2000   آيلول

1421  جمادي الثاني 

49   العدد

مجلة   النبأ

ــــــــــ  الهجاء بوصفه عنفاً  ــــــــــ

حيدر الجراح

في المنهج..

تمهيد..

وحجر عثرة في الطريق

نجمتان للاستنارة

تلك النجمتان.. وسمر في الطريق

العنف المعنوي في لوحة معاصرة

الجسد حين يتكلم..

اضاءات من فنون شتى..

نجمتان للاستنارة

1ـ حكي أن مالكاً الأشتر، كان مجتازاً بسوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة، فرآه بعض السوقة فازدرى بزيه فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضى ولم يلتفت فقيل له: ويلك، أتدري من رميت؟ فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين (ع)، فارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي، فلما انفتل، اكبّ الرجل على قدميه يقبّلهما، فقال: ما هذا الأمر؟ فقال: اعتذر إليك مما صنعت، فقال: لا بأس عليك فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفرنّ لك...(1).

2ـ في خبر عن الإمام زين العابدين (ع) أن عبداً له كان يشوي لحماً في التنور، وبجانبه يقف طفل للامام، فوقع السفود من يد العبد على رأس الطفل فقتله.. وسمع الإمام الصرخة فاسرع إلى المكان، ولما رأى ولده غارقاً في دمه، لم يلتفت إليه، إنما التفت إلى العبد وقال له: لا تراع.. لا تراع.. أنت حر.. أنت حر.. ثم التفت إلى ولده وقدمات فأخذه وسجاه(2)...

وحجر عثرة في الطريق...

في سنة 235 هـ، أمر المتوكل أهل الذمة، أن يتميزوا عن المسلمين بلباسهم وعمائمهم وثيابهم، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى، وان يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وان يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين، وان يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة، وان لا يركبوا خيلاً، ولتكن ركبهم من خشب، إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم، المهينة لنفوسهم(3)..

تمهيد..

يمكن توصيف اللغة بأنها كالكائن الحي، أو هي إن شئت، كائن حي يستطيع أن يمشي وأن يقف، أن يطير وان يقع، أن يبكي وان يضحك..

واللغة، بكلماتها والفاظها، تستطيع أن تتشكل مخلوقات عديدة تسعى بيننا، بمجرد أن تذكر كلمة أو لفظاً، فيتبادر إلى السامع شكله وهيأته، جماله وقبحه، فرحه وحزنه.. وليس أدل على ذلك مما رسمه لنا فنانو الريشة والاصباغ لبعض من شخصيات الغابرين اعتماداً على توصيفات اللغة لهم..

هذا الكائن المفرح أحياناً والمحبط أحياناً أخرى، الدافئ والحنون والمحب، أو البارد والنفور والكاره، هو جملة ألفاظنا وكلماتنا التي تتسرب من بين شفاهنا وايدينا، وتوحي للسامع والقارئ بما توحيه أي مفردة منها..

خذ مثلاً كلمة الحب، ترى السامع أو القارئ يتخيلها انساناً يفتح ذراعيه لاحتضان الآخر والتربيت على كتفيه، وخذ كلمة الكره، تراه يتخيل انساناً يشدّ قبضتيه متحفزاً ويقطب جبينه غضباً..

في الكلمة الأولى، حين تغدو آسرة نشاهد جذباً، وفي الثانية حين تغدو كالحة نشاهد دفعاً..

كلتا الصورتين نجدهما في جميع المجتمعات الانسانية، لأنها جميعها لديها لغات تتألف من جملة كلمات والفاظ، وفي قاموس تلك اللغات، تجد ذاك الإنسان الفاتح ذراعيه للاحتضان أو الآخر الشادّ قبضتيه والمتحفز للهجوم..

وخذ أي كلمة أخرى من قاموس اللغة، سترى ما توحيه إليك من معان ومشاعر وأحاسيس، تأخذ اشكالاً متخيلة عديدة..

بهذا التوصيف، تغدو اللغة بكلماتها والفاظها، نابضة بكل انفعالاتنا وناقلة لأحاسيسنا ومشاعرنا بين تضاريس روحها الحافلة بالتحريض والوقاحة احياناً، وبالدفء والحب والتهذيب أحياناً أخرى..

فاللغة، بهذا المعنى، ليست كما يعتقد البعض هامشية لنا نحن بني الانسان، بل هي في الصلب من تكويننا، انطلاقاً من أن الإنسان هو صانع الكلمات، وهو المنتهك بواسطتها حرمات نفسه وحرمات الآخرين..

هذا عن اللغة.. وماذا عن الجسد الانساني؟

الجسد أيضا باعتباره يشغل حيزاً مكانياً على رقعة معينة من الأرض، متحركاً أو واقفاً، راقداً أو ناهضاً، مسرعاً أو مبطئاً..

هذا الجسد بحركاته داخل هذا الحيز، وبايماءات أطرافه التي يستقبلها الآخرون، يشكل أيضا هتكاً لستر المحرمات التي تعجز عنها اللغة، بصورة لا تحتمل التأويل..هذا البحث يطمح أن يكون إضاءة لدور اللغة بكلماتها وألفاظها، ودور الجسد بحركاته وايماءاته، في استمرار دوامة العنف من خلال مفردات السب والشتم والسخرية والتحقير، قولاً وإشارة، والتي يوقعها الإنسان على إنسان آخر، من واقع علاقة السيطرة والخضوع، أو يتبادلها معه من واقع الفعل ورد الفعل..

في المنهج..

بما أن القرآن المنزل على خاتم الأنبياء (ص) ليكون الدليل والمنهاج لمجتمع بشري خلاق، خال من العيوب والامراض والنواقص، وبما أنه يحمل في طياته نصوصاً عديدة فيها طابع السخرية والتعنيف تجاه المشركين والكافرين والمنافقين، فلا يمكننا والحالة هذه، تصنيف تلك الآيات في خانة العنف الرمزي المتعارف عليه بين بني البشر..

فالخطاب الالهي، يريد التعليم والتحذير، وأن يذكر الحالة وعلاجها، وان يدلنا على الطريق السوي، وهو خطاب يمتاز بأنه موجّه لكل البشر وعلى اختلاف مستوياتهم المادية والمعنوية ، ولأنه من الله فهو الأعرف بما يصلح لنا، ولا يمكن لأي واحد من البشر أن يتخذ مكان الله ويمارس نفس الدرجة من الخطاب نحو الآخرين..

هذا من جانب، ومن جانب آخر، حفل تراثنا الأدبي بالكثير من الشواهد والدلالات على العنف المعنوي سباً وشتماً وسخرية وهجاءاً للانتقاص من الآخرين لاسباب عديدة.. وقد آثرت أن يكون العنوان كاشفاً بالضرورة عن محتوى الموضوع..

اضاءات من فنون شتى..

قلّب ما شئت من صفحات قواميس اللغة ومعاجمها، باللسان العربي أو بغيره، ستجد عدداً وافراً من مفردات السب والشتيمة والتحقير والسخرية والانتقاص، سواء ما اندثر استعماله، أو ما هو باق إلى حيث لا يعلم إلا الله... وتلك الألفاظ بتنوعها، وتعدد دلالاتها في الاستعمال، كأنها تريد أن تخبرنا بأن الإنسان يضم في جوانحه هذه الرغبة الكامنة في ايذاء الآخر واسكاته واسقاطه وربما تدميره من خلال ما يتلفظ به في وجهه، ويصك به سمعه، أو كأنها نوع من لعبة الانتقام المتبادل والمشروع - إن جاز هذا الانتقام... من تلك الألفاظ، ولا يمكننا بحال أن نوردها كلها، سب، لمز، همز، هجا (ولا تكون إلا في الشعر)، شتم، قذف، سخر، حقر، عيب، تعاير، إلى آخر تلك المفردات في القاموس..

1 ـ السب:

نقرأ السبّ: فإذا هو القطع، وسبه سباً، قطعه(4)..

وطعنه في السبّة: أي الإست(5)..

قارن بين الكلمة وقذارة المعنى..

وتسابا: تقاطعا(6).

قال ذو الخرق الطهوي:

فما كان ذنـب بنـــي مـــالك          بأن سُبّ منهم غلامٌ، فسبْ

عراقيب كوم، طوال الذرى          تحـــزّ بوائكهــــا للـــركـــب

بأبيض ذي شطـــب باتــــر          يقط العظام ويبري العصب

أراد بقوله سُبّ: أي عُيّر بالبخل، فسبّ عراقيب أبله مما عيّر به.. كالسيف يسمى بسباب العراقيب لأنه يقطعها(7)..

ذاك السبّ أضحى شاهد لغة عند أرباب المعاجم والقواميس ضد المعايرة بالبخل صيت الإنسان السيء..

وسبسب: إذا قطع رحمه والتساب التقاطع(8)..

والسبّة: العار، ومن يكثر الناس سبّة(9)..

وفي القرآن الكريم، قاعدة خلقية تحتذى (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)(10)، والعدو هو التجاوز والظلم، وهذا من باب الفعل وردّه.. وفي الأبجدية الخاتمية (لا تسبوا الرياح فإنها مأمورة، ولا تسبوا الجبال ولا الساعات ولا الأيام ولا الليالي فتأثموا وترجع عليكم)(11) وحتى الشيطان عدو الإنسان اللدود، وقائد خطو الخطاة والعصاة إلى درك الجحيم، حتى الشيطان لا تسبوه (وتعوذوا الله من شره)(12) هل تتخيل كيف يكون شر الشيطان حين يعاديك؟

وحتى الدهر، خيوط حياتنا من نسيجه، لا تسبوه (فإن الله يقول: أنا الدهر، لي الليل أجدّه وابليه)(13)..

وماذا عنا، نحن بني البشر، لا نكفّ عن سبّ بعضنا البعض؟ الأمر المحمدي، قاعدة خلقية أخرى (لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة بينهم)(14)..

وما الذي يبقيه السب، إذ يكون متبادلاً، من كبرياء للرجل؟ لا شيء يبقى من احترام الآخر أو الذات لأنه (ما تساب اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل)(15) كما عبّر الإمام الكاظم (ع).. في جانب التشريعات التي سنّتها القوانين الوضعية للاجتماع البشري حفاظاً على الحقوق المعنوية للأفراد أمام الآخرين، وتنظيماً لهذه الحقوق أمام القضاء ودور العدالة يكون السب أحد الجرائم الماسة بالآداب العامة والعرض، ويعرّفه المشرع بأنه (توجيه كل ما يخدش الشرف والاعتبار، دون إسناد واقعة معينة.. وهو في اصل اللغة: يقصد بالسب الشتم سواءاً باطلاق اللفظ الصريح الدال عليه أو باستعمال المعاريض التي تومئ إليه، وهو المعنى المـــلحوظ في اصطلاح القانـــون، الـــذي اعتبر السب، كل الصاق لعيب أو تعبير يحط من قـــدر الشخص نفسه أو يخدش سمعته)(16).

2 ـ القذف:

القذف بالحجارة: الرمي بها(17).

وقذف الرجل: رماه واتخذه بريبة.. وقاذفه: رماه وشاتمه(18)..

والقذف هنا: يعم السب والفحش واللعن وما أشبه ذلك(19) والقذف: السب، وهي القذيفة..

وما تقاذفت به الأنصار يوم بُغاث: أي تشاتمت في اشعارها واراجيزها التي قالتها في تلك الحرب..(20).

وقذف المحصنة: رماها..(21)

وقد صارت كلمة القذف علماً على اتهام المحصنات الغافلات بالزنا..

من معاني المعجم في الحديث، قول رسول الله (ص) (واعلموا أن القذف والغيبة يهدمان عمل ألف سنة)(22)، وقوله (ص): (القذف من الكفر، والكفر في النار)(23).

وما صارت عليه علماً، قوله (ص): (إن الكبائر أحد عشر.. الشرك بالله عز وجل... وقذف المحصنة)(24).

وقد شدد القرآن الكريم، على حرمة القذف، وجعل اللعن الأبدي ملازماً للقاذف في الدنيا والآخرة، قال تعالى (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)(25) وعن سبب تشديد هذه الحرمة والتوعد بهذا العذاب قول طبيب آل محمد الرضا (ع): (حرّم الله قذف المحصنات لما فيه من إفساد الانساب، ونفي الولد، وابطال المواريث وترك التربية، وذهاب المعارف، وما فيه من المساوئ والعلل التي تؤدي إلى فساد الخلق)(26) وكأن كل حرف من كلمة القذف، عادل سيئة مما يترتب عليه. ولكن هل يراد بالقذف ما ارتبط بالعرض أو مطلقاً؟ فإن اصل القذف الرمي، ثم استعمل فيما يرتبط بالعرض، لكن هل غلب على ما يرتبط بالعرض بالمعنى الأخص بحيث أصبح الحقيقة تعينية فيه أم لا؟..

احتمالان، وإن كان المنصرف الأول - أي الارتباط بالعرض - والاطلاق يقتضي الثاني..

ثم أن هناك آثاراً وضعية للقذف خصوصاً الرمي بالفاحشة، وذلك لأن من قذف قذف، فترجع اللعنة إليه كأثر وضعي تكويني لذلك(27)..

وما هي عقوبة القاذف التي وضعها الشارع المقدس؟ (القاذف يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة ابداً إلا بعد التوبة أو يكذب نفسه)(28).

وقد نظر المشرّع الوضعي إلى المعنيين وحدد تعريف القذف بأنه (اسناد الجاني للمجني عليه علانية، أموراً لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة قانوناً، أو أدت إلى احتقار بين أهل وطنه)(29).

3 ـ اللمز والهمز..

اللمز: كالغمز في الوجه، وتلمزه بفيك بكلام خفي(30)..

وهو العيب والاشارة بالعين ونحوها..(31).

ورجل لمزة: يعيبك في وجهك.. واصله الاشارة بالعين والرأس والشفة مع كلام خفي(32)..

واللمزة: العيّاب، والطعان في أنساب الناس(33).

والهمزة: من يعيبك في الغيب، أو هو: المغتاب، وهو العيّاب للناس(34)..

والهمز: الغضّ، والكسر، والعيب..

ومثلها المرز، واللقس، والنقس..(35).

وفي التنزيل العزيز، حملت سورة كاملة اسم الهمزة وأفتتحها الحق سبحانه وتعالى بالويل تغليظاً في النهي عن الهمز واللمز (ويل لكل همزة لمزة)(36).

وقوله تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)(37) أي يحرك شفتيه بكلمات لا تبين..

وقوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات)(38) وكانوا عابوا أصحاب رسول الله (ص) في صدقات أتوه بها..

وفي دعائه (ص): (أعوذ بك من همز الشيطان ولمزه..).

وهمز الشيطان الإنسان همزاً: همس في قلبه وسواساً..

وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان(39)..

وما أجود قول الشاعر:

لسانك لا تبدي به سوءة امرئ          فكلــك سوءات وللنــــاس ألســــــن

وعينك إن اهدت إليـــك معايـب          من الناس قل: يا عين للناس أعين

فكم منا - ترى - خالياً من العيوب؟

لا أحد اطلاقاً..

إذاً فما هذا الهمز واللمز، وكشف عيوب الناس وإبانة مواضع النقص منهم؟

وهل أنت خال من العيب حتى تكشف عن عيوب الناس؟

أو هل تراك تظهر عيوب الناس، ثم يسكت عن عيوبك الناس؟

لا ذا.. ولا ذاك..

وإنما من أظهر للناس عيباً أظهروا له ألف عيب..

فمن الخير لنفسك، أن تسكت عن العيوب اطلاقاً(40)..

وكل همز ولمز، وجدناه عند المشرع الوضعي، الطعن بطريق العيب وهو (مساس بذات المجني عليه، سواء بالتصريح أو التلميح، ويتحقق ذلك بأي وسيلة من وسائل العلانية كالقول أو الفعل أو الكتابة أو الإشارة أو الرسم)(41)..

4 ـ السخرية والتحقير والاستهزاء:

سخر وهزئ بمعنى واحد..

سخر منه: هزئ به(42).

والاسم السخرية(43)..

ورجل سُخَرَة: يسخر بالناس. وسُخَرَة: يُسخَرُ منه(44)..

وسَخَّره تسخيراً: كلّفه عملاً بلا أجرة(45)..

هل ترى الرابط بين السخرية من الناس تقليلاً من شأنهم واذلالاً لهم، وبين منعك الأجرة، حق العامل الطبيعي، وعدم اعطاءها له، وكانك تسرق جهده ووقته وتلحق به ضرراً مادياً ومعنوياً..

أما حقر فهي في كل المعاني الذلة.. والحقير: الصغير الذليل - وتحاقرت إليه نفسه تصاغرت.. واحتقره: استصغره وراه صغيراً.. والمحقرات: الصغائر(46)..

وفي التنزيل العزيز (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذيـــن آمنوا والذيـــن اتقوا فوقهـــم يوم القـــيامة)(47).

وقوله تعالى (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون)(48) وقوله تعالى (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب اليم)(49) وقوله تعالى (ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منّا فإنا نسخر منكم كما تسخرون)(50) وقوله تعالى (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون)(51) وقوله تعالى (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم)(52) إضافة إلى خمسة وثلاثين موضعاً آخر في القرآن الكريم حملت كلمة السخرية أو الاستهزاء..

وهي جميعها تؤكد أن الساخر هو الكافر، وكلاهما يرتع في الجهل، ولا يمتلك البصيرة لاكتشاف ما يسخر منه..

وقد توعد الله الساخرين والمستهزئين بعذاب اليم في الآخرة، وليريهم بأن ما سخروا منه واستهزءوا به هو الحق - وهذا من الجانب الأخروي للسخرية والاستهزاء.. أما على الجانب الدنيوي، ومن خلال المنهج النبوي نقرأ قول رسول الله (ص): (لا تحقّرن احداً من المسلمين فإن صغيرهم عند الله كبير)(53) وقوله (ص): (من استذل مؤمناً أو مؤمنة، أو حقره لفقره أو قلة ذات يده شهره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه)(54) وقوله (ص): (حسب ابن آدم من الشر أن يحقر أخاه المسلم)(55).

وقال الإمام الصادق (ع): (من حقر مسكيناً لم يزل الله حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته اياه)(56).

وقوله (ع): (لا يطمعن المستهزئ بالناس في صدق المودة)(57) وقال لقمان لابنه: يا بني لا تحقرن أحداً بخلقان ثيابه فإن ربك وربه واحد(58)..

في جانب التشريع الوضعي، حصر المشرّع تلك المفردات تحت مصطلح الاهانة وعرفها بأنها (لفظ عام شامل لكل قذف أو سب، لكن الاهانة يمكن تحققها ولو لم تتضمن قذفاً أو سباً، إذ يتسع هذا اللفظ ليشمل كل قول أو فعل تعارف الناس على أن حدوثه يعني إزدراء المجني عليه والحط من شأنه أو كرامته في أعين الناس، بحيث تتغير نظرة الناس إلى المجني عليه بسبب هذه الاهانات التي جعلته في موقف من جرحت كرامته وكبرياؤه، بحيث أصبح من المؤكد أن ما حدث له صار حديثاً تلوكه الالسن)(59).

ومن مصاديق الاحتقار العديدة:

أن لا تقوم لمن يستحق القيام في المجلس.. وان لا تسلم على الكبير أو لا ترد السلام برد جميل، وان تشير إلى شخص - مهما كان عمله حقيراً أو مرتبته منحطة - بالازدراء، والاحتقار، شجرة خبيثة تثمر أبشع الثمار كأنها رؤوس الشياطين إنها تنبت في القلب فلا تزال تنمو حتى تؤتي أكلها المر، وتظهر ثمارها الفجة، من العين واللسان والحركة.. إن الشخص إذا احتقر احداً سبّه بلسان حاد وهمزه ولمزه وآذاه وأهانه.. وهذه الأمور من نتائج تلك.. وكلها محرمة في الشريعة المطهرة متوعد عليها بالعقاب الأليم، وتفسد الاجتماع، وتورد الناس موارد الهلكة(60)..

5 ـ العيب والتعيير:

العيب: الوصمة(61).

وعيّبه تعييباً: نسبه إلى العيب.. وجعله ذا عيب(62)..

وعيّاب وعيّابه: كثير العيب للناس(63)..

وتعاير القوم: عير بعضهم بعضاً.. والمعاير: المعايب، يقال: عاره إذا عابه..

قالت ليلى الأخيلية:

لعمرك، ما بالموت عار على أمرئ          إذا لــم تصبه في الحياة المعاير

وتعاير القوم: تعايبوا(64)..

وعن التعاير نقرأ قول رسول الله (ص): (من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله(65).. وقوله (ص): (إذا زنت خادمة أحدكم فليجلدها الحدود ولا يعيّرها)(66)..

6 ـ الهجاء:

هجاه هجوا وهجاءً: شتمه بالشعر.. وشتمه: سبه.. والشتيم: الكريه الوجه(67)..

وهو خلاف المدح، وهو الوقيعة في الاشعار..

ومنه المرأة تهجو زوجها: أي تذم صحبته(68)..

وليس الهجاء دليلاً على اساءة المهجو، ولا صدق الشاعر فيما رماه به فما كل مذموم بذميم.. وقد يهجي الإنسان بهتاناً وظلماً أو عبثاً أو ارهاباً(69)..

وقد قضى أمير المؤمنين (ع) في الهجاء، التعزير(70)..

والهجاء أحد الفنون الشعرية الاصيلة في الادب العربي.. فقلما تجد شاعراً لم يتعاط الهجاء، أو ديواناً لا ذكر فيه لمن هجي سواءاً كان فرداً أو قبيلة أو حيواناً أو جماداً.. كان الرجل من نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ يقول من نمير، وأمال بها عنقه فلما هجاهم جرير بقوله:

فغُض الطرف إنك من نمير          فلا كعبــــاً بلغــــت ولا كلابـــــا

صار إذا قيل لأحدهم: مـــمن الرجل؟ يقول مـــن بني عامر، وما لقيت قبيلة من العرب بهجوّ ما لقـــيت نمير بهجو جرير(71)..

ومن هجو القبائل ايضا، قول يزيد بن الصعق الكلابي:

إذا ما مات ميت من تميم          وسرك أن يعيش فجئ بزاد(72)

ومن ضروب هجاء الحكام، قول عبد الله بن همام السلولي وهو شاعر سياسي اتصف بنزعة انتقادية ضد الساسة ورجال الدولة قال:

فأن تأتــــوا برملـــــة أو بهنـد          نبايعهـا أميـــرة مـــؤمنيــنــــــا

إذا ما مات كسرى قام كسرى          نعــــدّ ثلاثـــــة متتـــابعيـــنـــــا

لقد ضاعت رعيتكــــم وأنتـــم          تصيــدون الارانب غافلينا(73)

ومن هجاء الاشخاص قول يزيد مفرّع الحميري في زياد بن أبيه:

إذا ما راية رفعـــت لمجـــد          فودع أهلهـــا خيــــر الوداع

فلا صابت سماؤك من أمير          فبئس معرس الركب الجياع

وأقسم أن أمك لـــم تبــاشر          أبا سفيان واضعة القناع(74)

وهذا الشاهد والذي سبقه، هجاء حق وتحريض وهو يندرج في كشف مساوئ الساسة والحكام والولاة، وهو دعوة إلى الثورة والتغيير..

ومن العبث بالهجو، ما روي أن الحطيئة همّ بهجاء فلم يجد من يستحقه فقال:

ابت شفتاي اليــــوم إلا تكلما          بســوء فـلا أدري لمــن أنا قائله

أرى لي وجهاً قبّـح الله خلقه          فقبّح من وجه وقُبِّح حامله(75)

ومنها الذم والقذع، والذم ضد المدح(76) واذم بهم، تهاون أو تركهم مذمومين في الناس.. وتذاموا: ذم بعضهم بعضاً(77) وفي التنزيل العزيز (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً)(78) وقوله تعالى (لا تجعل مع الله الهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً)(79)..

وقذعه: رماه بالفحش وشتمه(80)..

وإذا جاوز الإنسان الحد وافرط في تعنيف الآخرين دخل في ضروب الفحش من القول.. وتصبح مفردات السباب والشتم لا تكفيه للانتقاص من الآخرين وتحقيرهم..

وفحش: كل شيء جاوز حده فهو فاحش، وأفحش عليه في المنطق، أي قال الفحش..(81)

والفحش: عدوان الجواب(82).

ومنها النبز في الالقاب: وتستعمل في نبز الآخرين باللقب اللئيم في حسبه وخُلُقِه.. والتنابز: التعاير والتداعي بالالقاب(83)..

وقد نهى الإسلام عن ذكر الالقاب المذمومة التي تعيب الإنسان وتنتقص منه مثلا الاعمش والاجلح والأعمى والأحول والأبرص والاشج والاحدب والأصم والأشتر والاثرم ونحو ذلك مما يكرهه الانسان، وقد نهى الإسلام عنه وحرمه كما في قوله تعالى (ولا تلمزوا انفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)(84).

وذلك من باب التأليف بين القلوب، وسيادة المحبة بين الناس...

الجسد حين يتكلم..

وماذا عن الجسد الإنساني الذي يكتنز العديد من التعابير والايماءات والتي توحي بأكثر مما توحيه اللغة المنطوقة أو المكتوبة؟ ولكن، هل للجسد لغة حتى يمكن توصيفها واحدة من لغتين يستعملهما الإنسان في التعبير عن انفعالاته؟

نعم للجسد لغة (وهي لغة تستخدم بشكل لا شعوري وتعبر عن الجوانب الأكثر حقيقية من ذواتنا، من مشاعرنا وانفعالاتنا وحاجاتنا واتجاهاتنا.. وهذه اللغة هي الأكثر صعوبة في كتابتها لكنها ربما كانت هي الأكثر أهمية في العلاقات الشخصية المتبادلة فيما بيننا)(85)..

فالجسد، باعتبار الحيّز الذي يشغله سكوناً أو حركة، وهذا الحيز القابل للتمدد أو الانكماش، يستدعي من الجسد حركات أو ايماءات تكشف عن انفعاله في تلك اللحظة الساكنة أو المتحركة. وهذا الانفعال أو الافتعال لا يتم إلا داخل محيط اجتماعي معين، يتم من خلاله اصدار تلك اللغة، ويتم التلقي من طرف آخر مهتم باستقبالها وفك رموزها.. وكلما كانت حركة الجسم ودودة كلما كان المتلقي مرحباً بها، وكلما كانت تلك الحركة عدائية كان المتلقي لها، نافراً وحذراً، فهي قد تعبر عن مشاعر من السخرية والاحتقار والنبذ للآخر..

ويمكن تلمس ما يعبر عنه الجسد من مشاعر سلبية من خلال ايماءات معينة (كأن يحول المرء راسه أو جسمه بعيداً عن الآخرين أو أن يكشر في وجوههم أو يضع الحواجز بينه وبينهم.. وعلى سبيل المثال يمكن أن يمسك المرء بسيجارة مشتعلة بطريقة علنية أو صريحة، وبشكل يبدو كأنه يحافظ على المسافة الاجتماعية بينه وبينهم... ومن بين الايماءات الأخرى التي تكشف عن الاختلاف أو الرفض أو عدم الاستحسان نجد الايماءة الخاصة بالابتعاد عن الآخرين أو إدارة الظهر لهم، كما لو كانوا يتحدثون بصوت مرتفع مزعج، أو كانت هناك روائح كريهة تنبعث من أجسادهم.. وهناك أيضا حركة تمرير الاصبع عبر الأنف، وأيضا اغماض العين نصف اغماضة وكذلك التقاط خيط متخيل من ملابس أحد الأشخاص)(86)..

وماذا عن حديث العيون ولغتها؟

حدثتنا العيون وقالت:

يميل الأفراد الودودون إلى النظر إلى عيون الآخرين اكثر من الأفراد غير الودودين.. ويمكن أن يستخدم التحديق وسيلة لترسيخ السيطرة، حيث يميل الأشخاص التابعون أو الميالون للخضوع والاقل مرتبة من الناحية الاجتماعية، إلى الانسحاب من مواجهة عملية تثبيت العينين المتحدية لهم ويمكن للاتصال بالعين أن يستخدم وسيلة للبحث عن الحميمية، أو محاولة للابتزاز أو التهديد، ويترتب على ذلك أن يكون تحاشي الاتصال بالعينين معبراً إما عن وسيلة لتحاشي العلاقة الحميمية أو فعلاً خاصاً من افعال الخضوع الاجتماعي..(87)

ونبرة الصوت أيضا لها لغتها الخاصة بها.. ولا يعني هذا أن كل نبرة مرتفعة تكون دليلاً على العنف الموجه للآخر، وكل نبرة هادئة دليلاً على الودّ، فقد يكون العكس صحيحاً أيضا..

ولكن الغالب أن الصوت المرتفع عند النهر والتوبيخ، وخصوصاً الصرخة، تستخدم كمحاولة لبث الخوف في القلوب.. وقد استخدم هذا الجانب عادة في التدريبات التي تتم بالحربة في القوات المسلحة وفي الفنون القتالية اليابانية مثلاً(88).. وكذلك (النحزة بالانف يمكن أن تدل على الرفض)(89) وعلى المشاعر السلبية تجاه الآخر..

ويبدو أن الأمر المثالي كما أصر على ذلك تيودور روزفلت أحد رؤساء امريكا السابقين (هو أن تتحدث بنعومة بينما تمسك في يدك عصا كبيرة).. وتعتبر الزيادة المفاجئة في حجم أو جهارة الصوت تعبيراً عن الحزم(90)..

وقد لاحظ دارون في كتابه (التعبير عن الانفعالات لدى الإنسان والحيوانات ) أن الكثير من تعبيراتنا الانفعالية يمكن استنتاجها منطقياً من ميولنا أو نزعاتنا السلوكية.. فمثلاً حركات الاطباق المحكم للأسنان أو قبضات الأيدي هي اعدادات واضحة للقتال، ومن ثم فهي تكشف عن الغضب.. ولأن اسنان (الفتى الشرس) ستكون مطبقة، فانه يميل لأن يتكلم بجانب فمه، ويتنفس بشكل مسموع من أنفه مما يجعله يقترب في صورته من (الثور الغاضب).. ويتسم وجه الغاضب بتكشيرة عميقة حيث يتم جذب الحاجبين إلى اسفل فوق العينين، وبفم مضغوط باحكام مبرزاً للفك والاسنان ومزاج شاحب، حيث توجه مخزونات الدم إلى مناطق اكثر حيوية من أجل القتال.. كما يتم دفع الرأس للامام كما لو أنها توشك أن تنطح الخصم(91)..

من هنا يمكننا تلمس الحكمة الإلهية في الفروض الواجبة قبل اداء العبادات واثناءها..

ففي الصلاة يتم الوضوء قبل فريضة كل وقت، واضافة لذلك يكون الجسد على طهارة تامة لكي يستبيح مكان الصلاة، فلا قذارة أو نجاسة على الثوب لأنه ملاصق للجسد، أو في المكان لأنه الحيز الذي يتحرك الجسد من خلاله..

وحركات الجسد المتوافقة أثناء الصلاة، من ركوع وسجود وانتصاب القامة بين ركوع وآخر والتحديق الثابت في موضع السجود.. وكل حركة خارج المتعارف عليه من شروط صحة الصلاة، تعد الصلاة والحالة هذه باطلة وعلى المصلي إعادتها.. لأنها قد تكون انتهاكاً للجسد أو للحيز الذي يشغله..

ومثلها الصوم والزكاة والحج وغيرها، تميل في أدائها وطقوسها إلى ترويض الجسد والسيطرة عليه، وجعله لا يتحدث إلا بلغة مسالمة ودودة أليفة ترسل مشاعر المحبة والود وتستقبل مشاعر مثلها من الآخرين..

فالصوم ترويض للجسد تجاه ما تعود عليه، والزكاة ترويض لليد أن تكون ما نحة ومعطاءة ومفتوحة على الخير وبذل ما فيها، والحج كذلك...

العنف المعنوي في لوحة معاصرة..

يتمحور العنف الرمزي حول الاعتداءات الكلامية، والإبعاد الخبيث للآخر، والنفي الماكر والمهذب له، والتهديد والتشهير..

وهذه الأمور تكون مؤلمة أكثر من أقسى الضربات الجسدية سواءاً كان ذلك في العمل أو العائلة، في المدرسة أو الحياة الزوجية.

يمكن تعريف العنف الرمزي بانه (عنف خفي مضمر، ومستبطن ومغلقٍ، ويسعه بالتالي أن يقيم في السلوكيات والعلاقات الاجتماعية الأكثر سيولة واتصافاً بالعادية.. على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو(92)..

أو هو (أنواع من التصرفات والاقوال والافعال والحركات والكتابات التي من شأنها أن تلحق الأذى بالاتزان النفسي أو الجسدي لشخص ما، وان تعرّض عمله للخطر، أو أن تتسبب بتعكير وتسميم مناخ العمل)(93).

أو هو العنف الخفي، لكن المتكرر المزمن، وأحياناً اليومي، الذي يصيب نفسية الإنسان لا جسده بالارهاق الشديد والألم الذي يعاني منه غالباً بصمت، ويحاول مداواته بالأدوية المهدئة أو المضادة للاكتئاب...

توجد حالات العنف المعنوي في كل موقع يخضع لشروط التفاعل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية سواءاً في العمل أو المنزل أو أي ملتقى عام...

فعلى مستوى اماكن العمل يمكننا ملاحظة ما يفعله المرء من خلال محاولة تهديم شخص ما من دون أن يلاحظ المحيطون به هذا الأمر، عن طريق الكلمات البريئة ظاهرياً أو الاشارات أو مجرد الأبعاد..

في فرنسا، مثلاً، ونتيجة لتفشي هذه الظاهرة في مواقع العمل المختلفة، كرست الصحافية التلفزيونية (ميراي دوما) حلقة من برنامجها التلفزيوني للحديث عن هذا الموضوع، واستضافت في برنامجها بعض ضحايا الظاهرة المذكورة، كما استضافت من ناحية ثانية أرباب عمل ومسؤولين وافقوا على المجيء للاجابة عن اسئلتها، وهكذا أمكن للمشاهدين أن يروا الأمين العام لإحدى البلديات الفرنسية، واكتفى هذا الامين بالاعتراف بأنه صاحب سلوك تسلطي ومتشدد إلا أن المستخدمين العاملين تحت إمرته يتهمونه بالتلذذ في تعذيبهم المعنوي عن طريق القيود والاهانات المتواصلة إلى حد أنه كان يبكيهم.. أحد الضحايا نال تقريراً طبياً بالتوقف عن العمل لمدة ثلاث سنوات بسبب الانهيار العصبي الذي أصابه جراء ممارسات المسؤول الرعناء والفضّة.. ويقول هذا الموظف أنه تلقى أمراً من مسؤوله يقضي بدفع السكرتيرة إلى البكاء الصريح والعلني أمام الآخرين بدعوى أن النساء يرغبن في البكاء..

وقد أظهرت الاستطلاعات أن قرابة مليونين من الفرنسيين، أي ما يعادل نسبة 9% من السكان العاملين يقولون بأنهم يتعرضون للاعتداء المعنوي في أمكنة عملهم..

إلى ذلك تقول (ماري - فرانس ايريفويان) مؤلفة كتاب (الاعتداء المعنوي) والذي حمل عنواناً فرعياً هو (العنف الخبيث كما يعاش يومياً) أن حالات ووضعيات العنف اليومي في أمكنة العمل، والتي هي اكثر انتشاراً وحصولاً هي حالة المستخدم الذي تعرض للاعتداء من قبل المسؤول عنه أو الأعلى مرتبة منه.. وثمة حالات أخرى يتعرض فيها أحد العاملين إلى الاعتداء من قبل زملائه، والسبب يعود إلى كونه مختلفاً عنهم.. كأن يكون رجلاً بين مجموعة نساء أو امرأة بين مجموعة رجال، أو أجنبياً وذا مرتبة أعلى أو أدنى من الآخرين، أو حاملاً شهادات أعلى وارفع شأناً... وأيضا من هذه الحالات، غياب التواصل والتخاطب كأن يمتنع رب العمل عن إلقاء تحية الصباح طوال عدة أشهر، أو أن ينقل المستخدم إلى وظيفة أدنى من وظيفته من دون أن تحصل مناقشة معه، أو يقال له ما الذي ليس على ما يرام في عمله.. وينجم عن هذا الوضع، أن المستخدم لا يدرك المأخذ عليه، ويصرف وقته ساعياً إلى التفكير لفك اللغز، فيما يستمر تجاهله، ويستمر توجيه الانتقادات إليه ولو عن طريق المزاح والنكات..

أمام هذه السلسلة اليومية والمستمرة من الضغوط، يكون الإرهاق والأمراض الجسدية - النفسانية هي مدار الاضطرابات الأكثر شيوعاً ومعها جملة العوارض المرضية: اضطرابات النوم - التعب - تسارع نبض القلب - الاضطرابات الهضمية.. وعندما تتلاشى القدرة على مواجهة هذه العوارض يأتي الانتقال إلى المستشفى مصحوباً بالانهيار العصبي، أو بارتكاب أفعال عنيفة في بعض الأحيان من ذلك حالة أحد الموظفين التجاريين، الذي ظلت كفاءته ونتائج عمله الجيدة عرضة للازدراء والسخرية، الأمر الذي دفعه إلى الانتحار تاركاً عبارة أخيرة يقول فيها (لم أفعل سوى القيام بعملي كما ينبغي)(94).

وليس غريباً ما أدى إليه هذا العنف المعنوي تجاه هذا الموظف.. فقد لا يتحمل المرء تلك الضغوط وذاك الإبعاد ويموت فجأة بسبب صدمة نفسية لا يقوى على احتمالها..

وقد تعرف العلماء على مثل هذه الظاهرة التي سميت (بوفيات الفودو) نسبة لاحدى القبائل الافريقية..

فعندما تريد قبيلة ما التخلص من أحد افرادها غير المرغوب فيهم، فان القانون القبلي لا يعمد إلى قتل ذلك الفرد بشكل مباشر وانما يعمد إلى طريقة غريبة وهي: مقاطعة الشخص وحجب العون عنه ومبادلته السب والشتم وتطرده من مجتمعها وتشعره بأنه ميت.. ويلاحظ أن ذلك الفرد فارق الحياة بعد يوم أو يومين من طرده من مجتمع تلك القبيلة(95)..

أما بالنسبة للمحيط العائلي، والعنف المعنوي الممارس فيه، نلاحظ أنه يتم استعمال طريقة الصمت، واغلاق الأبواب بقوة بين المراهق وذويه، خاصة عندما يثور المراهق لاسباب بيولوجية ونفسية، وعندما يرغب الأهل بالسيطرة على الوضع، متذرعين بحججهم وتحاليلهم، ومن هنا ينشأ الصراع القوي.. إذ يميل الوالدان عادة إلى الاعتقاد بأن نواياهم هي الأنبل، وبأنهم يعملون لصالح وخير أولادهم.. هكذا يجبرونهم مثلاً على تناول الطعام الذي لا يرغبون في تناوله، أو الالتزام بأوامرهم كي يتجنبوا المخاطر، أو الحصول على أعلى العلامات في المدرسة، ومعاشرة الأصدقاء الذين يتم اختيارهم بحسب المعايير العائلية، وأحياناً كثيرة باختيار هذه المهنة بدلاً من أخرى، أو شريك العمر هذا بدلاً من الآخر..أمام كل هذه الأوامر، يشعر الطفل والمراهق بأنه مكبل الحرية، وبأنه لا يدرك تماماً ما الذي يريد تحقيقه فعلاً..

فيما يتعلق بالعنف المعنوي بين الازواج، يبرر الرجل عادة عنفه بأنه وسيلة للسيطرة على البيت، وطالما أن هذا الرجل ليس له رأي في العمل، أو طالما هو مهمش اجتماعياً، نراه يصرخ بوجه زوجته، وينفّس قهره من جراء خلافه مع رئيسه بالعمل بتأنيب زوجته واهانتها..

وتلك الاهانة الكلامية تحفر عميقاً أكثر من ضربة كف داخل كيان الزوجة، ومحاولة الزوج المستمرة للتقليل من أهمية شريكته وتضحياتها والإساءة إليها عاطفياً وانسانياً تصيبها بحالات عصبية وتتركها ضحية لأهوائه ومزاجيته..

تلك النجمتان.. وسمر في الطريق..

عودة إلى نجمتي الاستنارة في أول الطريق الذي سلكناه، نلاحظ ائمة أهل البيت وصحابتهم، ومن تربى في مدرستهم الأخلاقية الكبرى، وهي المدرسة القرآنية، نلاحظ مالكاً الاشتر وهو من هو في قربه من حاكم الدولة الإسلامية أنذاك الإمام علي (ع)، لا يلتفت إلى محاولة الانتقاص التي تعرض لها من أحد المتواجدين في السوق، ولم يرد عليه تأسّياً بقول معلمه وأستاذه (سفهك على من فوقك جهل مردي، وسفهك على من دونك جهل مزري) وسفهك على من في درجتك نقار كنقار الديكين، وهراش كهراش الكلبين)(96)..

لقد تجاهل هذا السلوك المشين ومضى في طريقه إلى المسجد، حيث يقف في حضرة رب العالمين خاشعاً ومتعبداً، ونكتشف أن دخوله المسجد، كان لطلب الاستغفار من ربه لهذا المخطئ بحقه، والذي حاول تجريحه والحط من شأنه بتلك البندقة الصغيرة التي رماها عليه..

وعلى ضوء النجمة الثانية، نهتدي إلى حكمة التصرف الذي مارسه إمام الساجدين زين العابدين (ع) تجاه عبده، فهو (ع) قد اعتقه لكي يهدئ روعه من احتمال أن يهينه مولاه أو يسبه أو يشتمه.. اعتقه للحظات الرعب والخوف التي عاشها هذا العبد قلقاً على كرامته أن تمس، وانسانيته أن تهدر..

والإمام حريٌّ بهذا التصرف، وليس بمستغرب منه، وهو الذي كان يعتق العبيد عندما تحصل منهم اساءة ويجعل العتق مقابلة لتلك الاساءة(97)..

عن حادثة العبد، يعلق هادي العلوي في كتابه (مدارات صوفية) وفي فصل حمل عنوان (مدار زين العابدين - الأخلاق والصوفية) قائلاً:

العقدة الكبرى بالنسبة لزين العابدين في هذه الحادثة، هي العبد الذي كاد الرعب يقتله مما حدث، وأدرك زين العابدين ذلك فعالج رعب العبد قبل أن ينصرف إلى ولده.. ولكي يجعله مطمئناً آمناً اعتقه فوراً، والعبيد في العادة يعتقون لمأثرة تصدر عنهم لا لجريمة قتل يرتكبونها بالخطأ أو بالعمد(98)..

وما بالك في تصرفه مع ناقته التي تنقله ومتاعه من مكان إلى آخر.. فهو (ع) كان يحج من المدينة ويعود لا يقرّع راحلته، والمسافة ذهاباً وأياباً مئات عديدة من الكيلومترات وذلك لأن الناقة تحملت عبء ايصاله إلى بيت الله وأعادته إلى بيته، وهي أيضا روح ولا يجوز اهانة الروح أو ايذاؤها - وماذا كان سيفعل إذا امتنعت عن المسير به في بعض الطريق؟ إنه (ع) يسايرها فيسكن بــــسكونها ثم ينـــتظر حتى يروق مزاجــــها فتستأنف السير(99).. ونبقى مع الإمام زين العابدين (ع)..

أراد أحدهم الانتقاص منه في موسم الحج بصيغة لا يقصد منها إلا استصغار المسؤول عنه وهي السؤال (من هذا؟)..

فيجيبه هشام بن عبد الملك بصورة اكثر استفزازاً: لا أعرفه.. وكانت تلك الصيغة وهذا الجواب مفتاحاً لقصيدة تعدّ من عيون الشعر العربي، ورداً مفحماً ولاطماً للسائل المتملق، على لسان شاعرها الفرزدق والذي كان قريباً من هذا الشخص وكانت تلك القصيدة:

يا سائلي أين حلّ الجود والكرم          عندي بيـــان إذا طلابـــه قدمـــوا

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته          والبيت يعرفـــه والحـــل والحرم

هــذا خيـــــر عبــاد الله كلهــــم          هذا التقــــي النقــي الطاهر العلم

حتى يقول:

وليس قولك من هذا بضائره          العرب تعرف من أنكرت والعجم(100)

والقصيدة تشتمل على واحد وأربعين بيتاً، ابتدأ الفرزدق منها سبعة أبيات بتلك الصيغة (من هذا ) وثلاثة أبيات احتوت على نصف الصيغة الأول (من) في تضاعيف الأبيات الشعرية.. أما عن حجر العثرة الذي صادفناه في طريقنا فقد كفانا ابن كثير مؤونة التعليق عليه بعبارته الأخيرة...

 

الهوامش

1 ـ ورّام بن أبي فراس/تنبيه الخواطر/ ج1، ص2.

2 ـ الأربلي/ كشف الغمة/ ص200.

3 ـ ابن كثير/ البداية والنهاية/ مجلد5/ ج10/ ص315/ حوادث سنة 235هـ.

4 ـ ابن منظور / لسان العرب/ ج1/ مادة سب/ ص455.

5 ـ الفيروز آبادي/ القاموس المحيط/ ج1/ باب الباء فصل السين/ ص221.

6 ـ المصدر نفسه.

7 - ابن منظور/ مصدر سابق.

8 - المصدر نفسه.

9 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق.

10 - الأنعام/ 108.

11 - المجلسي/ بحار الانوار/ ج60/ ص9.

12 - المتقي الهندي/ كنز العمال/ ح2120.

13 - المصدر نفسه/ ح8142.

14 - المجلسي/ بحار الانوار/ ج75/ ص163.

15 - المجلسي/ بحار الانوار/ ج78/ ص333.

16 - د. عبد الحكيم فودة/ الجرائم الماسة بالآداب العامة والعرض/ ص810.

17 - الرازي/ مختار الصحاح/ مادة قذف/ ص463.

18 - لويس معلوف/ المنجد في اللغة/ ص615.

19 - السيد الشيرازي/ من فقه الزهراء / مجلد 2/ القسم الأول/ ص434.

20 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج9/ مادة قذف/ ص276.

21 - الرازي/ مصدر سابق.

22 - الشعيري/ جامع الاخبار/ ص158.

23 - المصدر نفسه.

24 - ابن أبي جمهور/ غوالي اللئالي/ ج1/ ص88.

25 - النور/ 23.

26 - المجلسي/ مصدر سابق/ ج79/ ص111.

27 - السيد الشيرازي/ مصدر سابق.

28 - الحر العاملي/ وسائل الشيعة/ ج18/ ص433.

29 - د. عبد الحكيم مودة/ مصدر سابق/(ص)808.

30 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج5/ مادة لمز/ ص406.

31 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق/ ج2/ مادة لمز/ ص275.

32 - ابن منظور/ مصدر سابق.

33 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق.

34 - المصدر نفسه.

35 - ابن منظور/ مصدر سابق.

36 - الهمزة/ 1.

37 - التوبة/ 58.

38 - التوبة/ 79.

39 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج5/ ص425.

40 - السيد الشيرازي/ الفضيلة الإسلامية/ ص292.

41 - د. عبد الحكيم فودة/ مصدر سابق/ ص804.

42 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج4/ ص352.

43 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق/ ج2/ ص66.

44 - ابن منظور/ مصدر سابق.

45 - الرازي/ مصدر سابق/ ص255.

46 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج4/ ص207.

47 - البقرة/ 212.

48 - الأنعام/ 10.

49 - التوبة/ 79.

50 - هود/ 38.

51 - الأنبياء/ 41.

52 - الحجرات/ 11.

53 - ورام بن أبي فراس/ مصدر سابق/ ج1/ ص25.

54 - المجلسي، مصدر سابق/ ج72/ ص44.

55 - ورام بن أبي فراس/ مصدر سابق/ ج2، ص362.

56 - المجلسي/ مصدر سابق/ ج72/ ص52.

57 - م. ن/ ج75/ ص144.

58 - م. ن/ ج72/ ص74.

59 - د. عبد الحكيم فودة/ مصدر سابق/ ص806.

60 - السيد الشيرازي/ الفضيلة الإسلامية/ ص224.

61 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق/ ج1، ص261.

62 - الرازي/ مصدر سابق/ ص408.

63 - اليروز آبادي/ مصدر سابق.

64 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج4/ مادة عير/ ص207.

65 - المنذري/ الترغيب والترهيب/ ج3/ ص110.

66 - ورام بن أبي فراس/ مصدر سابق/ ج1/ ص356.

67 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق/ ج4/ ص190 وص585.

68 - ابن منظور/ مصدر سابق/ ج15/ ص353.

69 - الابشيهي/ المستطرف من كل فن مستظرف/ ج2/ ص7.

70 - الحر العاملي/ مصدر سابق/ ج18/ ص453.

71 - الابشيهي/ مصدر سابق.

72 - هادي العلوي/ ديوان الهجاء العربي/ ص15.

73 - م. ن/ ص22.

74 - م. ن/ ص23.

75 - الابشيهي/ مصدر سابق/ ص8.

76 - الرازي/ مصدر سابق/ ص408.

77 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق/ ج4/ ص162.

78 - الإسراء/ 18.

79 - الإسراء/ 22.

80 - الرازي/ مصدر سابق/ 462.

81 - م. ن/ ص432.

82 - الفيروز آبادي/ مصدر سابق/ ج2، ص411.

83 - م. ن/ ص278.

84 - الحجرات/ 47.

85 - جلين ويلسون/ سيكولوجية فنون الأداء/ ص167.

86 - م. ن/ ص182.

87 - م. ن/ ص187.

88 - م. ن/ ص170.

89 - م. ن/ ص182.

90 - م. ن/ ص192.

91 - م. ن/ ص168.

92 - جريدة المستقبل/ 9 نيسان/ 2000.

93 - جريدة المستقبل/ 18 حزيران/ 2000.

94 - م. ن.

95 - المجلة/ العدد 1066/ 22 تموز 2000.

96 - الامدي/ غرر الحكم.

97 - سيد الأهل/ الإمام زين العابدين/ ص7.

98 - هادي العلوي/ مدارات صوفية/ ص179.

99 - الكليني/ أصول الكافي/ ج1/ ص467.

100 - الاربلي/ كشف الغمة/ ص200.

هل لديك مناقشة او سؤال او رد حول هذا الموضوع ؟

اكتب لنا

اعداد سابقة

ملف الراحل الحاضر

العدد 49

الصفحة الرئيسية