2000  تشرين الثاني

1421  شعبان 

51  العدد

مجلة  

 

كيف ولماذا؟

التعايش مع الشخصيّات الصعبة

 

[email protected]

فاضل الصفار

المدير المستعجل وآثاره السلبية

عواقب وخيمة

الشخصيّات اللامتوازنة

 لتحايل والتخريب من نتائج الحدية

صفات الشخصيات الحادّة

الشخصيّات الحادّة

لقّن نفسك بالترفّع عن النواقص

خطوات عملية أخرى

التعايش والتأقلم مع الآخرين

معاناة الحدّية


تعاني المؤسسات من نوعين آخرين من الشخصيات الصعبة إذا لا تجد معها طرقاً للحل ستهدد مسيرتها بالمزيد من التراجع والازمات هما:

الأولى: الشخصيات اللا متوازنة أو قل التي تتمتع بالمزيد من الحرارة والحماس مع وفرة من القلق وانعدام الاستقرار في السلوك.

ومن ابرز سماتها الإيجابية الاجتهاد الكثير في إنجاز الأعمال إلا أنها في الغالب تعاني من الأمراض والإنهيارات العصبية وفي بعض الأحيان تتعرّض إلى الأزمات القلبية كما أثبتته التقارير.

الثانية: الشخصيّات الحادّة التي تربك العمل والعاملين بالمزيد من المعارك الدعائية أو الكلامية وعلى أمور لا تستحق ذلك في الكثير من الأحيان وتتّسم بميلها الشديد لتحقيق الانتصارات ولو على حساب الآخرين لذا فإنّها هجومية في الغالب ومنطقها (الهجوم أفضل وسيلة للدفاع) ويصفها بعض علماء النفس والإدارة بالعدوانية لأنها في بعض الأحيان تتخذ مواقف عدائية مع الآخرين ومن اجل معرفة طرق الحل لابد من التعرّف على أبرز صفات هاتين الفئتين.

الشخصيّات اللامتوازنة

قد نصف بعض العاملين معنا بأنهم أشدّاء أو أصحاب شخصيات صعبة وإذا وضعنا لائحة تحدد مظاهر سلوكهم سنجد أنها في العديد من الأحيان لا تستجيب لمنطق التوازن بما توقعنا بالمشاكل والأزمات التي نحن في غنى عنها..

 إن أمثال هؤلاء الأشخاص يغلي في داخلهم الحماس والاندفاع وهو صفة جيدة إلا أن المشكلة تكمن فيه أيضا إذا صار بعيداً عن العقلانية والهدوء لذا يقع الفرد منهم في الإفراط والتفريط فإذا أحب شيئاً أو اقتنع به ذهب به بعيداً وخاض في اشواطه كلّها تاركاً وراءه المهمات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ذاك وإذا تردد في شيء أو لم يعجبه أحجم عنه كثيراً حتى ربّما يتركه في سلّة المهملات فيقطع معه خطوط الوصل بما قد يفقدنا الكثير من الفوائد.. وهذه الحالة صعبة ومتعبة في الغالب إذا لم نجد سبل حلّها خصوصاً وأنّ الأفراد الذين يتسمون بهذه الصفات هم نافعون وينجزون لنا الكثير إلا أن مشكلتهم الأساسية هي اللا توازن والافراط والتفريط ولكي لا نكون قاسين في الحكم علينا أن نحدد أبرز سماتهم الإيجابية والسلبية لكي تكون المعالجة سهلة. فنقول: إذا لاحظنا الطابع العام الذي يظهر في سلوك مثل هؤلاء الأفراد سنجد أنّهم:

1- متفانون في إنجاز الأعمال ولعلّهم يقضون ساعات طويلة في العمل بلا ملل أو كسل وإذا حصلوا على فترات راحة أو عطل أو مروّا بفترة قلّت فيها الأعمال يشعرون بالتعب والذنب والإحساس بالتقصير لذا فانهم حتى في عطل نهاية الأسبوع بل وفي فتراتهم المسائية في البيوت التي ينبغي أن يقضى بعضها مع العائلة يمارسون أعمالهم.. فهم دائماً بين العمل وإلى العمل..

2- مستعجلون حتى في ممارساتهم العادية مثل تناول الطعام، قيادة السيارة، المشي، المطالعة، الاستماع إلى الحديث.

لأنهم يشعرون دائماً أنّهم في سباق مع الزمن وقد عرّف بعض المتخصصين هذا النوع من الأفراد بأنهم مصابون بـ(مرض العجلة).

فهم.. يحاولون إنجاز المزيد من الأعمال في أقل وقت وفي الغالب يسعون لإنجاز شيئين أو اكثر في وقت واحد وهو ما يعرف بـ(النشاط المتعدد الأطوار) وأجلى مظاهرهم تظهر عند تناول الطعام أو مطالعة الصحف أو المحادثات.. تراهم:

يأكلون ويطالعون، أو يتكلّمون على الهاتف ويراجعون بعض الوثائق أو يقرأون بعض التقارير أو يكتبون رسالة ويستمعون إلى نشرة خبرية ونحو ذلك وحتى إذا استمع أحدهم إلى متكلّم يستعجل عليه الكلمات فلدى الاستماع يكرّر (نعم.. نعم.. نعم..) أو (لا.. لا.. لا..) وكأنه يريد أن ينهي المتكلّم معه كلامه..

وإذا تكلّم هو يبتلع الكلمات الأخيرة أو يختصر العبارات جداً وكأنّه يريد أن يوصل ما يريده بأسرع ما يمكن وبالتالي فهو نافذ الصبر حتى مع نفسه وأنت ترى أن هذه الأعمال تتغاير مع بعضها ويصعب الجمع بينها إلا أنها لمثل هؤلاء الأشخاص صارت امراً طبيعيّاً ومألوفاً.

3- تنافسيّون جداً.. حتى مع أنفسهم فضلاً عن الآخرين ويلحظ قلّة صبرهم واستقرارهم في إنجاز المهمات التي تحتاج إلى بعض الانتظار أو تقسيم الأدوار أو توزيع المكافئات بل وفي أرتال الانتظار على القطار أو الباص أو المصعد الكهربائي فهذا النوع من الأفراد يميل إلى اجتياز كل ذلك بأسرع ما يمكن فيتسلّق السلالم - مثلاً بسرعة - دفعتين أو ثلاث دفعات - في وثبة واحدة بشراهة بدلاً عن الانتظار لوصول نوبته للمصعد.

فهم ينصبون أهدافاً إمام أعينهم ويسعون حثيثاً للوصول إليها اسرع من الآخرين وعندما يرتكبون خطأ ما أو يسبقهم غيرهم إلى الهدف يكون شعورهم بالقصور والحرمان شديداً فيتذمرون من أنفسهم وإلا يلقون باللوم على الآخرين أو العمل نفسه فيكونون ناقمين على كل شيء، ولذا يتحولون في الغالب إلى أفراد سلبيين لا ينظرون إلا إلى الخطأ - بنظرهم..

وواضح أن هذا الشعور ينشأ من حاجتهم القوية للسيطرة على الأمور وعند الإحساس بالعجز تتحطّم طموحاتهم فيصبحون أكثر تطرفاً وشعوراً بالاحباط والغضب.

4- انغلاقيّون.. فمن النادر أن تجد حولهم اشخاصاً لا علاقة لهم بوظيفتهم أو لا تربطهم بهم رابطة عمل.. وبالتالي فهم غير اجتماعيين ولا يحبون الروابط البعيدة عن اجواء العمل أو قل: أن تفانيهم المتزايد يمنعهم من إقامة علاقات أوسع من محيطهم لذا أنهم في الغالب يستصعبون التحاور مع الناس الآخرين الذين تجمعهم وإيّاهم المشتركات وكأنّهم فارغون من أي اهتمام آخر غير العمل وهمومه ليناقشوها مع الآخرين في أي مستوى وصعيد.. لذلك هم في الغالب لا ياخذون العطل التي يستحقونها ولو أخذوها اختصروها من اجل التواجد في العمل لأنهم يشعرون أنّ راحتهم في إنجاز العمل فلا يتكيّفون إلا في أجوائه كما ينتابهم شعور شديد بأن العمل لا يمكن أن يستمر بدونهم!!

عواقب وخيمة

 ولا يخفى علينا جميعاً كم لهذا النمط من السلوك المستعجل القلق من تأثير على صحة هؤلاء الأفراد واعصاب المتعاملين معهم فضلاً عمّا ينجم عنها من آثار على صعيد العمل..

لأن هؤلاء الأفراد في الغالب يتعرّضون إلى الأمراض والانهيارات العصبية وبهذه النسبة يصاب العمل معهم بالفتور أو التوقف..

أو يزيدون المتعاملين معهم توتراً وقلقاً من شدة وطأة استعجالهم..

بل في الغالب يتسم انجازهم بالنواقص وعدم الأداء الأفضل فيضطر العاملون إلى التكرار أو بذل المزيد من الوقت والطاقة لأجل الاكمال وهذه خسائر كبيرة تعود على المؤسسة على المدى البعيد.

والملحوظ في بعض المؤسسات.. هو أن أمثال هؤلاء الأفراد يحظون بفرص الصعود المستمر والترقي في المناصب أو الأدوار وكسب الامتيازات الأمر الذي يزيدهم وغولاً في سلوكهم المفرط ويزيد المؤسسة تراجعاً على المدى الأبعد.. خصوصاً في المؤسسات التي تحسب لانجاز الوظائف حسابها وتقيّم الأفراد حسب معايير الكم في الإنجاز ومقدار الوقت والجهد الذي يصرف في الإنجاز والأداء ومن الواضح أن الذي يريد إنجاز المهمة بأي ثمن يفضّل أمثال هؤلاء لأنّهم يحقّقون التطلع الذي تريده الإدارة.. وتزداد المشكلة صعوبة إذا كان المدير نفسه أو العناصر المؤثرة في المؤسسة مبتلاة بهذا الداء..

لأن حاجتهم إلى التنافس الشديد يجبرهم على عدم قبول الهزيمة بأي ثمن أو عدم الاقتناع بالمستوى المقبول من العطاء فيضغطون على العمل والأفراد دائماً من أجل بذل المزيد وبذلك فإما يزيدون العلاقات الداخلية توتراً ويتفجر الغضب بين آونة وأخرى هنا وهناك وهو أمر يأخذ المزيد من الوقت والجهد والأعصاب من أجل الوقوف أمامه..

أو يعودوا بالعمل إلى مستوى متدنّي جداً من الأداء بسبب التعب الذي ينهك العاملين ويشعرهم بالمزيد من الحرمان من الحقوق الطبيعية في الراحة والتمتع بالحيوية الجديدة.. فلذلك تجد حالة التذمر مستبشرية بين العاملين في الغالب وبعضهم يصرحون دائماً بعدم رضاهم عن العمل وبعدم تقدير المسؤولين لطاقاتهم وجهودهم وحينما يصبح العاملون غير راضين على أوضاعهم يبتعدون روحيا عن الشعور بالمسؤولية الشديدة تجاه المؤسسة فتتردى اوضاعهم الصحية والأدائية فيتهربون من المهمات والمسؤوليات أو تكثر عندهم طلبات الاجازات بحجج مفتعلة.

المدير المستعجل وآثاره السلبية

والمشكلة الأدهى.. أن هذا النمط من الإدارة قد يصيب المؤسسات بالعقم والعجز عن تربية الكوادر والكفاءات في الغالب لأن المدير المستعجل والتنافسي لا يبقي له شعوره هذا ثقة بالآخرين أو في قدرتهم على تحقيق النجاحات فيرى أن من الاسرع والأفضل له وللعمل أن ينجز المهمات بنفسه بدلاً من تضييع الوقت لتعليم الآخرين واعدادهم لانجاز المهمات لذلك يخفق في تطوير نفسه اولاً لانشغاله بالجزئيات الكثيرة التي تمنعه من التطور والرقي..

ويخفق في تطوير موظفيه ومندوبيه والعاملين معه ولا شك أن هذا وحده يكفي لتراجع المؤسسة وفشلها في آخر المطاف.. هذا من جهة ومن جهة أخرى يجعل الاجواء الداخلية والعلاقات الإنسانية في المؤسسة محكومة بالمزيد من الغضب والعدائية وفي النهاية نجد: أن أمثال هذه المؤسسات تعاني من عواقب وخيمة نتيجة هؤلاء الأفراد اللا متوازنين والمدمنين على الكدح والعمل والميالين إلى الكمالية بلا تعقل واستقرار - سواء كانوا مدراء أو عاملين -.

الشخصيّات الحادّة

الحدّية من اخطر الأمور التي تهدّد العلاقات الإنسانية وتحوّلها إلى جحيم.. فكيف بها إذا صارت حالة عند بعض الأفراد العاملين في جماعة واحدة.. والخطير فيها أنها إذا لم تعالج في بادئ أمرها تستفحل وتتفاقم فتبتدأ من نوازع الشر وتكتنه الحقد والغضب وإذا تفجرت يقرنها العنف والقسوة والعدوان.. يقول علماء الأخلاق: أن العداء والعدوانية حالة تنشأ من الطبيعة السُبعيّة في الإنسان التي تدفعه إلى اثبات نفسه وقوّته وسيطرته بالعنف والقوة وبما أن الإنسان عاقل مفكّر يدرك المحاسن والقبائح والخيرات والشرور فهو قادر على ضبط سُبعيته وتهذيبها لتتجلّى قواها في الايجابيات كالغيرة والحمية والنصرة والدفاع عن الحقوق المهضومة لا السلبيات كالإيذاء والظلم والعدوان(1) ومن هنا سميت القوة المفكرة عند الإنسان بالعقل لأنه يعقل صاحبه ويضبط سلوكه وتصرفاته. وفي اللغة العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردّها عن هواها. وسمّي العقل عقلاً لانّه يعقل صاحبه عن التورّط في المهالك(2).

وعن مولانا أمير المؤمنين… :

(الحدّة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم فان لم يندم فجنونه مستحكم)(3)

ومن الواضح أن طبايع الأفراد تتجلّى اكثر في ساحة العمل وأوقات الاحتدام والمنافسة لذا فأن اكثر ما يحتاجه العاملون في أوقات العمل هو فن التعامل الأفضل وهو لا يكتمل إلا بتوفير القدرة على تشخيص الحالات المرضية ثم القدرة على معالجتها..

لذا فان أوّل شيء ينبغي أن نعرفه هو سمات الشخصية الحادّة والتي يصطلح عليها في علم النفس الاجتماعي بـ(العدائية).. وطبعاً عندما نتحدّث عن هذه الصفات فإن هذا لا يعني أن الشخصيات العدائية شديدة في واقعها أو خبيثة الباطن بل نتحدّث عن صفات وسمات تنجر إلى ما لا يحمد عقباه وكم من خطأ في عمل أو نقص في كمال سبّب المزيد من الشر وانقاد إلى ما لا يرتضيه أهله وجاءهم بالضرّر من حيث لا يحتسبون..

صفات الشخصيات الحادّة

إذا تتبعنا سلوك الشخصيات الحادّة نجد بروز صفات خاصة على سلوكهم تلوّن أساليبهم في التعامل والأخذ والرّد سواء على صعيد الفكر أو العمل أو الأخلاق الاجتماعية وقد حدّد علماء النفس الاجتماعي هذه الصفات في جملة أمور هي:

1- عندما يعرض رأيه يغلق أمامها احتمال الخطأ أو النقصان وبالتالي لا يكتفي بطرح فكرته بل يطرحها على أنّها الواقع الذي لا يقبل النقاش.

وإذا أراد استنتاج فكرة من خطاب أو كلام يحادثه به الآخرون يتسرّع في استنتاجه ويحسم الرأي بفكرة واحدة قاطعة لا تقبل الشك أو الترديد.

2- يتسرّع في الحط من الآخرين ويتعالى على أفكارهم وقدراتهم وفي أوقات الأزمة أو المشاكل يتسرّع أيضا في إلقاء اللوم على الآخرين لكي ينزّه نفسه من كل مسؤولية أو خطأ وفي الغالب لا تجده يشيد بفكرة أو موقف لأحد مهما كان يستحق الاشادة بعين الانصاف بل يفتّش عن العيوب في أفكار الآخرين ومواقفهم زاعماً انّه صريح وأنّه لا يجامل أو غير ذلك من المزاعم.

3- إذا تحدّث يكرّر كلمة (أنا) ويشيد كثيراً بمواقفه ويحب التحدّث عن آرائه وبطولاته ويستخدم الايماءات اليدويّة بافراط كالتلويح والتحرّك في مقعده أو الضرب على الطاولة وفي الغالب يقدّم النصائح للآخرين حول الإنجاز أو التخطيط أو الممارسات.

4- يصرخ حين يغضب أو يتكلّم بلغة التهديد والانذار ويقاطع كلام الآخرين إذا أراد ابداء رأيه وإذا قاطعه أحد ينزعج.. لأنّه سريع الغضب ويلجأ إلى التحديق الثاقب والقاسي حينما يغضب أو ينزعج.

وإذا وقف جنب أحد يكاد يلتصق به ويعضّ على شفتيه بقوة وإذا تنازع مع أحد فهو آخر من يسكت وآخر من يصرف نظراته المحملقة في وجه الآخرين وخطابه فضّ ومتوتر وعال.

وأنت ترى أن مجموع هذه الصفات تشكّل جوهر الشخصيّة الحادّة التي إن لم تجد ما يرضيها قد تتخذ ردود أفعال تتسم بالعدوانية اكثر مما تتسم بالتعقّل وفي بعض الأحيان العنف والصرامة أوّل سلاح ترفعه في النزاع.. إن الأشخاص الذي يتسمون بهذه الصفات قليلاً ما يتسامحون أو يتغافلون عن أخطاء الآخرين ولأنّهم يشعرون بنوع من التفوّق على الآخرين فهم يميلون شديداً إلى الفوز والسيطرة في المواقف فإذا استجاب لهم الآخرون وإلا طغت على تصرفاتهم الأساليب غير النبيلة والمتناسية لابسط الأخلاق والحقوق ولأجل اتفه الأمور.

إنّ بعض الأفراد من هذا النوع طيبون ويحبون الآخرين إلا أن المشكلة تكمن في عواطفهم وأحاسيسهم التي إذا انفلتت لا يقدرون على ضبطها بالعقل أو الحكمة أو الأخلاق لذا فإنهم يشعرون بالندم بل والذنب بعد أن تهدأ الفورة ويرجع كل شيء إلى نصابه وحينئذٍ يبدأ يتفاقم عندهم شعور معاكس لما سبّبوه للآخرين من تجاوز وعدائية لذا فانّهم يسعون للتخفيف من وطأة هذا الشعور المؤلم الذي يقوّض مضاجعهم فيلجأون إلى الاعتذار بطريقة مفرطة أيضا فيبدأون بالقاء اللوم على الآخرين أو على الساعة الشيطانية التي كانوا فيها أو النزاع الذي سبّبه لهم فلان في البيت أو في العمل أو غير ذلك من تبريرات وهو أمر يعود عليهم بالمزيد من التحطيم النفسي والشعور بالضِعة ولأن الفرد منهم حادّ المزاج ينعكس عليه شخصياً فيبدو ناقماً من نفسه و وغاضباً على وضعه.. لانّ العنف لا يعرف حدوداً فان لم ينعكس على الخارج فأنّه يرتدّ على الداخل بشكل مساوي أو أعنف لانّ العنف يولّد العنف كما يقولون.

 لتحايل والتخريب.. من نتائج الحدية

والملفت للنظر في العديد من التجارب أن هذا النوع من الأفراد فضلاً عن الأجواء الصعبة والمتوترة التي يوجدها في أجواء العمل قد يعلّم الأفراد على أساليب التحايل والتخريب الداخلي خصوصاً إذا كان المدير هو الذي يتصف بهذه الصفات.

فان سلوكاً متشدّداً وصعباً وقاسياً كهذا يقضي على الإحساس بالهدوء والاطمئنان ويهبط بمستوى المعنويات في أداء الأعمال لأن بعض المظلومين جرّاء هذا النوع من الأفراد قد يلجأون إلى الردّ المماثل والمقابلة بالمثل إلا أن العديد منهم وخصوصاً أصحاب الوقار والسكينة يعمدون إلى كبت مشاعرهم ويضمرون الرغبة في الرد المماثل لأنّهم يترفّعون عنه في الظاهر فيستبطنون طرقاً حاذقة وهادئة للانتصار لأنفسهم واسترداد كرامتهم التي هدرها العدوان فيعمدون إلى النميمة على الشخص الحاد - خصوصاً المدير - لاسقاطه أو تخريب خططه ومشاريعه وفي أحسن الفروض يُفشِلون المهمات الموكلة إليهم لتحسب في نهاية الأمر على فشل المدير نفسه.

وهذه كلّها في مجموعها صفات من شأنها أن تنزل بمستوى العمل والعاملين إلى أردأ المستويات.

هذا ويشعر بعض ارباب العمل الحادّين في اساليبهم بالمزيد من التراجع في إنجاز المهمات كما تعاني مؤسساتهم مزيداً من الفوضى والاضطراب وبين كلّ آونة وأخرى تظهر أزمات ومشاكل تقلق الجميع..

لانّ الخوف الذي يشعر به العاملون من هكذا مدير ينتهي في نهاية المطاف إلى شعور العاملين بالحرمان ولمّا لا يجدون طريقاً صحيحا لاسترداد الحقوق يلجأوون إلى الطرق السرّية أو الماكرة لانتزاعها فمثلاً:

بعضهم يبدو متعاوناً لطيفاً لكنّه يحاول الطعن به في الظهر ويؤجل نشاطات العمل كلّما سنحت له الفرصة.

كما يشعر بسعادة كبيرة عندما يترك المدير العدائي يحفر قبره بيديه - كما يعبرون عنه - بل إذا وجدوه في أشد ساعات الحرج والشدّة لا يكتفون بعدم مساعدته لانقاذ نفسه بل يزيدونه وقوعاً في المأساة..

فقراراته الخاطئة يمضونها ويزيدون الآخرين تشكيكاً به ولا يوجّهون ما يصدر عنه من أفعال قد تحمل على الصحة إلا بتوجيه خاطئ وإذا وجدوا من يطعن فيه يزيدون على مطاعنه لتتفاقم الأزمة.. كل ذلك لأنهم يجدون هذا الشكل من المعارضة والخلاف هو الطريقة الوحيدة التي ينالون فيها من شخصية المدير الصعبة ويثأرون لحقوقهم المنتهكة.

وواضح.. أن هكذا منظمة أو مؤسسة تعاني من حدّة أفرادها - العاملون والمدراء - تزداد تقهقراً معنوياً ومادياً بسبب تهرّب العاملين من المسؤوليات لتفادي المدير أو الزميل الحاد هذا فضلاً عن تدنّي مستويات الإبداع والشعور بالمسؤولية والتعاطف والتعاون الجماعي.. فالافراد الذي يلطّفون الأجواء أو يغمرون القرارات بالحكمة والانصاف في هكذا جماعات إمّا مكبوتون أو يتركون الخطأ على حاله ليدفع الحادون ثمن أخطائهم وحدّيتهم. والمشكلة الأدهى حقاً أن الشخص الحادّ إذا كان قوي الشخصية والتاثير يقع في الغالب محط عناية الأعلى منه فيتركه يتصرّف على هواه لنجاحاته الظاهرة فيتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نموذج يحتذى لمن هم دونه فيتعزّز النهج العدائي الحادّ في سلوك الأفراد ممّا يطبع المؤسسة بشكل عام بطابع العدائية والفظاظة ويقودها شيئاً فشيئاً إلى الانفجار الذي لا رجاء معه للاصلاح..

التعايش والتأقلم مع الآخرين

سنرجئ الحديث عن أسلوب التعامل مع هذه الشخصيّات إلى العدد القادم إلا أننا سنكتفي ببعض الخطوات هنا كعوامل مهمّة جداً ومساعدة للتعاطي مع هؤلاء الأشخاص فانّ مما لا شك فيه أن حياتنا تصبح اكثر متعة لو استطعنا إدارة الآخرين بالحكمة والتدبير كما أن شعورنا بفائدة وجودنا وأهمية دورنا في العمل يزداد ويتبلور اكثر في معالجة هكذا أفراد فان من أهم نقاط القوة في الواحد منّا أن يصبح وجوده معطاءً ودوره ممّا لا يستغنى عنه ابداً..

وهذا مما لا يتحقق إلا إذا استثمرنا طاقاتنا وصرفناها في ابعادها الإيجابية لنكون معطائين بنّائين وبعكسه سيكون من السهل على الآخرين تجاوزنا أو اهمالنا خصوصاً وانّ البنّائين اكثر فان لم ينجز الإنسان دوره بشكل إيجابي سيكون من السرعان أن يحتل موقعه الآخرون لأنّ الحياة لا تقبل الانتظار وقطار العمل لابد وان يمشي ومن سنّة الله سبحانه أن يستبدل قوماً مكان آخرين إذا قصّر الأوائل وتخلّفوا عن أداء أدوارهم بالشكل الإيجابي الصحيح..

ولعل أول خطوة في فن التعامل مع الآخرين هي:

الإيمان بقبول الآخرين على ما هم عليه من صفات وخصوصيات وتلقين النفس بهذا المبدأ.. وبمعنى آخر الإدمان على حالة التعايش مع الآخرين والتكيّف مع أوضاعهم.. لاشك أن الأفضل من هذا هو السّعي لتغيير الآخرين ومعالجة أمراضهم إلى جانب السعي المتواصل لمعالجة امراضنا الخاصة أيضا للقضاء على النواقص وتبديل السلبيات إلى ايجابيات لأنه مقتضى الأمر بالمعروف وتنبيه الغافل وارشاد الجاهل ونحو ذلك من الملاكات وهو أيضا طموح كل فرد مؤمن ومسؤول في المجتمع بل ومسؤولية الجميع حتى نحصل على مجتمع رشيد وامّة واعية.. خصوصاً الأمم الصغيرة كالمؤسسات والدوائر إلا أن هذا ليس دائماً بالمقدور كما قال سبحانه: (لست عليهم بمصيطر) (4) كما هو ليس بالأمر السهل دائماً لذا يبقى أمامنا حلاّن آخران:

أحدهما: الاصطدام بهم والدخول معهم في حروب ونزاعات داخلية تحرق الاخضر واليابس وتنزل بالجميع إلى اسفل المستويات الفكرية والروحية والعملية..

وثانيهما: القبول بالآخرين والسعي للتعايش معهم وهذا في منطق الحكمة والإدارة أسلوب حكيم يضمن للجميع الايجابيات واستثمارها في سبيل التقدم وفي نفس الوقت يحيّد الخصومات وينزل بالعدائية والعراكات إلى أقل مستوياتها بما يضمن للجميع مستويات عالية من الصحة واستقرار البال وهدوء الأعصاب فضلاً عن المحبة والتعاطف والتنسيق..

خطوات عملية أخرى

ولكي نستطيع أن نحتفظ بروح عالية في تحمّل الآخرين والتعايش معهم علينا أن:

* نقبل بالاشخاص الآخرين كما هم لا كما نريد..

* التذكّر دائماً انه لا يوجد أشخاص مثاليّون دائماً ولا جميع الناس أنيباء ولا أولياء بل الجميع بشر والبشر يخطأ ويغفل وربّما يؤذي ويتعصّب ويفرح ويحزن ويعمل ويكسل وينتصر وينهزم.

ونحن لا نمتلك القدرات الخارقة على معالجة الناس أو تغييرهم بالمعاجز والكرامات فلم يبق أمامنا إلا أن نعمل على تهذيب أنفسنا أولاً لأننا أيضاً منهم قد نتصف بصفاتهم ونمتلك مزاياهم..

ثم نعمل على توجيههم وارشادهم إلى الأفضل مهما امكن وهذا يتطلّب منّا المزيد من المرونة وسعة الصدر وطول النفس والمتابعات المستمرة وتوفير الأجواء الإيجابية حتى نهيّئ أجواء التغيير الصالحة ومع ذلك يبقى قرار التغيير والتغيّر الأخير بأيديهم..

فإن لم نتوفق في ذلك سريعاً بنحو كلّي أو جزئي فلم يبق أمامنا إلا العمل على مبدأ قبولهم والتعايش معهم.. ولا أظن أن أحداً منّا يلتفت إلى هذه المعادلة الواقعية في الطبع البشري وتبقى أعصابه شديدة التوتر أو يأن من وطأة النزاعات مع الآخرين..

* محاولة التركيز على صفات الأشخاص الإيجابية دائماً وتحفيزها عندهم وغضّ الطرف عن السلبيات من أجل علاجها بشكل غير مباشر.. وعبر الوسائل الإيجابية لا شك أن كل شخص منّا يمتلك ايجابيات كثيرة ولكنّها في كثير من الأحيان يخبو ضوءها في مقابل السلبيات لأنّ الصفات السلبية نشاز والحالة الناشزة صاخبة ظاهرة لأنها من افرازات الحدّة والغضب. فتغطّي على ايجابيات الفرد لأنها من مظاهر العقل..

لذا فان افضل طريقة لمعالجتها أو الوقوف امامها هو تحفيز الايجابيات لدى الأشخاص بمعنى تحفيز العقل وتحريك الحس الإنساني النبيل فيهم الذي غطته الأزمات وأخفته التوترات وراءها..

فانّا بهذا نحوّل الفرد من سلبي إلى إيجابي وباستمرار الحث والمتابعة سنتمكن أن نقضي على السلبيات عنده لأنّا في هذا لا نعدم من وجود انصار لنا على مكافحتها وأول الانصار هو إحساس كل إنسان بقبح النواقص ومذموميتها وحب التمرّد عليها وبعكسه حب التحلّي بالفضائل والكمالات أليس كذلك؟!

لقّن نفسك بالترفّع عن النواقص

 * تلقين النفس دائماً بضرورة الوقار والتوازن والحفاظ على أعلى مستوى من المعنوية والترّفع عن النواقص من أهم العمليات التهذيبية لصنع الإنسان الكامل.. إن اكثر حالات التراجع النفسي والانهيار العصبي والاصطدامات تنشأ من عدم ضبط النفس والانفجارات أمام الأشياء البسيطة التي إذا جلس الإنسان بعد فترة الهدوء وفكّر فيها لوجدها تافهة جداً ما كانت تستحق كل هذا الاهتمام.. لذا علينا دائماً أن نمتلك أنفسنا خصوصاً حينما نتحمّل القشّة التي تقصم ظهر البعير فإنا لو فكّرنا أنّها قشّة وصغيرة مهما كبرت أمام قوّة شخصيّتنا وعنفواننا واحترامنا لأنفسنا فضلاً عن إيماننا بالله سبحانه الذي يجعلنا سبحانه دائماً على محك الامتحان والاختبار في كل الحالات سنجد أن حملها من أبسط ما يكون بالقياس إلى ما نتحمّله من هموم ومشاكل..

فإنّ الإنسان المؤمن كالجبل الذي لا تهزّه العواصف فكيف تقصم ظهره قشّة وإن قصمت ظهر بعير..؟!

إذاً السيطرة التامة على الأعصاب في كل الأوقات والحالات وعدم السماح لأي شخص كان أن يثير نوازعنا كفيل بأن يشعرنا بأن من ابسط الأمور مواجهة الأشخاص الصعبين وإدارتهم بعين الرّضا بلا شعور بالألم ولا تحرّق بنار الغضب ولا أزمات ولا معاناة مشاكل بل في بعض الأحيان سنجد أن مقابلة الأشخاص الصعبين فيه من المتع الكثيرة التي تشعرنا بالنجاح لأنها تشعرنا بالمزيد من الموفقية في معالجتهم أو تحييدهم أو استثمار إيجابياتهم كما تعرضنا لتجارب واختبارات حقيقية في تحمّل الآخرين وإدارة الأزمات..

* كما علينا أن نعرف بأنّا إذا اعتمدنا نمطاً صلباً أو حادّاً في السلوك ولم نبد مرونة اوسعة صدر سوف ننشئ حواجز نفسية وشعورية لرفض الآخرين والتنافر معهم وبهذا سوف نغلق أمامنا فرص اللقاء والمعالجات وهو وحده كفيل بزيادة نسبة سوء الظن وسوء التفاهم الأمر الذي يزيد العدائية والحقد بيننا ثم يتفجّر هنا وهناك بشكل صدامات أو أعمال سلبية.

معاناة الحدّية

إن الأزمة النفسية التي يشعر بها بعض المدراء الحادّين لا شك مؤلمة جداً وتقوّض منامهم وراحتهم واستقرارهم النفسي لأن المواجهة السلبية مع الأشخاص الصعبين تنتهي إلى الشعور بالنزول والهبوط في مستوى الرزانة واحترام الذات أمامهم أو أمام الأزمة وهو أمر أشدّ وطأة على قلب المدير الذي يحترم نفسه أو الذي يتمتّع بمكانة مرموقة بين الآخرين وفي كثير من الأحيان يعود عليهم بالشعور باليأس والإحباط في معالجة الآخرين أو ادارتهم بالطريقة الأفضل وهو ليس ينعكس على حياتهم الإدارية فقط بل ينعكس على حياتهم الشخصية أيضا ويشعرهم بالبؤس والتعاسة.

كل ذلك لأنّه تصرّف بصورة معاكسة مع شخص صعب في العمل كان يمكن معالجته بأسلوب أفضل واكثر نجاحاً إذن.. الترفّع على النواقص والاحترام الذاتي والتعامل مع الأمور بروح أبوية وعاطفة أخوية وبعقلية المرشد الموجّه خير من معاملتها بروح القائد العسكري الذي يأمر فيطاع وينظر إلى المعادلات بعين الصرامة والحسم ولا يتحمل قراره نقاشاً أو حواراً.

* وعلينا أن نتذكّر دائماً أنّنا قد نكون أيضا من الشخصيات الصعبة التي نسبّب للمتعاملين معنا المزيد من المتاعب والآلام.. فماذا ينبغي علينا أن نعمل من أجل التخلّص من هذا الدّاء العضال؟

وما هي توقعاتنا تجاه تعامل الآخرين معنا؟

وأخيراً.. علينا أن نتذكر دائماً أن الدعابة واللطافة والبشر والهشاشة التي هي من أولى صفات المؤمنين المطمئنين بوعد الله سبحانه ورحمته هي من افضل الوسائل الفعّالة في جذب قلوب الآخرين والتعاطي معهم بسهولة ومحبّة وتبديل الأوضاع المتوتّرة إلى أجواء صافية وطبيعيّة..

1- جامع السعادات، ج1، ص28-34، بتصرف.

2- لسان العرب، مجلد11، ص458-459.

3- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج19، ب252، ص96.

4- الغاشية، 23.