خاتم الرسل في الشعر العربي المعاصر


حيدر الجراح

 

سيدي رسول الله..

لأنك الخير كله.. ولأنك نبي الإنسانية جمعاء بعثك الله لتطهرها من خطاياها ودنسها.. وتعيد إليها صوابها الذي فقدته..

وحنيفية إبراهيم التي أضاعتها.. وتقدم لها تعاليم من سبقوك من أنبياء ورسل بعد أن خلصتها من أساطيرها وخرافاتها..

وأدّبك الله بأدبه الذي لا يعرفه إلا قلة ضئيلة سارت على الدرب الذي رسمته، ودفعت ثمن الإصرار على هذا المسير..

سيدي رسول الله..

نأت بنا المسافات والأزمان عن بواكير الصفاء المحمدي الأصيل.. وعن صوتك الذي دوّى في شعاب مكة وطرقاتها.. أو في المدينة التي تنورت بحضورك.. ولا نسمع الآن غير الأصداء لماض جميل نحنّ إليه..

سيدي رسول الله

حين صدعت بأمر ربك، وتصدّعت أوثان الشرك وقيم الجاهلية المستشرية.. كانت الكلمة ـ كلمة الله رب السماوات والأرض هي المعول الذي رفعته بوجه التاريخ والحياة التي آثرت الركود، بين أمة كان هاجسها الأوحد، ومضمارها المعلى هو الكلمة أيضاً.. وشتّان

كلمتان في ساحة المنازلة، كلمة الحق التي تدوي بها شفاهك المباركة، وكلمة الباطل المدفوعة بالرعب والتقهقر والاندحار..

ما تعودوا طيلة حياتهم مثل تلك الكلمات التي تجعلهم مبهوتين كأن على رؤوسهم الطير، وهم أرباب الكلمات والحروف..

كانت أمة الشعر والبلاغة ترفع رايات العجز والخيبة أمام بلاغة القرآن الذي يرتل في مجامعهم ومنتدياتهم..

تأثروا بهذه اللغة وبتلك المفردات الجديدة التي دخلت قاموس لغتهم.. واخذوا يقتبسون منها ـ بعد أن اسلموا وآمنوا ـ ويوظفونها في خدمة هذه الدعوة التي حاربوها في البدء.. وأصبح كثير منهم لسان حال تلك الدعوة، يسجل انتصاراتها، ويستنهض همم إخوانه، ويبشر بما بشر به القرآن، أو خاتم الأنبياء.. وكأن من البيان سحراً..

وهذا السحر سنتعاطاه في هذه الصفحات القادمة، ونقرأ بعضاً من تعاويذه المعاصرة لعدد من الشعراء؛ كان الشعر العربي قبل الإسلام ينهل من مصدر واحد هو البيئة الجاهلية بأوثانها وعصبيتها وقيمها وبعد ظهور الإسلام بدأت المزاوجة المعجمية تفرض نفسها وخاصة على الشعراء المخضرمين وبدأت الألفاظ الإسلامية والصور تتناثر بين الأبيات في شعر عصر الرسول(ص) وأخذ الشاعر يدير حواره حول قضايا الرسالة فيذكر رسول الله(ص) ورسالته، وجبريل كواسطة للوحي بين الله سبحانه وتعالى وبين رسوله(ص) وما يعرفه عن القرآن الكريم أو إعجازه أو تشريعه، وصورة النبي(ص) وغزواته، وموقف المسلمين من الأنصار أو المهاجرين ممن آمنوا به وآزروه، أو موقف كفار مكة ممن عاندوه وحاربوه، وبذا ادخل الشاعر في معجم الإسلام ما يتعلق بقضايا العقيدة دون أن يتوقف عند فلسفتها، أو تلمس ما وراءها من أبعاد جدلية يناقشها أو يحللها أو يتخذها مادة لمناظرة أو حوار، وقد غلب على معظمها عنصر التقرير اكثر من التصوير وبذلك كثرت الصياغة المباشرة في شعر شعراء عصر صدر الإسلام..

وقد استطاع الشاعر أن يتجاوز الملامح التقليدية التي رصدت في صورة البطولة الجاهلية ـ من خلال المدائح النبوية ـ لتتحول على يديه إلى صورة مهذبة ينبثق منها الحس الإسلامي الجديد، فإذا بملامح البطولة تتراءى مجسدة في مكانة رسول الله(ص) كهاد للأمة وبشير بالحق على حد قول حسان بن ثابت الأنصاري:

وقال الله قد أرسلت عبداً           يقول الحق إن نفع البلاء

شهدت به فقوموا صدقوه           فقلتم: لا نقوم ولا نشـاء

أو على حد تعبير كعب بن مالك الأنصاري:

وكان لنا النبي وزير صدق           به نهدي البرية أجمعينا

وقول كعب بن زهير بن أبي سلمى

إن الرسول لنور يستضاء به           مهند من سيوف الله مسلول

ويشتد حرص الشاعر على تسجيل إيمانه بالرسول(ص) من منطق الحس الغيبي، حين يسلم بالمبادئ العقائدية حول صدق الرسالة، والإيمان بمصدرها واليقين بواسطتها..

ومن ثم راح شاعر العصر يسجل ما يستطيع من ملامح إيمانه بالدعوة من منطق الاقتناع بها من جانب، والخوف من عقاب الله سبحانه من جانب آخر صوَّره قول النابغة الجعدي:

أتيت رســول الله إذ جاء بالهـــــــدى           ويتلــــــو كتابــاً كـــالمجــــــــــــــــــرة نيّرا

أقيم على التقوى وارضى بفعلها           وكنت من النـــــــــار المخوفـــــــــــة أحذرا

والشواهد كثيرة في هذا المقام..

في العصر الحديث أخذت شخصية النبي(ص) دلالات متنوعة وكثيرة في قصائد شعرائنا المحدثين ومن هذه الدلالات:

1ـ استخدام شخصية الرسول الكريم(ص) رمزاً شاملاً للإنسان العربي سواء في انتصاره أو في عذابه، ففي قصيدة (في المغرب العربي) لبدر شاكر السياب يصور الشاعر من خلال شخصية النبي(ص) انطفاء مجد الإنسان العربي، ويقينه من ازدهار ذلك المجد من جديد، حيث يصور ظل الإنسان العربي المعاصر بصورة مئذنة:

...تردد فوقها اسم الله

وخط اسم له فيها

وكان محمد نقشاً على اجرة خضراء

يزهو في أعاليها

فأمسى تأكل الغبراء

والنيران من معناه

...وتنزف منه دون دم

جراح دونما ألم

فقد مات

ومتنا فيه من موتى ومن إحياء

فنحن جميعنا أموات..1

وفي قصيدة (ضائعون وغرباء) للشاعر شاذل طاقة يرمز الرسول(ص) إلى الإنسان العربي المنتظر الذي يخلص الأمة من آلامها وهوانها، حيث يسوق البشارة على لسان الكاهن سطيح إلى الضائعين والغرباء الذين جاءوا لينشدوا عنده معرفة ما يضمره لهم المستقبل:

في رحم كل امرأة محمد جديد

يمسح دمع الثاكلات يبعث الحياة

فتومض البسمة في الشفاه...2

2ـ وهناك دلالة أخرى لشخصية الرسول(ص) شاعت في قصائد الشعراء المعاصرين، وهي دلالة الثائر المتمرد على الظلم الحامل لواء النضال في سبيل الحق والخير الإنساني..

ففي قصيدة (أحد والحريات والربيع) للشاعر كاظم جواد يصوره الشاعر قائداً للقوى المناضلة في سبيل الخير والمبشرة به:

يهيب بالمستضعفين في جبهة واحدة، وحدوا الصفوف واستقبلوا الحتوف

لا تحملوا الأسلاب والغنائم الثقال

لا تجهضوا الأرحام لا تستعبدوا الكهول

نحن رجال الحب والسلام والجمال..3

وفي قصيدة (نشيد الرجال) للشاعر محمود درويش، يسأل الشاعر الرسول الكريم(ص) عن الطريق إلى خلاصه وخلاص قومه من السجن الكبير الذي وضعوا فيه (لا خرج من ظلام السجن.. ما افعل؟) فيكون رده:

تحدّ السجن والسجان

فإن حلاوة الإيمان

تذيب مرارة الحنظل4

3ـ وهناك دلالة ثالثة حملتها شخصية الرسول(ص)، وهي ازدهار الماضي العربي وتألقه، في مقابل انطفاء الحاضر.. يقول الشاعر محمد الفيتوري في (يوميات حاج إلى بيت الله الحرام) يخاطب الرسول(ص)

يا سيدي، نعلم أن كان لنا مجد وضيعناه

بنيته أنت وهدمناه،

واليوم.. ها نحن ـ اجل يا سيدي ـ نرفل في سقطتنا العظيمة

كأننا شواهد قديمة

تعيش عمرها لكي تؤرخ الهزيمة5

تلك هي أهم الدلالات التي وظفها الشعراء في قصائدهم وهم يتحدثون عن النبي محمد(ص) ويستلهمون منه جميع القيم والفضائل التي يراها الشعراء آخذةً بالاندحار والانكسار..

إحالات:

1ـ د. عبد الله التطاوي/ أبعاد المؤثر الإسلامي في القصيدة العربية

2ـ د. علي عشري زايد/ استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر.


 

1 ديوان انشودة المطر/ص394.

2 ديوان الأعور الدجال والغرباء/ ص41.

3 ديوان إنما في الحرية/ ص130.

4 ديوان عاشق من فلسطين/ ص128.

5 ديوان معزوفة لدرويش متجول/ ص32.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية