2000

آب

1421

جمادى الاولى

48

العدد

النبأ

مجلة

 

رجال حول الوصي

   

محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه)

     
 

ــ 15 جمادى الأولى ذكرى شهادته ــ

 

نزار مصطفى

واقعة الجمل

ولادته ونشأته

توطئة

أسباب سقوط مصر

ولايته لمصر

توطئة

لم يشهد المسلمون اختلافاً وقع فيما بينهم أدى إلى تمزيق وحدتهم منذ وفاة رسول الله (ص) كما شهدوه في خلافة عثمان بن عفان.

لقد اتهم المسلمون عثمان بمخالفة السنة النبوية، وتغيير سيرة الخلفاء الذين سبقوه لذا اسقطوا عدالته وأبلغوه بترك الخلافة.

لقد آثر عثمان قومه على بقية المسلمين حيث اقتصر في عهده توزيع الولايات في الامصار على أقربائه، واقتطع لهم القطائع الكبيرة من أراضى المسلمين. واهدى لهم القسم الكبير من غنائم المسلمين في الحروب. وأبعد الكثير من الصحابة عن الاستشارة والإدارة مما سبب نقمة المسلمين عليه والثورة ضده.

وكان علي(ع) هو الرسول بين الثائرين وعثمان. وكان عثمان يعد المسلمين في كل مرة بتغيير سيرته وجعلها أكثر انصافاً وعدلاً. لكنه في كل مرة لم يف بما قطعه على نفسه.

بلغت الأحداث ذروتها حينما ارسل كتاباً إلى واليه في مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بمعاقبة وفد مصر الذين اشتكوه عنده، لم يصبر المسلمون عندها. فقتل عثمان.

بلغ محمد بن أبي بكر رشده في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين. واثرت تأثيراً في نفسيته وساهمت في صياغة شخصيته، واضافت الكثير من المعرفة بدقائق الأمور إلى معلوماته. فقد غربلت هذه الأحداث الشخصيات المهمة على الساحة، وميزت بصورة دقيقة ولاءاتهم. لقد رأى محمد بأم عينيه ظلم بني أمية لعليّ(ع)، وبغضهم له، فقد نسبوا إليه ثورة الثائرين. على الرغم من دفاع علي(ع) عن عثمان وقومه. ومنعه للثائرين من الاساءة إليه حتى أنه أمر الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة بحراسة دار عثمان. لقد عرّفت هذه الأحداث محمداً أين جانب الحق بصورة لا تشوبها شائبة ليقف معه، ويتبع أثره مهما كانت الشدائد والصعوبات. فاندفع بحماسة الشباب وروح الإيمان المترسخ عنده لممارسة التغيير والقيام بدوره وفي إرجاع الحق إلى نصابه. فاتهم ظلماً في جملة من اتهم بقتل عثمان.

ولادته ونشأته

نشأ محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة، في بيت النبوة والخلافة في بيت تربى فيه الحسن والحسين(ع). وترعرع عندهم وهو يرتشف من منهل أخلاقهم ويسمو بعز فضائلهم، وشرف مكانتهم.

رباه أمير المؤمنين كأحد أبنائه ينفق عليه كما ينفق عليهم ويعلمه كما يعلمهم، وقد قال(ع): محمد ابني من ظهر أبي بكر.

فشب وهو عارف بحقيقة أهل البيت(ع)، ومكانتهم من الله ورسوله، وفضلهم على بقية الناس، وخصائصهم التي خصهم الله تعالى بها، واحقيتهم في الخلافة والزعامة. روى ابن سعد في طبقاته1، أن أبا بكر تزوج أسماء بنت عميس بعد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمداً، نفست به بذي الحليفة، وفي رواية في البيداء، وهم يريدون حجة الوداع. ثم توفي عنها أبو بكر، فتزوجها علي بن أبي طالب فأنجبت له يحيى كانت أمه أسماء بنت عميس، من الصحابيات الجليلات اللواتي أسلمن منذ بدء الدعوة النبوية في مكة. وهاجرت الهجرتين مع زوجها جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه. فقد هاجرت معه أولا إلى الحبشة. وأنجبت له هناك ثلاثة أولاد عبد الله، ومحمداً، وعوناً.

ثم هاجرت معه إلى المدينة المنورة، فصادف يوم وصولهم وصول خبر فتح خيبر ففرح رسول الله (ص) بمقدمهم وقال: والله ما أدري بما أفرح، افرح بفتح خيبر أم أفرح برجوع جعفر. لازمت أسماء الولاء لأهل البيت، وصاحبت مولاتها فاطمة الزهراء. وظلت على موالاتها حتى عندما تزوجها أبو بكر.

لقد رضع محمد بن أبي بكر الولاء والحب لأهل بيت النبوة(ع) من ثدي أمه. وتعلم الإسلام والإيمان من مربيه علي(ع).

واقعة الجمل

شهد محمد بن أبي بكر واقعة الجمل، وقاتل بكل بسالة وشجاعة إلى جانب مولاه أمير المؤمنين(ع). ولما استقر القتال واشتبكت الصفوف، نادى أمير المؤمنين(ع) بعقر الناقة.

فكان محمد بن أبي بكر من بين المتقدمين في الصفوف لعقر الناقة، وبعد أن عقرت وفر أصحاب الجمل (قطع محمد بن أبي بكر البطان وأخرج الهودج فقالت عائشة من أنت؟)2.

فقال محمد: أبغض أهلك إليك.

فقالت عائشة: ابن الخثعمية.

فقال محمد: نعم، ولم تكن دون أمهاتك.

فقالت عائشة: لعمري، بل هي شريفة، دع عنك هذا. الحمد لله الذي سلمك.

فقال محمد: قد كان ذلك ما تكرهين.

فقالت عائشة: يا أخي لو كرهته ما قلته.

فقال محمد: كنت تحبين الظفر وأني قتلت؟

فقالت عائشة: قد كنت أحب ذلك. ولكنه لما صرنا إلى ما صرنا إليه. أحببت سلامتك لقرابتي منك، فاكفف ولا تعقب الأمور. وخذ الظاهر ولا تكن لومة ولا عذلة، فإن أباك لم يكن لومة ولا عذلة.

وجاء علي فقرع الهودج برمحه وقال: يا شقيراء بهذا أوصاك رسول الله؟

فقالت: يا ابن أبي طالب ملكت فاصفح وظفرت فاسجع.

فقال أمير المؤمنين(ع): والله ما أدري متى اشفي غيظي؟ أحين أقدر على الانتقام فيقال لي: لو عفوت. أم حين أعجز عن الانتقام فيقال لي: لو صبرت، اصبر فإن لكل شيء زكاة. وزكاة القدرة والمكنة العفو والصفح. ثم التفت(ع) إلى محمد بن أبي بكر وقال: شأنك باختك فلا يدنو منها أحد سواك.

ولايته لمصر

ولى أمير المؤمنين محمد بن أبي بكر على مصر. بعد أن عزل عنها واليها قيس بن سعد وكان أمير المؤمنين قد ولاه مصر. بعد محمد بن أبي حذيفة. وكان سبب عزله أن قرية من قرى مصر أبت الدخول في طاعة أمير المؤمنين وكان رأي قيس بن سعد أن يهادنهم ويتألفهم حتى ينتهي أمير المؤمنين من قتال الخارجين عليه فيرى فيه رأيهم.

فكتب بذلك كتاباً إلى أمير المؤمنين يخبره بالموقف في مصر (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فأني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن قبلي رجالاً معتزلين قد سألوني أن أكف عنهم وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فترى ويروا رأيهم فقد رأيت أن أكف عنهم وألا أتعجل حربهم وأن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله عز وجل أن يقبل قلوبهم ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله).

فكتب إليه أمير المؤمنين(ع) (بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل المسلمون وإلا فناجزهم إن شاء الله).

ولم يتمالك قيس بن سعد أن كتب إلى أمير المؤمنين (أما بعد يا أمير المؤمنين فقد عجبت لأمرك أتأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لقتال عدوك وأنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوك فأطعني يا أمير المؤمنين وأكفف عنهم فإن الرأي تركهم والسلام).

فلما أتاه هذا الكتاب قال له عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين أبعث محمد بن أبي بكر على مصر يكفيك أمرها وأعزل قيساً والله لقد بلغني أن قيساً يقول والله إن سلطاناً لا يتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء والله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وإني قتلت بن مخلد قال وكان عبد الله بن جعفر أخاً لمحمد بن أبي بكر لأمه فبعث علي محمد بن أبي بكر على مصر وعزل عنها قيس)3.

ولما وصل محمد بن أبي بكر إلى مصر قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين(ع). (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر وأمره بتقوى الله في السر والعلانية وخوف الله عز وجل في الغيب والمشهد وباللين على المسلمين وبالغلظة على الفجار وبالعدل على أهل الذمة وبإنصاف المظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس وبالاحسان ما استطاع والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة فإن لهم في ذلك من العافية وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينقص منه ولا يبتدع فيه ثم يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل وأن يلين لهم جناحه وأن يواسي بينهم في مجلسه وليكن القريب والبعيد في الحق سواء وأمره أن يحكم بين الناس بالحق وأن يقوم بالقسط ولا يتبع الهوى ولا يخف في الله عز وجل لومة لائم فإن الله جل ثناؤه مع من اتقى وأثر طاعته وأمره على ما سواه).

ثم أن محمد بن أبي بكر قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال الحمد لله الذي هدانا واياكم لما اختلف فيه من الحق وبصرنا واياكم كثيراً مما عمى عنه الجاهلون إلا أن أمير المؤمنين ولاني أمركم وعهد إليّ ما قد سمعتم وأوصاني بكثير منه مشافهة وأن ألوكم خيراً ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله وتقوى فأحمدوا الله عز وجل على ما كان من ذلك فانه هو الهادي وإن رأيتم عاملاً لي عمل غير الحق زائغاً فارفعوا إلى وعاتبوني فيه فإني بذلك اسعد وانتم بذلك جديرون وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته ثم نزل).

لم يفعل محمد بن أبي بكر أي شيء لتعزيز مركزه، ولم يقدم على أي خطوة تؤهله لقتال هؤلاء المعتزلين كما أمره بذلك أمير المؤمنين(ع). بل بعث برسالة يبلغهم فيها أما بالدخول في الطاعة أو الخروج من البلاد. ذكر هشام عن أبي مخنف قال: ولم يلبث محمد بن أبي بكر شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس بن سعد وادعهم فقال يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا من بلادنا فبعثوا إليه إنا لا نفعل دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه امورنا ولا تعجل فأبى عليهم فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم فكانت وقعة صفين وهم لمحمد هائبون فلما أتاهم صبر معاوية وأهل الشام لعلي وأن علياً وأهل العراق قد رجعوا عن معاوية وأهل الشام وصار أمرهم إلى الحكومة اجترؤا على محمد بن أبي بكر وأظهروا له المبارزة فلما رأى ذلك محمد بعث الحارث بن جمهان الجعفي إلى أهل خربتا وفيها يزيد بن الحارث من بني كنانة فقاتلهم فقتلوه ثم بعث إليهم رجلاً من كلب يدعى ابن مضاهم فقتلوه.

لقد ضعف مركز محمد بن أبي بكر بعد مقتل ابن مضاهم، وتأثر الناس بالدعاية الأموية حيث بثت وسائل إعلام المعادين في أهل مصر. بالطلب بدم عثمان الذي قتل ظلماً لقد تجاهل محمد بن أبي بكر وسائل اعلام الامويين، ولم يفعل إزاءها ما هو مناسب ولم يأخذ حذره منهم، فترك كثير من الناس معسكره.

فلما علم أمير المؤمنين(ع) بتضعضع قوة محمد وانفضاض الناس من حوله كتب إلى مالك بن الحارث الاشتر وهو يومئذ بنصيبين (أما بعد فانك ممن استظهرته على إمامة الدين وأقمع به نخوة الأثيم بذي وأسد به الثغر المخوف وكنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه بها الخوارج وهو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب ولا بمجرب للأشياء فأقدم عليّ لننظر في ذلك فيما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من اصحابك والسلام. فاقبل مالك إلى علي حتى دخل عليه فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها وقال ليس لها غيرك أخرج رحمك الله فخرج الاشتر من عند علي فأتى رحله فتهيأ للخروج إلى مصر وأتت معاوية عيونه فاخبروه بولاية علي الاشتر فعظم ذلك عليه فبعث معاوية إلى الجايستار رجل من أهل الخراج فقال له أن الاشتر قد ولي مصر فإن أنت كفيتنيه لم أخذ منك خراجاً ما بقيت. فخرج الجايستار حتى أتى القلزم وبعدها خرج الاشتر من العراق إلى مصر فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار فقال له هذا منزل وهذا طعام وعلف فنزل به الاشتر وأتاه من عسل قد جعل فيه سماً فاطعمه إياه فلما شربها مات. ولما سمع معاوية بن أبي سفيان ذلك قال: إن لله جنوداً من عسل، ثم اقبل على أهل الشام وقال: كان لعلي ابن أبي طالب يمينان أحدهما قطعت في صفين وهو عمار بن ياسر، والآن قطعت الثانية وهو مالك الاشتر. أما مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج ومن شايعهم من العثمانية في مصر فقد كتبوا كتاباً إلى معاوية بن أبي سفيان (أما بعد فإن هذا الأمر الذي بذلنا له أنفسنا واتبعنا أمر الله فيه أمر نرجوا به ثواب ربنا والنصر ممن خالفنا وتعجيل النقمة لمن سعى على أمامنا وطأطأ يركض في جهادنا ونحن بهذا الحيز من الأرض قد نفينا من كان به من أهل البغي وانهضنا من كان به من أهل القسط والعدل وقد ذكرت المواساة في سلطانك ودنياك وبالله أن ذلك لأمر ماله نهضنا ولا إياه أردنا فإن يجمع الله لنا ما نطلب ويؤتنا ما تمنينا فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين وقد يؤتيهما الله معاً عالماً من خلقه كما قال في كتابه ولا خلف لوعوده قال (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) عجل علينا خيلك ورجلك فإن عدونا قد كان علينا حرباً وكنا فيهم قليلاً فقد اصبحوا لنا هائبين واصبحنا لهم مقرنين فإن يأتنا الله بمدد من قبلك يفتح الله عليكم ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل والسلام عليك).

فجاءه الكتاب وهو يومئذ بفلسطين. ففرح بذلك وقال لعمرو بن العاص. تجهز يا أبا عبد الله، فبعثه إلى مصر في ستة آلاف رجل.

فلما وصل عمرو بن العاص إلى مصر، اجتمعت إليه العثمانية. وكتب إلى محمد بن أبي بكر كتاباً (أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك وندموا على اتباعك فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان فاخرج منها فإني لك من الناصحين والسلام. وبعث إليه عمرو أيضاً بكتاب معاوية إليه (أما بعد فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ومن التبعية الموبقة في الآخرة وإنا لا نعلم أحداً كان اعظم على عثمان بغياً ولا أسوأ له عيباً ولا أشد عليه خلافاً منك سعيت عليه في الساعين وسفكت دمه في السافكين ثم أنت تظن أني عنك نائم أو ناس لك حتى تأتي متأمر على بلاد أنت فيها جاري وجل أهلها أنصاري يرون رأيي ويرقبون قولي ويستصرخوني عليك وقد بعثت إليك قوماً حناقاً عليك يستسقون دمك ويتقربون إلى الله بجهادك ولا أنذرتك ولاحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك على عثمان يوم يطعن بمشاقصك بين خُششائه وأوداجه ولكن أكره أن امثل بقرشي ولن يسلمك الله من القصاص أبدا أينما كنت والسلام).

فلما قرأ محمد بن أبي بكر الكتابين كتب كتاباً إلى أمير المؤمنين(ع) يطلب فيه العون والمدد، ويخبره بالموقف عنده. وارسل مع كتابه كتابي معاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص. فلما قرأ أمير المؤمنين الكتب، كتب إلى محمد (أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل بأداني ارض مصر في لجب من جيشه خرّاب، وإن من كان بها على مثل رأيه قد خرج إليه، وخروج من يرى رأيه إليه خيرٌ لك من إقامتهم عندك، وذكرت أنك قد رأيت في بعض من قبلك فشلاً، فلا تفشل، وإن فشلوا فحصّن قريتك، وإضمم إليك شيعتك واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس. فإني نادبٌ إليك الناس على الصعب والذّلول، فاصبر لعدوّك وامض على بصيرتك وقاتلهم على نيتك، وجاهدهم صابراً محتسباً، وإن كانت فئتك أقل الفئتين فإن الله قد يعز القليل، ويخذل الكثير. وقد قرأت كتاب الفاجر بن الفاجر معاوية والفاجر ابن الكافر عمرو، المتحابين في عمل المعصية، والمتوافقين المرتشيين في الحكومة، المفكرين في الدنيا، قد استمتعوا بخلاقهم، كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يَهُلْك ارعادهما وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فإنك تجد مقالاً ما شئت والسلام).

ثم وبعد أن وصله كتاب أمير المؤمنين(ع)، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، يرد فيهما بما قالاه، وينتدب لقتالهما، ثم قام خطيباً في الناس، يحضهم فيه على جهاد أعداء الله. فقال: (أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلال، ويشبّون نار الفتنة، ويتسلّطون بالجبرية، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود، عباد الله! لمن أراد الجنّة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله، انتدبوا إلى هؤلاء القوم رحمكم الله مع كنانة بن بشر).

فانتدب معه نحو ألفي رجل، وخرج محمد بن أبي بكر في ألفي رجل. وكان على رأس جيش الشام عمرو بن العاص.

والتقى الجيشان ودارت بينهما معركة عظيمة، فكانت الغلبة في البداية لجيش محمد، إلا أن عمرو بن العاص استنجد بجيش الشام، فجاءه المدد وكان يفوق جيش محمد اضعافاً، فاحتوشوا جيش محمد من كل مكان وقتلوا معظم رجاله وفر الباقون، وقتل بشر بن كنانة. وفر محمد بن أبي بكر، ثم القي القبض عليه من قبل معاوية بن حديج. فقتله ثم جعله في جوف حمار فأحرقه، وذلك في صفر سنة 38 هجرية.

أسباب سقوط مصر

لقد فرح أهل الشام فرحاً كبيراً عند سقوط مصر في ايديهم، وقيل أن السرور لم ير فيهم قبل سقوطها. وحق لهم في ذلك، فقد كانت مصر تعدل كفتي الميزان في الصراع، لما لها من أهمية كبرى في ترجيح الموازنات العسكرية والسياسية.

لقد أمن معاوية الجانب الغربي من إمارته، التي كانت تشكل عليه الخطر الأكبر لو استطاع ولاة أمير المؤمنين(ع) السيطرة عليهما وتوجيه قوتها العسكرية نحو الشام، فكان يمكن الاطباق عليه من الجهة الشرقية والجهة الغربية وإنهاء سطوة معاوية في بلاد الشام.

كما أضاف إليه سقوط مصر بيده، الكثير من الرجال والمؤن والعتاد وخرّاج أهلها، لكونها أكبر بلاد العرب خيرات في ذلك الزمان.

وكذلك سقوط مصر يعني سقوط بقية بلدان المغرب العربي بيده، لأنها المنفذ الوحيد إلى تلك البلاد، فأضيفت خيراتها إلى نصيب معاوية. ولسقوط مصر أيضاً الجانب النفسي المؤثر في نفوس رعية أمير المؤمنين(ع) المتخاذلين أصلاً عن نصرته. فقد كان معاوية يحاربهم فيما قبل بأهل الشام فقط، والآن يمكنه أن يحاربهم بأهل الشام ومصر وبلاد المغرب العربي إن رجعوا إلى محاربته.

لقد اصبح معاوية يشكل خطراً كبيراً على أمير المؤمنين، بعد أن كان مهزوزاً مهزوماً في حرب صفين، وقويت شوكته وتوسع نفوذه، ووهى سلطان أمير المؤمنين(ع) وقلت قدرته، بقدر خسارته لمصر وبلاد المغرب العربي. لقد سقطت مصر لأسباب وعوامل كان يمكن تجاوزها بقليل من الحزم وحسن التدبير ويمكن اجمال هذه الأسباب في عدة نقاط.

1ـ تهاون ولاة أمير المؤمنين(ع) في معالجة الأمور في مصر، حيث لم يقدّروا بشكل حقيقي وواقعي المعتزلين من أهل خربتا.

فبالنسبة للوالي الأول وهو قيس بن سعد كانت له أخطاء عديدة منها:

أنه هادن هؤلاء المعتزلين على الرغم من قلتهم، وكان يعرف يقيناً أن هؤلاء من العثمانية الذين يبغضون أمير المؤمنين(ع)، ولذلك لم يبايعوه.

لقد خدع قيس ولم يعلم أن مهادنتهم له، كانت خديعة منهم ولعبة مكشوفة كي يتملصوا بها إلى حين انتهاز أقرب فرصة لهم للاجهاز على ولايته.

لقد برر قيس خطته بالمهادنة في رسائله إلى أمير المؤمنين(ع) وحين قدومه عليه وهو بالكوفة بعد عزله، ولكن تبريراته هذه ليست مقنعة اطلاقاً، فإن كان يخاف معاوية عند قتاله لأهل خربتا فمعاوية كان أخوف منه، لأنه كان يتجهز لقتال أمير المؤمنين(ع)، لأنه يعلم يقيناً أن دوره يأتي بعد أصحاب الجمل. فهو ليس بهذا الغباء كي يفتح على نفسه جبهة أخرى، ويقع بين نارين، لذلك أخذ يرسل برسائله إلى قيس يستميله إلى جانبه، ولم يعلم قيس أن هذه الرسائل تعبر عن خوف معاوية وضعفه، وأنه ليس بمقدوره أن يفتح جبهة أخرى. ولم يعلم قيس أن عامل الوقت ليس في صالحه، وأنما في صالح معاوية وأهل خربتا فانطلت عليه خديعة معاوية وأهل خربتا، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.

والخطأ الثاني الذي ارتكبه قيس هو عصيانه لأوامر أمير المؤمنين الصريحة بقتال هؤلاء، واستئصال شأفتهم كي لا يشكلوا أي تهديد لولايته. لقد كان المفروض بقيس أن يقاتل هؤلاء مهما كانت النتائج ولا يقدم رأيه على رأي أمير المؤمنين(ع).

والخطأ الثالث الذي ارتكبه هو غضبه عندما عزل من ولاية مصر. حيث ترك مصر وذهب إلى المدينة المنورة، ولكنه عندما خاف القتل تركها والتحق بأمير المؤمنين في الكوفة.

لقد كان المفروض به كشيعي موالي لأهل البيت أن يتقبل ذلك بكل رحابة صدر، وكذلك لكونه صحابياً. وأن يبقى في مصر لمساندة محمد بن أبي بكر ونجدته في المواقف التي يفشل فيها.

لقد كان من الواجب على قيس وهو المعروف بولائه الشديد لأهل البيت أن يقضي على هذه الزمرة المنافقة قبل أن يستفحل أمرها، كي يتفرغ لقتال معاوية من الجهة الغربية، فيصبح بذلك بين فكي كماشة ويسهل القضاء عليه.

وأما محمد بن أبي بكر، فقد زاد الطين بلة، وأساء التصرف، بسوء تدبيره وقلة خبرته، فهو لم يهادنهم، كما فعل سابقه قيس، لأنه أرسل بالأساس لمناجزتهم القتال، ولم يقاتلهم فور وصوله إلى مصر، كما أمره بذلك أمير المؤمنين(ع)، وكل ما فعله هو استفزازهم حينما أبى أن يهادنهم، لذلك استعدوا لمواجهته عسكرياً، بعد أن أعطاهم الفرصة الكافية، بتسويفه معاجلة الأمور.

وقد بين ذلك أمير المؤمنين بقوله (وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، ولو وليته إياها لما خلّى لهم العرصة، ولا انهزم الفرصة، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر، فلقد كان إلي حبيباً ولي ربيباً).

لقد كان المفروض على محمد بن بكر، أن ينفذ أوامر أمير المؤمنين(ع) بكل دقة، لأنه يعرف أكثر من غيره من هو إمامه، فكان عليه أن يباشر قتالهم فور وصوله إلى مصر، وعدم إعطائهم فرصة للاستعداد له. لكنه لم يفعل ذلك، ولم يتخذ أية تدابير أخرى للحد من نشاط هؤلاء. وفشل فشلاً ذريعاً في القضاء على هذه الزمرة التي قضت عليه في النهاية.

2ـ إهمال محمد بن أبي بكر، مواجهة العثمانيين في بث عقيدتهم بين الناس لقد أدت وسائل اعلامهم إلى تفريق الناس عن محمد بن أبي بكر وخذلانه ولم يتخذ محمد بن أبي بكر أي تدابير واقية لمواجهة هذا المد الإعلامي المغرض والمزيف، لقد كان أهل مصر لبعدهم عن مقر الإدارة الإسلامية لا يعرفون حقيقة ما جرى في المدينة المنورة، فكانوا عرضة سهلة للدعايات العثمانية التي تدعي بأن عثماناً قتل مظلوماً. لذلك تفرق الناس عن محمد بن أبي بكر، ولم يكتفوا بذلك، بل التحقوا بمعسكر المعتزلين.

لقد أدرك أمير المؤمنين(ع) مواقع الخلل والضعف في شخصية محمد بن أبي بكر، لذلك أرسل في طلب مالك وبعثه إلى مصر والياً بدلاً عنه، لقد كان محمد بن أبي بكر فعلاً مثل ما قال أمير المؤمنين حدث السن قليل التجربة.

لقد كان المفروض على محمد بن أبي بكر، إن لم يقاتلهم فوراً، أن يضرب على قريتهم طوقاً عسكرياً، ويمنع تسربهم بين أهل مصر كي يبثوا دعاياتهم، هذا بالإضافة لما للحصار العسكري من تأثير على اقتصادياتهم ومعنوياتهم. فالحصار العسكري، يؤدي إما إلى استسلامهم وخضوعهم لطاعته أو يؤدي إلى فرارهم إلى معاوية، فبذلك تتخلص مصر من وجودهم على أراضيها. وينتهي بذلك تهديدهم.

3ـ خذلان الناصر من أهل العراق، لقد أرسل محمد بكتاب إلى أمير المؤمنين يطلب فيه العون والمدد، ووعده أمير المؤمنين بذلك، وقام ينادي في أهل العراق لإغاثة محمد بن أبي بكر، فلم يخرج أحد استجابة لطلبه. فقام فيهم خطيباً وقال: (أما بعد، فإن هذا صريخ محمد بن أبي بكر، وإخوانكم في مصر، قد سار إليها ابن النابغة عدو الله، وولي من عادى الله، فلا يكون أهل الضلال إلى باطلهم والرّكون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعاً منكم على حقّكم هذا، فإنهم قد بدءوكم وإخوانكم بالغزو، فأعجلوا إليهم بالمؤاساة والنصر، عباد الله، إن مصر أعظم من الشام، أكثر خيراً، وخيرٌ أهلاً فلا تُغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في ايديكم عزٌ لكم، وكبتٌ لعدوكم، اخرجوا إلى الجرعة بين الحيرة والكوفة، فوافوني بها هناك غداً إن شاء الله. فلما كان من الغد خرج يمشي فنزلها بكرة، فأقام بها حتى انتصف النهار يومه ذلك، فلم يوافه منهم رجلٌ واحد).

لقد كان سقوط مصر فاجعة مؤلمة بالنسبة لأمير المؤمنين(ع)، لأنها تشكل أعظم موقع عسكري واستراتيجي، وهذا مبين في ما قاله آنفاً.

وأرى أن المسبب الأول في سقوط مصر هو واليها الأول قيس بن سعد ولو أن ما أخبر به عبد الله بن جعفر أمير المؤمنين(ع)، كان صحيحاً فتلك مصيبة، فكيف يؤثر قيس رجلاً مبغضاً لأمير المؤمنين(ع) على مصالح الأمة الإسلامية.

لقد نسي قيس بن سعد مصر عندما قال للحسن(ع)، يا مذل المؤمنين.

1تاريخ الأمم والملوك، الطبري.

2نهج البلاغة.

3أعيان الشيعة.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 48

الصفحة الرئيسية