2000  تشرين الثاني

1421  شعبان 

51  العدد

مجلة  

 ثـم ماذا؟

.. الأسعار

النفط

محمد آدم

اقتصاد وخدمات

تخوف المجلة

التفاؤل لا يزال بعد

معادلة الربح والاستهلاك

مغالطات واضحة

لن تتكرر التجربة نفسها

تعارض السياسات 

مشكلة دول الخليج 

من الطبيعي أن يكون الاتجاه التصاعدي لأسعار النفط هذه الأيام هو محل اهتمام الغرب، سواء من قبل المستهلك، أو صناع القرار السياسي، أو المشتغلين في الاقتصاد واسواق المال والأعمال. هذا أمر متوقع، لكن السؤال هنا هو:

 كيف تبدو اشكالية الاتجاه التصاعدي الحالي في أسعار النفط من ناحية وصناع القرار في القطاعين العام والخاص من ناحية أخرى؟ ثم كيف تبدو هذه الاشكالية نفسها في تناول الموضوع نفسه في الدول المنتجة للنفط؟ وإذا كان ارتفاع أسعار النفط يؤدي إلى نتائج سلبية للاقتصاديات الغربية، فهل أن هذا الارتفاع يؤدي إلى مردود إيجابي بالنسبة إلى اقتصاديات الدول المنتجة له؟ ما يبدو هو أن اكثر القطاعات اهتماماً وتحسساً بخطورة هذا الاتجاه هو الإعلام، فهذه مجلة الـ(ايكونومست) البريطانية في عددها الأخير، وهي من ابرز المجلات الأوربية، تقول: أن هناك نوعاً من الاطمئنان، يبدو منطقياً عندما ينظر المرء إلى حالة الاقتصاد العالمي هذه الأيام، ففي هذه السنة يتوقع أن يتمتع هذا الاقتصاد بالجمع بين أعلى معدل للنمو خلال 16 سنة، واقل معدل للتضخم خلال اكثر من ثلاثين سنة، وأقل معدل للتضخم خلال اكثر من ثلاثين سنة. وهذا مؤشر على متانة معطيات النمو في الاقتصاد العالمي، وعلى استقرار هذا النمو وعدم قابليته للتأثر بدرجة سلبية كبيرة للتصاعد الأخير في أسعار النفط، يعزز ذلك أن تضاعف أسعار النفط لثلاث مرات خلال السنتين الماضيتين (من 10 دولارات للبرميل في عام 1998، إلى اكثر من 30 دولاراً للبرميل هذه السنة، جاء في اعقاب تدهور حاد في أسعار هذه المادة الاستراتيجية.

وبالتالي فان القيمة الحقيقية لسعر النفط الآن لا تزال اقل بمعدل الثلث مقارنة مع سعره في عام 1990 إلى جانب ذلك فإن دور النفط الآن في الاقتصاد اقل مما كان عليه في الماضي، وذلك لعدة أسباب منها أن الاقتصاد العالمي، تحول خلال العقود الثلاثة الماضية من اقتصاد يعتمد بشكل أساسي على الصناعة، وخاصة الصناعة الثقيلة، إلى اقتصاد خدمات ومعلوماتية، هذا بالإضافة إلى التحول أن مصادر طاقة بديلة للنفط ساعد الاقتصاد الغربي حالياً على أن لا يستهلك إلا نصف ما كان يستهلكه في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، كل ذلك يشير إلى أن اثر التصاعد الحالي في أسعار النفط على ارتفاع معدل التضخم سيكون محدوداً جداً خاصة أن التضخم في الاقتصاد العالمي لا يزال تحت السيطرة.

تخوف المجلة

ومع ذلك ترى مجلة (ايكونومست) أن كل ما يشير إلى تراجع دور النفط في الاقتصاد العالمي، هو ابعد ما يكون عن القول أن ارتفاع أسعار النفط الحالية لا أهمية لها على الاطلاق، ما الذي تتخوف منه هذه المجلة على وجه التحديد؟ تكمن الإجابة كما تقول في إمكانية التصاعد الاخير في أسعار النفط ليس مؤقتاً، وإنما قد يستمر لفترة أطول مما يتصور البعض. ومن هنا يأتي التخوف من الآثار التضخمية لأسعار النفط على الاقتصاديات الغنية الغربية، والأثر الذي سوف يتركه ذلك في معدلات النمو لتلك الاقتصاديات.

لكن الحقيقة أن ما تقوله الـ(ايكونومست) هنا يعكس تخوفات تتعلق بالوضع الاقتصادي في أوربا خاصة معدلات التضخم والأسعار، ومعدلات البطالة والنمو، وهناك مقارنة مع الوضع الذي عليه الاقتصاد الأمريكي، فهذا الأخير تمتع خلال السنوات الثماني الماضية بمعدلات غير مسبوقة من النمو المتواصل مقرونة بانخفاض غير مسبوق أيضا في معدلات التضخم والبطالة. الأمر الذي ترتب عنه ازدهار اقتصادي كبير وتوفر فرص عمل باعداد كبيرة أيضا ترافق مع ذلك وربما نتيجة له، أن تدفقت رؤوس الأموال من خارج الولايات المتحدة إلى أسواق المال الأمريكية في محاولة للاستفادة من الازدهار الاقتصادي هناك، وهذا بدوره أيضا زاد من دفع عجلة النمو إلى التسارع عما كانت عليه، وربما أن المعادلة السحرية للاقتصاد الأمريكي في العقد الأخير تتمثل في الظاهرة الفريدة التي تجمع بين الاتجاه التصاعدي للنمو الاقتصادي والزيادة المطردة لفرص العمل، واتجاه معدلات التضخم نحو الاستقرار في الوقت نفسه، بل أن بعض الاقتصاديين، كما تقول الـ(ايكونومست) يرون أن ارتفاع أسعار النفط قد يكون في صالح الاقتصاد الأمريكي، لأن هذا الارتفاع قد يأخذ شكل الضريبة التي تساعد على الحد من الاستهلاك، ومن ثم تقلل الحاجة إلى رفع معدلات الفائدة بدرجة قد تؤجج معدل التضخم.

اقتصاد وخدمات

وإذا كان من حق الـ(ايكونومست) أن تحاول قرع أجراس الخطر من الاتجاه التصاعدي لأسعار النفط، فانه ينبغي لها أن تعترف مسبقاً إلى من يجب أن تتجه إليه هذه المحاولة، وعدا عن أن هذه المحاولة تعكس كما اشير حالة الاقتصاد الأوربي اكثر من غيره، إلا أنها تنطلق في العمق من اعتبارات سياسية، وفي احسن الأحوال من افتراضات مستقبلية ربما لا يكون لها ما يبررها، فإذا كان الاقتصاد العالمي قد تحول إلى اقتصاد خدمات ويقوم على صناعة المعلومة، وإذا كانت حاجة هذا الاقتصاد إلى النفط قد انخفضت إلى ما يقرب من النصف عما كانت عليه في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، فمن اين جاءت الزيادة في أسعار النفط، وإذا كانت القيمة الحقيقية لسعر النفط كما هو عند مستوى الـ35 دولاراً للبرميل الآن هي اقل بمعدل الثلث عما كانت عليه عام 1990، فإن هذا يشير إلى أن ما حدث ويحدث لأسعار النفط خلال السنتين الأخيرتين لا يعود إلى سياسة الإنتاج لمنظمة الأوبك، خاصة وأن هذه المنظمة تجاوزت السقف الذي حددته لانتاجها بحوالي مليوني برميل في اليوم إلى 29 مليون برميل.

وما يوضح البعد السياسي في مجادلة مجلة الـ(ايكونومست) وغيرها من المؤسسات الإعلامية الغربية، هو تجاهلها الكامل لحقيقة بسيطة وهي انه في الوقت الذي يشكل النفط مصدراً رئيسياً للدخل بالنسبة إلى الدول المصدرة للنفط، إلا انه أيضا يشكل مصدراً مهما للدخل بالنسبة إلى القطاعين العام والخاص في الاقتصاديات الغربية كما تعكس ذلك عمليات المضاربة على هذه السلعة في أسواق الطاقة، واسواق الأوراق المالية. وكما تعكسه أيضا الضرائب التي تفرضها الدول الغربية على النفط بشقيه الخام والمكرر وعلى السلع التي يدخل النفط في تركيبها، وتشير مصادر الأوبك في هذا الصدد إلى أن متوسط سعر برميل النفط في دول الاتحاد الأوربي لعام 1999 وقبل الارتفاع الأخير للأسعار تجاوز 95.1 دولاراً للبرميل منها 64.1 دولاراً تذهب إلى الضرائب. الأمر الذي يؤكد القول أن مجمل دخل بعض الدول الغربية المستهلكة للنفط، والعائد إليها من الضرائب التي تفرضها على هذه السلعة، يفوق احياناً دخل بعض الدول المنتجة من مبيعاتها للنفط الخام فقط وبالتالي فان الحديث عن قصر أسباب ارتفاع أسعار النفط على سياسات الإنتاج لدول الأوبك فيه الكثير من المبالغة، فالى جانب أن إنتاج اوبك من النفط الخام كان في زيادة مستمرة منذ العام الماضي، نجد أن الضرائب على النفط ومشتقاته في الاسواق الغربية في زيادة مستمرة هي الاخرى، بحيث أصبحت تعادل اكثر من ضعف سعر السوق الحالي لهذه السلعة، والاضرابات التي يقوم بها عمال النقل والشحن في أوربا هذه الأيام هي اوضح تعبير عن الوطأة الاقتصادية لهذه الضرائب التي تستخدمها الدول الغربية، وخاصة الأوربية، كآلية للمشاركة في عوائد هذه السلعة، هذه الاضرابات وبالتحديد في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وألمانيا موجهة اساساً ضد الزيادات الكبيرة والمطردة لأسعار الوقود والضرائب المفروضة عليها من قبل تلك الدول.

مغالطات واضحة

ما يهمنا هنا ليس الكشف عن المغالطة الواضحة في تناول الإعلام الغربي لموضوع النفط وأسعاره إنما الذي يهمنا وكما أشرنا في بداية المقال، هو السؤال الذي ينطلق منه هذا التناول مقارنة مع السؤال الذي ينطلق منه تناول الدول المصدرة لهذه السلعة، وخاصة الدول الخليجية منها، فالمغالطة الغربية واضحة إلا أنها مع ذلك تتوفر على فعالية مصدرها ليس الموضوعية، وإنما موازين القوى بين الطرفين، وطبيعة السؤال لدى كل منهما.

 والتناول العربي لأسعار النفط يتسم بموضوعية اكثر، إلا انه اقل فعالية وليس له مردود في نهاية الأمر.

ما هو السبب وراء ذلك؟ الأغلب انه إلى جانب اختلال موازين القوى بين النواحي الاقتصادية والسياسية والعلمية لدى الطرفين، يعود السبب في ذلك إلى أن القضية أو السؤال الذي ينطلق منه كل طرف في تناوله لهذه المسألة يختلف جذرياً عن الآخر.

مسألة النفط وأسعاره بالنسبة إلى الدول الغربية، وهي في أغلبها دول مستهلكة، ليست فقط مسألة تتعلق بجمع الثروة ضمن عملية إنتاج متكاملة، ولذا يتركز الاهتمام الغربي عند الحديث عن أسعار النفط بشكل أساسي على الأثر الذي يمكن أن يتركه ذلك، من قبيل مسائل النمو والتضخم ومعدلات الفائدة لأن هذه هي أهم المؤشرات على حالة الاقتصاد القوي ومتانته.

والضرائب التي تفرضها الدول الغربية على النفط لا تقتصر على الضغط الخام وإلا أصبحت مصدراً ريعياً مثلما هو الحال بالنسبة إلى الدول المصدرة. على العكس تشمل الضرائب جميع مشتقات النفط، بالإضافة إلى السلع التي يدخل في تركيبها ولأن النفط عندما يأتي بشكله الخام إلى هذه الدول يدخل في عملية إنتاج صناعي مركبة وواسعة، فإن الضرائب المفروضة عليه تصبح متعددة، وتصاعدية في الوقت نفسه والذي يحصل في مثل هذه الحالة هو أن الدول الغربية التي يقال أنها مستهلكة للنفط تعيد في واقع الأمر تصدير برميل النفط إلى الدول المصدرة باضعاف السعر الذي دفعته اساساً عند الشراء من أسواق النفط الخام.

في هذا الإطار يصبح اصرار الدول الغربية على خفض أسعار النفط، وتجاهلها لاسباب ارتفاع هذه الأسعار مفهوماً، لأن خفض هذه الأسعار أمر لابد منه للتغطية على الارتفاع المطرد للضرائب المفروضة على هذه السلعة، وللسماح بارتفاع الاجور لامتصاص ذلك الارتفاع.

معادلة الربح والاستهلاك

في المقابل نجد أن النفط وأسعاره بالنسبة إلى الدول المصدرة، وخاصة الدول الخليجية منها، يكاد ينحصر في معادلة الربح والاستهلاك. أي أن ما يهم هذه الدول في موضوع النفط هو بشكل أساسي المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه سعر هذه السلعة في شكلها الخام، على اعتبار أن هذا السعر هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لها لتلبية حاجتها إلى الاستهلاك. لكن هذه الدول من ناحية ثانية، تعتمد في تلبية حاجاتها إلى السلع (من استهلاكية وغيرها) على السوق الغربية، ومن هنا تبرز صورة التبعية المزدوجة للدول المصدرة للنفط، فالدخل الريعي (أسعار النفط الخام) يأتي في جله من الدول الصناعية الغربية، والسلع التي تحتاجها الدول المنتجة تأتي أيضا في اغلبها من السوق الصناعية الغربية، نتيجة لذلك، وعلى الرغم من حقيقة الدور الرئيسي للضرائب الغربية في دفع أسعار النفط الخام إلى الارتفاع، إلا أن الدول المصدرة لا تجد مناصاً من الاستجابة للضغوط الغربية بزيادة انتاجها من النفط الخام للحد من ارتفاع الأسعار، وللتغطية على دور الضرائب والمضاربات التي تحدث في الاسواق الغربية على هذه السلعة. والسبب في ذلك واضح وهو الحاجة الماسة للدول المصدرة إلى استمرار معدلات النمو في الاقتصاديات الغربية لأنه بدون ذلك تتعرض هذه الاقتصاديات إلى الانحسار، ومعه ينحسر الطلب على النفط، ومن ثم تتراجع دخول هذه الدول.

هذه المعادلة تتضمن الكثير من المفارقة، ارتفاع أسعار النفط على المدى الطويل عامل أساسي في تباطؤ معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، مما قد يؤدي به إلى دخول دورة انحسار حادة، كما حدث في عقد الثمانينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من أن السبب في ذلك ينبع من داخل الاقتصاديات الغربية، إلا أن الدول المنتجة للنفط، وكما أشير سابقاً، هي التي تتحمل العبء الرئيسي في المساعدة على تجاوز هذه الحالة حتى وإن أدى ذلك إلى تراجع دخولها من النفط.

من ناحية ثانية وأهم، فان ارتفاع أسعار النفط لم يؤد حتى الآن إلى مردود اقتصادي ذي وزن بالنسبة إلى الدول المنتجة لهذه السلعة، عدا عن أنه يزيد من الشهية الاستهلاكية في هذه الدول إلى درجة أن اقتصادياتها تحولت مع الوقت إلى اقتصاديات استهلاك تعتمد في تلبية حاجاتها على منتجات الأسواق الخارجية وخاصة الأسواق الغربية.

المؤشرات كثيرة على محدودية المردود الاقتصادي لارتفاع أسعار النفط بالنسبة إلى الدول المنتجة له. لاحظ مثلاً انه وبعد ربع قرن من أزمة الطاقة في سبعينات القرن الماضي استطاعت أوربا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية التحول من اقتصاد الصناعات الثقيلة الذي يعتمد كثيراً على استخدام النفط، إلى اقتصاد تكنولوجيا المعلومات الذي يعتمد بدرجة اقل على هذه الطاقة. بهذا كان النفط عاملاً في القلة النوعية التي حدثت للاقتصاد الغربي بطريقة قللت من اعتماد هذا الاقتصاد على النفط، وفي الوقت نفسه زادت من دخوله المتأتية من هذه السلعة. في المقابل نجد أن عمر النفط في الدول المنتجة له في الخليج العربي مثلاً تجاوز الآن خمسين سنة، ومع ذلك ما زالت هذه السلعة تمثل اكثر من 80% من الدخل القومي لهذه الدول. مما يعني انه بعد اكثر من نصف قرن من المتاجرة بالنفط وبعد الدخول الكبيرة التي حصلت عليها الدول المنتجة من ذلك، إلا أنها لم تتجاوز بعد مرحلة اقتصادها الريعي الاستهلاكي، وهي المرحلة نفسها التي بدأت منها تلك الدول اقتصادياتها الحديثة في اوائل النصف الأول من القرن الماضي.

منذ ذلك الحين وحتى الآن لعب النفط عدة ادوار في حياة المجتمعات الخليجية، لكن ليس من بينها خلق بنية اقتصادية تقوم على الإنتاج واعادته، وتنويع مصادر الدخل والاكتفاء الذاتي من السلع الضرورية ومن قوة العمل على العكس كان النفط عاملاً ادى إلى خلق وترسيخ (ثقافة الطفرة) قياساً على الطفرة التي حدثت لأسعار النفط في بداية السبعينات ولقد تحولت هذه الثقافة مع الوقت إلى نسق قيمي يوجه سلوكيات الأفراد والمؤسسات، خاصة الحكومية منها. ومن ابرز سمات هذه الثقافة إلى جانب نمطها الاستهلاكي، انهيار أخلاق العمل في السوق السعودية التي تتميز بكونها سوقاً لا تعتمد على العمالة المحلية، وإنما على العمالة الأجنبية وهذا ما يشير إلى أن بنية الاقتصاد السعودي تكاد تفتقد إلى طبقة عاملة محلية والمفارقة هنا أن نسبة البطالة بين السعوديين والسعوديات تصل إلى 30% وفي الوقت نفسه يصل حجم العمالة غير السعودية إلى سبعة ملايين عامل،اغلبهم في القطاع الخاص، حجم العمالة هذا يشكل ما يقارب 40% من المجموع الكلي للمواطنين السعوديين وهذه مفارقة صارخة.

اقتصاديات دول الخليج وارتفاع أسعار النفط

التفاؤل لا يزال بعد

أدى ارتفاع أسعار النفط في الفترات الأخيرة إلى تساؤل الكثيرين عن مصير (الثروة الجديدة) وكيفية انفاقها ويعود سبب هذا التساؤل إلى الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها دول الخليج في السبعينات حيث قامت بالإنفاق على المشاريع العامة والعملاقة بشكل غير منطقي. ولعل من نتائج هذه التصرفات ظهور الازدواجية في الاقتصاديات الخليجية ونمو هائل في القطاع العام الذي اشتهر بقلة الكفاءة وانخفاض الإنتاجية والبيروقراطية الزائدة. وكان من نتائج ذلك أيضا انحسار القطاع الخاص واعتماده الكامل على القطاع العام والاعانات الحكومية. وقد أدى ذلك إلى انحدار كبير في كفاءة وانتاجية العمال في القطاعات الاقتصادية كافة، كما أدى إلى ظهور جيل جديد وثقافة جديدة تتميز بالاتكالية المطلقة، وانعدام الحافز الذاتي، وتبذير الموارد (بما في ذلك الوقت) ولوم الآخرين.

وقد ادت سياسة السبعينات إلى تحويل المجتمعات الخليجية إلى مجتمعات استهلاكية غير منتجة، ومستوردة لا تصدر إلا النفط ولم تفلح سياسات الدول الخليجية حتى الآن في تقليل الاعتماد على النفط بشكل ملحوظ.

تعارض السياسات الحكومية في الخليج

يبدو أن حجم الثروة في السبعينات سمح بتعارض السياسات الحكومية في دول الخليج والذي أدى فيما بعد إلى نتائج سيئة للغاية. فقد تعارضت سياسة التصنيع مع سياسة التعليم مما حول مشكلة العمالة الأجنبية المؤقتة إلى مشكلة دائمة. وتعارضت سياسة تقليل العمالة الأجنبية مع رغبات القطاع الخاص الذي يعتمد عليها لتخفيض التكاليف من جهة ولأنها المستهلك الرئيس من جهة أخرى، وتعارضت سياسة التصنيع مع السياسات البيئية المعلنة مما أدى إلى انتشار التلوث وتعارضت السياسة التجارية مع المصلحة العامة للاقتصاد حيث تم وضع سياسات للتجارة الخارجية وصرف العملات بما يتناسب مع رغبات تجار القطاع الخاص وليس الاقتصاد ككل، مما زاد في الاستهلاك وزاد الاعتماد على الواردات. كما تعارضت سياسة الانفتاح الاقتصادي وحرية التجارة مع سياسة السماح للاحتكارات في البلاد الخليجية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى جودة البضائع، وتعارضت سياسة الاعانات الحكومية مع سياسة تشجيع القطاع الخاص وزيادة الإنتاجية. كذلك تعارضت السياسة الزراعية مع سياسة ترشيد المياه فانخفض مستوى المياه الجوفية إلى حد كبير مما سيؤثر عكسياً على أي تنمية اقتصادية في المستقبل.

لن تتكرر التجربة نفسها

لا شك أن المهتمين في هذا الموضوع يقرعون أجراس الخطر في محاولة لتنبيه المسؤولين إلى الاستفادة من اخطاء السبعينات. ولكن هؤلاء يقرعون أجراس الخطر بشكل مبكر لعدة أسباب اهمها جهل اغلبهم بأسواق النفط من جهة والتطورات التي حصلت خلال العشرين سنة الماضية من جهة أخرى. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: أين الثروة التي يتكلمون عنها؟ أين هي أموال النفط الاضافية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط؟

وعادة ما يكون جوابهم: أن السعودية تقوم بجني أموال ضخمة لأنها بَنَتْ ميزانيتها على أساس 19 دولاراً للبرميل في الوقت الذي وصلت فيه أسعار النفط إلى 35 دولاراً للبرميل. وبما أن السعودية تنتج حوالي 5.8 مليون برميل يومياً فإن حجم الفائض سيكون بحدود 136 مليون دولار يومياً!

هل هذا صحيح؟ لا بل هو عين الخطأ والجهل والاجحاف للأسباب التالية التي توضح أن حجم الأموال التي تجنيها السعودية فوق حاجز الـ19 دولاراً بسيط للغاية:

1) إن السعر الذي تستلمه دول الخليج اقل من أسعار البورصة بالعديد من الدولارات للأسباب الثلاثة التالية: أ) أسعار نفط الخليج بشكل عام أقل من السعر المذكور (35 دولاراً) والذي هو سعر نفط غرب تكساس في أسواق نيويورك.

فسعر النفط العربي الخفيف أقل منه بحدود 3 دولارات بينما سعر نفط دبي أقل منه بحدود 5 دولارات.

ب) إن نسبة بسيطة من نفط الخليج تذهب إلى البورصة بينما يتم بيع الباقي عبر عقود بين دول الخليج وشركات النفط الكبرى وعادة ما يكون سعر العقود أقل من أسعار البورصة بالعديد من الدولارات.

ج) إن اغلب أسعار النفط المباع عبر العقود النفطية ثابتة خلال مدة العقد بينما من الممكن أن تتغير أسعار النفط في البورصة وترتفع إلى مستويات عالية في الوقت الذي يباع النفط فيه عن طريق العقود بأسعار اقل.

د) إن الخليج ينتج انواعاً مختلفة من النفط بعضها ما زال سعره أقل من 15 دولاراً للبرميل وخاصة بعض أنواع النفط الثقيل الذي تنتجه كل دول الخليج تقريباً.

هـ) انخفضت أسعار النفط منذ فترة في أسواق نيويورك إلى 22 دولاراً للبرميل مما يعني أن أسعار نفط الخليج كانت أقل من ذلك وبحدود الـ19 دولاراً التي اقرتها السعودية في التخطيط لميزانيتها. لذلك فإن علينا أن ننظر إلى متوسط الأسعار السنوي وليس الأسعار العالية فقط.

2) إن تجربة السبعينيات كانت نتيجة ارتفاع أسعار النفط اكثر من 15 ضعفاً ولفترة (8) سنوات أما الآن فإن الأسعار ارتفعت (3) أضعاف ولفترة سنة ونصف السنة فقط. مما يعني أن كمية الأموال التي تجنيها دول الخليج حالياً صغيرة جداً إذا ما قورنت بتلك التي جنتها في السبعنيات لذلك فانه من الخطأ المقارنة بين إنفاق فترة السبعينيات والإنفاق الناتج عن ارتفاع الأسعار الحالية.

وقد نسي هؤلاء أن انخفاض أسعار النفط في 1998 و1999 أدى إلى عجز كبير في ميزانيات الدول الخليجية وقيام هذه الدولة بالاستدانة من المؤسسات الدولية والبنوك الخاصة. وترتب عن ذلك سداد هذه الديون مع الفوائد المستحقة عليها. لذلك فإن جزءاً كبيراً من الفائض سيذهب لسداد العجز في الميزانيات وسداد الفوائد على الديون. وتوفية جزء من هذه الديون. وفي الحقيقة فإنه رغم ارتفاع أسعار النفط وتوقع استمراره حتى العام القادم فإن العديد من الدول الخليجية ستظل تعاني من عجز في ميزانيتها خلال السنوات القادمة. فاين هو الفائض الذي تقرع أجراس الخطر من أجل كيفية انفاقه؟

وبغرض استمرار أسعار النفط في مستوياتها الحالية لعدة سنوات في المستقبل فإن اخطاء السبعينيات لن تتكرر بسبب الفروق الكبيرة بين فترة السبعينيات والآن. ومن هذه الفروق انخفاض كبير في نسبة الأمية وانتشار التعليم الجامعي وانتشار النظم المؤسساتية.

ولا شك أن أهم التغيرات هو الوعي الكبير لدى الجميع بأن الحكومات الخليجية لا يمكن أن تكون أما للجميع ولابد أن يكبر الطفل ويعتمد على نفسه من دون مساعدة أحد. لذلك فإن ارتفاع أسعار النفط حتى لفترة طويلة من الزمن لن يؤدي إلى اعادة نظم الاعانات التي سادت في السبعينيات والتي أدت إلى تشوه اقتصاديات دول الخليج بشكل كبير.

وفي الحقيقة فإنه لا يمكن لوم حكومات دول الخليج على كل الأخطاء التي حصلت في فترة السبعينات لان ندرة الكفاءات الوطنية في ذلك الوقت ادت إلى لجوء هذه الدول لاستشارة البنك الدولي وصندوق النقد وبيوت الاستشارات في العواصم الأوربية والامريكية. إن تكرار تجربة السبعينات في المستقبل لا يعني فشل الحكومات الخليجية بقدر ما يعني فشل الخبرات الخليجية التي صرف مئات الملايين من الدولارات للتعلم والتدريب في الخارج ويكفي أن نذكر أن حملة الدكتوراه كانوا يعدون بالاصابع في اوائل السبعينات. أما الآن فإن نسبة حملة الدكتوراه إلى عدد السكان هي أعلى نسبة في العالم.

مشكلة دول الخليج ليست أسعار النفط

إن مشكلة دول الخليج كما ذكرت سابقاً في حواراتي لا علاقة لها بأسعار النفط الاضافية. إن المشكلة تكمن في انخفاض إنتاجية العمال، والتي تعتبر من أدنى المستويات في العالم. كما تكمن في انعدام الشفافية بسبب القوانين غير المناسبة، والاعانات الحكومية، وسياسات الحماية ووجود الاحتكارات.

إن هذه القوانين التي كان يجب أن تتغير منذ زمن بعيد هي التي أدت إلى انخفاض إنتاجية العمال سواء المواطنين أو الوافدين، وهي التي خلقت القطاع العام ذا الحجم الهائل، وهي التي ولدت الاحتكارات وحمتها، وهي التي شكلت عائقاً في وجه الصادرات غير النفطية. إن اثر تغير هذه القوانين في اقتصاديات الخليج على المدى الطويل اكبر بكثير من ارتفاع أسعار النفط ولابد أن ينضب النفط يوماً ما، ولكن عرق العمال والفلاحين لن ينضب، لذلك يجب التركيز على المصدر الذي لا ينضب وليس العكس؛ إن الفترة القادمة ستشكل اكبر تحد تمر به الطبقة المثقفة والعمالة الوطنية الماهرة في الخليج. وستحدد الفترة القادمة مدى جدوى استثمار الحكومات الخليجية في قطاع التعليم بكل مستوياته. والأمل أن يكون استثمار الدول الخليجية في مجال التعليم خلال العشرين سنة الماضية أنجح مشروع قامت به حتى الآن.