماذا نعني من كون ما يشرع في هذا الشهر موسوماً بالعلة الرحمة؟!

أوجب الشارع المقدس الصيام في هذا الشهر من السنة.. في معناه الاصطلاحي إنما هو عبادة روحية نفسية راقية وليس مجرد الامتناع عن المفطرات.. ذلك لان الدين في معناه الخضوع والطاعة لله تعالى دون ضميمة أخرى، وهو ما يحققه معنى الصيام، حيث لا يطلع على معاني تحقق هذه العبادة إلى الله وحده سبحانه وتعالى.. وعن هذا المعنى يقول المعصومون:

يقول الإمام الصادق (ع):

(إن الله تبارك وتعالى يقول: الصوم لي وأنا اجزي عليه)(1).

وعنه أيضا (ع):

(قال الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم هو له، غير الصيام هو لي وأنا اجزي عليه)(2).

وتبدو علة الرحمة واضحة في الصيام من أقوال المعصومين في ذلك:

1) الإمام الصادق (ع):

(أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير؛ وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع؛ فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه فاراد الله عز وجل أن يسوي بين خلقه وان يذيق الغني مسّ الجوع والالم، ليرق على الضعيف ويرحم الجائع)(3).

2) الإمام الرضا (ع):

في علة وجوب الصوم: (لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً لما اصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب مع ما فيه من الإحسان عن الشهوات، وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورائضاً لهم على أداء ما كلفهم، ودليلاً لهم في الاجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الــــفقر والمسكنة في الدنــيا، فيؤدّوا إليهم ما افترض الله تعالى لهم في امــــوالهم)(4).

3) فاطمة الزهراء (ع):

(فرض الله الصيام تثبيتاً للاخلاص)(5).

4) الإمام العسكري (ع):

(ليجد الغني مسّ الجوع، فيمنّ على الفقير)(6).

5) الإمام الحسين (ع):

(ليجد الغني مس الجوع، فيعود بالفضل على المسكين)(7).

6) الإمام الباقر (ع):

(الصيام والحج تسكين القلوب)(8).

7) رسول الله (ص):

(الصوم يرقّ المصير، ويذيل اللحم، ويبعد من حرّ السعير)(9).

8) الإمام علي (ع):

(وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لاطرافهم وتخشيعاً لابصارهم، وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً (تخضيعاً) لقلوبهم)(10).

وان ما يعنيه الصيام من خواء وعطش وجوع وكف الجوارح ونشاط الرقابة الذاتية في النفس إلى حد تكون معه النفس بعيدة عن الهوى والقسوة.. إن ما يعنيه الصيام هو الانتقال بالصائم إلى حيث مضاء سنة الرحمة وتحكمها محاكاة لأجواء الرحمة الخاصة التي تبرزها شعائر الصيام في هذا الشهر، والتي كانت به للناس غاية رحمة الله سبحانه وتعالى إليهم؛ حيث في هذا الشهر نزل القرآن العظيم.. نزل في ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر؛ باباً من واسع رحمته جل وعلا.

ومن واسع رحمة الله تعالى في هذا الشهر، كونه باباً لامضاء سننه الحسنة في الناس متداخلة، فقد اوقعت الشريعة المقدسة الصيام في مقدمات وواجبات ومستحبات وشعائر تستلزم نفاذ بقية السنن الحسنة في الكون، إضافة إلى أن الصيام جاء لامضاء سنة الرحمة اصلاً.

فالنوم للصائم في هذا الشهر عباده وتنفسه فيه تسبيح.

يروى عن رسول الله (ص) قوله:

(نوم الصائم عباده، ونفسه تسبيح)(11).

وقال الإمام علي (ع):

(نوم الصائم عبـــادة وصمته تسبيح، ودعاؤه مـــستجاب، وعمله مضاعف؛ إن للصائم عند افطــــاره دعوة لا ترد)(12).

ذلك لأن الطاعة فيه تأخذ الزمن كله بفرض استحكام النية واستحضار كل معاني الدين له في الصائم ما دام صائماً.

قال رسول الله (ص):

(الصائم في عبادة الله وإن كان نائماً على فراشه، ما لم يغتب مسلماً)(13).

إن الامتناع عن كل ما هو مفطر مع الانشداد لله تعالى مع الخواء الجسدي بالحضور العقائدي الذي يوجب الرقابة القوية الحاضرة الفاعلة على كل ما يصدر من الآدمي وارتباط ذلك في نفس الصائم إلى نماء روحه وقوة ارادتها للحسن بمعانيه الربانية وذلك في حالتين:

1) في الصائم يهبط مستوى طاقة النشاط الحيوي في جسم الإنسان، بسبب توقف عملية التغذي، مقابل زيادة التوجه للالتزام، مما يقوي عمليات العقل في إصدار احكامه ومما يقوي العقل بالرقابة الذاتية من النفس لذاتها، وهذا بالضرورة يؤدي إلى نماء قوة الإرادة للحسن فيمضي بالنفس إلى حيث ملاحظة مواقع المطابقة الكلية للسنن الحسنة في الكون بما يجعل النفس الصائمة اكثر ادراكاً لمضامين الحسن الكوني دون شوائب قوة الغرائز، وبهذا تصح معاني الحسن في النفوس الصائمة السامية، وتقترب من الرحمة في معناها القانوني.

فالرحمة صفة الله تعالى ذي الأسماء الحسنى وان (رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) الأعراف 56.

2) في الصائم تقوى الإرادة الموجهة بأوامر الله تعالى ونواهيه ضمن عبادة الصوم وتشريعاته - بافتراض وقوع الصوم طبقاً لامر الله تعالى وبقصد القربى إليه وحسب - في حين تضعف الغرائز بالصيام، لذا فإن العقل في عملياته في نفس الصائم يصير لصالح الإرادة الحسنة في احكامه وفي أية قضية يصدر فيها حكماً. لذا فإذا اكتملت معاني الصيام في الصائم، فإن روحه تقوى وتنمو إرادته وتضعف غرائزه.. أو على الأقل يحصل على النافذة من خلال الصيام ليرى معنى قوة الروح ونمو الإرادة عنده.

قال الإمام علي (ع):

(صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بارادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والاجر، صوم النفس امساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب من جميع أسباب الشر)(14).

وفي حديث المعراج:

(... قال يا رب وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف اصبح بعسر أم بيسر)(15).

فالصيام يقتلع من النفس عاداتها أو على الأقل يحررها منها أو في أدنى الأحوال يريها حالها عندما تتحرر من العادة كم هي قادرة!

وفي الصيام تتجسد رحمة الله الواسعة في المحبة التي تجمع الصائمين وتوجه سلوكهم، وتجعلهم يتذاكرون بمعاني المحبة ويتذكرون ضعافهم وفقراءهم وجياعهم، ويتذاكرون اوضاعهم الاجتماعية والسياسية.

اتذكر قبل حوالي ثلاثين عاماً.. جاء أحد المحافظين، وهو من حاشية الطاغوت ومقربيه الذين يتظاهرون بالتواضع والتدين ليحضر مراسم دعاء الافتتاح التي يقيمها الصائمون بعد الافطار في المساجد والحسينيات ليالي رمضان.. وكان ذلك في إحدى المحافظات الجنوبية في العراق.. وتصادف أن جلس مع أحد حواشيه من أبناء المحافظة امامي.. وشرع أحد المؤمنين بقراءة الدعاء.

وعندما وصل إلى قول الإمام (عج) في الدعاء:

(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله...).

سمعت المحافظ يهمس في إذن رفيقة ويقول: ها!! جماعتكم يريدون دولة!.. حتى دعاؤكم سياسة!!..).

فمن معاني الرحمة في هذا الشهر المبارك انه يصير باباً لتداخل مضاء كل السنن الحسنة في نفوس المطيعين الصائمين.

يبتدئ هذا الشهر عند المؤمنين بتوزيع الصدقات، والتواصل في تفقد المعوزين.. وعند الخلص من اتباع أهل البيت يتفقدون ذوي البين بالاصلاح والسعي بينهما بالحسنى.. ويتذكرون ارحامهم بالوصل وكل ما يهيئ النفس لتكون أهلاً لرحمة الله تعالى في هذا الشهر. من إقامة مجالس الذكر والدعاء، وولائم الإفطار للفقراء، والاجتهاد في ختم القرآن، والقيام في الليل واحياء القدر ولياليه، وصلة الأرحام وإطعام الطعام وافشاء السلام. ثم يأتي عيد الفطر المبارك وبما يعنيه من زكاة الفطرة، كحق يرفعه الناس لمستحقيه عليهم، واصلاح ذات البين والسرور بما تقدم من طاعة.. هي أيضا معاني تختم بالرحمة رحيل الشهر وبقاء رحمته تتلبس النفوس.

 

1- بحار الأنوار، ج96، ص255. 

2- المصدر نفسه، ص249. 

3- المصدر نفسه، ص371. 

4- المصدر نفسه، ص370. 

5- المصدر نفسه، ص368. 

6- المصدر نفسه، ص369. 

7- المصدر نفسه، ص375. 

8- المصدر نفسه، ج 78، ص183. 

9- كنز العمال، ح23620. 

10- نهج البلاغة، خطبة 192. 

11- بحار الأنوار، ج96، ص248. 

12- المصدر نفسه، ج93، ص360. 

13- المصدر نفسه، ج96، ص247. 

14- غرر الحكم، باب ما اوله الصاد. 

15- بحار الأنوار، ج77، ص27.