أدب الاختلاف

تعالوا نتعلم


السيد مصطفى السادة(*)

أدب الاختلاف

منشأ  الاختلاف

إيجابية الاختلاف

مشروعية الاختلاف

مما لا شك فيه أن الحالة الدينية قد ضربت بجذورها في الوسط الإسلامي وأصبحت توأماً للواقع المعاصر، ويمكن أن يُملس هذا الأمر من خلال الكم الهائل المتجلي بالكتب والدراسات والأدبيات التي تملأ واقعنا الفكري والثقافي من مختلف الاتجاهات منصهرة جميعاً في دراسة وتقديم كل ما هو أفضل للرقي بها وتخليصها من كل الرواسب التي يمكن أن تعيق حركتها: وتلفها بالضبابية مما يؤدي إلى الاقلال من شأنها واهميتها.

وهذا الأمر يستوجب من كل دارس وباحث في شؤونها تحري القراءة الواعية والمتابعة الدقيقة والموضوعية.

ومن أهم العناصر التي ينبغي أن تقرأ وترصد بوعي عنصر مسيرة وأدب الاختلاف في الرأي الذي هو واحد من دعائم رقي وتقدم مسيرة الوعي لدى أبناء المجتمع الإسلامي وهو عنصر فاعل لابد من الاتكاء عليه والتكيّف معه لأنه مشيئة القدر الذي ساقنا جميعاً في دائرة الاختلاف المسوغ كما يقرر القرآن.

مشروعية الاختلاف

حيث يقرر القرآن هذا السوق نحو الاختلاف غير الخاضع لمشيئة وإرادة الإنسان كما في قوله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)28 فلآية تقرر أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يخلق الناس جميعاً مختلفين.

ولتعميق هذا الفهم يذكر القرآن في موضع آخر (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما اتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)1 وهذه الآية تؤكد أن الله وحده الذي صيّر هذا الاختلاف وجعله من ثوابت النظام الكوني، وبالتدقيق في كلمة الابتلاء في الآية نتوجه إلى النكتة فيها حيث الابتلاء عادة ما تكون نتيجته مختلفة.

ثم أن هذا الاختلاف ليس هو من ثوابت خلق الإنسان فحسب إنما هو من ثوابت نظام الخلق وقانون يعيش في دائرته جميع المخلوقات في هذا الكون المتسع كما في قوله تعالى (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء.. )2 ومن خلال النظر في الآية تظهر الملازمة بين الاختلاف وهذا الخلق فهو داخل في كل شيء خلقه الله سبحانه.

والإنسان كمخلوق في دائرة هذا النظام أيضاً فقد خلق الله البشر مختلفين في الأشكال والاحجام والألوان والالسن (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم والوانكم... )3.

وخلقهم مختلفين في الوسع والجهد والتحمل ولذا قرر القرآن أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا بمقدار طاقتها ووسعها (لا يكلف الله نفساً إلا بوسعها)4.

وخلقهم مختلفين في عقائدهم وقربهم وبعدهم من الله تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)5 وخلقهم يختلفون في التسخير فبعضهم يسخر الآخر لخدمة أغراضه ومصالحه كما في قوله (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً)6. وخلقهم يختلفون ويتمايزون في القدرة على تعقّل الأمثال والحوادث (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)7.

فالاختلاف أمر طبيعي يقرره القرآن والعقل والتاريخ أيضاً فتجربة الإمام علي… مع الخوارج الذين مثلوا دور المعارضة السياسية وكانوا حزباً داخل المجتمع الإسلامي شاهد على كونه عنصراً طبيعياً. وهذه التجربة مليئة بالدروس كما هو رأي الأستاذ (فهمي هويدي) التي يتعين علينا أن ندقق في ملابساتها لنستوعب الحدود التي يحتملها الواقع الإسلامي لمباشرة ما نسميه في زماننا المعارضة السياسية أو المسلحة ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن الفكر السياسي الإسلامي يبني الكثير من الاجتهادات على دروس تلك التجربة8.

ومن هنا فليس غريباً اختلاف البشر في الأفكار والتصورات والمعتقدات والعادات والتقاليد ولكن الغريب حقاً محاولة البعض جعل الناس كلهم يؤمنون بفكر واحد وثقافة واحدة ومعتقدات واحدة وقيادة واحدة ونيّة واحدة9.

إيجابية الاختلاف

وبعد أن يتأكد وجود عنصر الاختلاف بين البشر على أنه أمر طبيعي يصعب قسر الناس على الخروج من دائرته نجد أن من الضروري التأكيد على أن الاختلاف ليس موروثاً من الموروثات المختلفة، أو إننا ورثناه من خارج الدائرة الإسلامية كما يحسن للبعض أن يصوّره وانما وجوده ينبغي أن يكون ضرورياً ونفعياً وأن يستفاد منه كدليل على صحة المجتمع ويعود عليه بالنفع.

ففي المجال التشريعي ـ مثلاً ـ نلاحظ الاختلاف الفقهي بين الفقهاء من الوضوح بدرجة كبيرة وهو شيء طبيعي وضروري إن محاولة جمع الناس على رأي واحد في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين: محاولة ما لا يمكن وقوعها كما أن محاولة رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الاختلاف وهي محاولة تدل على سذاجة بيّنة، ذلك أن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لا بد منها، والذي أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين، وطبيعة اللغة وطبيعة البشر وطبيعة الكون والحياة10.

وهذا فضلاً عن الاختلافات الأخرى التي قد يكون الاختلاف فيها ضرورياً لأنه يساعد على معرفة نقاط الضعف والقوة التي لا يمكن أن تعرف إلا في ظل الاختلاف المقدس ومن هنا تظهر أهميته والحاجة إليه والتكيّف معه بنحو من الإيجابية والعقلنة، فقد نوهت به المجامع والمؤتمرات العالمية في عصرنا، مثل مؤتمر لاهاي للقانون المقارن سنة 1936م ومؤتمر باريس 1951م 11.

منشأ (موضوع) الاختلاف

الاختلاف بين البشر في الأفكار والآراء والتوجهات والمواقف أيضاً إنما يعود لأحد منشأين:

1ـ منشأ النظر العقلي أو العلمي سواء كان فلسفياً أو فقهياً أو غيرهما وهو المصطلح عليه (بالاختلاف العلمي) وهو المقبول شرعاً لأنه أمر طبيعي خصوصاً بين أهل المعرفة والنظر والرأي من العلماء والمفكرين.

وبهذا النوع من الاختلاف تتقدم العلوم وتنشأ الحضارات، وتنمو المدارس الفكرية والمذاهب الفلسفية وغيرها، وفي ظله يصبح من المألوف أن توجد المذاهب المختلفة والمجتمع الذي لا تنمو فيه هذه الاختلافات هو مجتمع سقيم وهذا ما تشير إليه الروايات بأن الاختلاف رحمة فقد ورد عن النبي(ص) (اختلاف أمتي رحمة)12 وورد عن عبد المؤمن الانصاري قال: قلت لأبي عبد الله إن قوماً رووا أن رسول الله) قال (إن اختلاف أمتي رحمة؟) فقال: صدقوا..13. وبهذا النوع من الاختلاف تتم التوسعة والفسحة على الأمة.

لان اختلاف الآراء الاجتهادية يثري الفقه، وينمو ويتوسع نظراً لاستناد كل رأي إلى أدلة واعتبارات شرعية أفرزتها عقول كبيرة تجتهد وتستنبط وتوزن وترجح وتؤصل الأصول، وتعقد القواعد وتفرع عليها الفروع والمسائل، وبهذا التعدد المختلف المشارب المتنوع المسالك تتسع الثروة الفقهية التشريعية ويصبح من وراء تعدد المدارس والمــشارب والمذاهب والأقـــوال كنوز لا يقدر قدرها وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث14.

2ـ منشأ حب الذات والمصالح الشخصية ـ بما فيها الأنا الفردية والجهتية ـ وهو المصطلح عليه (بالاختلاف المصلحي).

وهذا النوع من الاختلاف ينشأ عادة بسبب تضارب المصلحة الشخصية أو مصلحة الجهة أو المدرسة أو الفكرة مع المصلحة القيمية أو العامة، ومن هنا تنشأ التمزقات والعداوات والفرقة وتترتب عليه الآثارالسيئة والسلبية الخطيرة.

وهذا ما أشارت إليه الآيات بأنه اختلاف العذاب كما في قوله تعالى (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت ارجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض)15 وما نهت عنه الروايات واعتبرته سبباً للهلاك فقد ورد (لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا).

هذان هما منشأ الاختلاف بين البشر.

فالأول عقل وعلم ورحمة.

والثاني هوى ومصلحة ونقمة.

ففي الاختلاف العلمي تنمو الطاقات وتتفجر القدرات في أجواء حرة إيجابية أما في اختلاف المصالح فينحبوا صوت الفكر والرأي لمصلحة رأي واحد يقسر أحدنا عليه الآخر.

وربما يستثمر أصحاب الأغراض والمصالح هذا النوع من الاختلاف في تصفية حسابات مع هذا أو ذاك من أطراف الرأي الآخر كما حدث في المسألة الكلامية (خلق أو قدم القرآن) حيث استخدمها البعض لتصفية حسابات سياسية مع من يختلف معه في الرأي دون أن يكون له أدنى معرفة بالمسائل العلمية ولكن المصلحة اقتضت أن يلتزم برأي ويحاول قسر كل من يختلف معه على هذا الرأي.

أدب الاختلاف

وعلى ما ذكر فإن الاختلاف قد يكون علمياً وقد يكون فكرياً وقد يكون اجتماعياً... ولكل واحد من هذه الاختلافات أدبه الخاص به في كيفية التعامل بين الأطراف المختلفة في الرأي.

وقبل الخوض في أدب الاختلاف لابد من ذكر أمور:

‌أ. الإسلام دين يحث الجميع على الارتباط بالحياة العلمية وعلى ضرورة التواصل الفكري وهذه واحدة من أهم خصائص ديننا وأمتنا التي هي أمة اقرأ، وأول آية نزلت على الرسول(ص) تخاطبه هي آية القراءة أو العلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم.. )16.

وتاريخنا يذكر أن الرسول(ص) جعل العلم جعله طريقاً لتخليص النفس من الأسر ذلك لأهمية العلم كما هو الحال مع أسرى بدر، هذا مضافاً إلى حث القرآن على ضرورة التفكر التي هي واحدة من طرق تحصيل المعرفة (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)17. فالتفكير ميزة عبادية تميّز بها بعض المسلمين وحازوا بسببها شرف السبق والمكانة.

إلا أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها اكثر المنتسبين إلى الحالة الدينية هي الأمية الفكرية والتعويل على الثقافة الجاهزة (المعلّبة) دون التدقيق وإعمال الفكر وهذا بدوره يترك اثراً سلبياً على الفرد ومن ثم على المجتمع ايضا، فكثيراً ما نطلق الأحكام على عواهنها متسلحين بمقدمات فاسدة لا تمت إلى المعرفة بصلة وتاليها يبطل مقدمها، وانتشار هذا النوع من الثقافة والأفكار يؤدي إلى اغفال دور العقل وتعطيل قدرته مما يؤدي إلى ظهور جيل لا يعتمد الدليل العلمي في حكمه على القضايا ومناقشة الرأي الآخر ومقارنة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.

وما تراه من بساطة في المستوى الفكري والتفكيري إنما هو نتيجة طبيعية لنشوء هذا النوع من الثقافة والاستئناس بها.

‌ب. والنتيجة الطبيعية لذلك هو غياب الإنتاج الفكري، وهذا اخطر ما تسببه الثقافة المعلّبة والتعويل على الجاهز مما يجعلنا أمة مستهلكة بدل أن تكون منتجة وبهذا تقف مسيرة الحركة الفكرية عند حدود الموروث الثقافي والاكتفاء به مع أن القرآن يرفض هذا المسلك المشابه لمسلك الاقتداء السلبي بالاباء والاجيال السابقة ورفض الفكر وتفعيل دور العقل هذه الطاقة المودعة عندنا.

مع أن من المهام الملقاة على عواتق الأنبياء(ع) والعاملين في هذا الحقل تكسير الأغلال والصنمية بشكلها العام كما في قوله تعالى (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم)18 وهذا يدل على خطورة تلك الاغلال ـ الفكرية، والدينية، والثقافية ـ المضروبة على العقل وانطلاقه وحجبه عن الحقيقة.

‌ج. ومن نتائج هذه الحركة الموروثة ظهور حركة الاستبداد الفكري للرأي والانفراد بالحقيقة وقسر الناس عليها وهذا قهر لعقول الآخرين على العقل الواحد وعلى الرأي الواحد، والموقف الواحد مع أن عدم الإكراه حق ضمنه القرآن للجميع (لا إكراه في الدين)19 فإذا كان القرآن يضمن عدم الإكراه في الدين وهو اشرف الأشياء فكيف بالفكر والرأي لما فيه من سلب حرية الاختيار وقدرته على التمييز والاختيار.

ثم أن الاستبداد الفكري من افدح الأخطاء التي قد يقع فيها البعض دون النظر إلى غنى تعدد الآراء وفوائدها من التنافس وانضاج الفكر وتعميقه وتطويره من فوائد تعود علينا جميعاً.

ومن هنا تأتي الحاجة إلى معرفة أدب الاختلاف والتعامل مع الرأي الآخر. ويمكن أن نقسم هذه الآداب إلى ثلاثة أقسام:

* أدب التعامل الأخلاقي مع الرأي الآخر.

* أدب التعامل العلمي مع الرأي الآخر.

* أدب التعامل الاجتماعي مع الرأي الآخر.

أولاً: الآداب الأخلاقية

وبعد كل هذا نجد أن من الأهمية بمكان التعرف على أخلاقيات الاختلاف في كيفية التعامل اخلاقياً مع الرأي الآخر.

توجد مجموعة من الضوابط الأخلاقية التي لابد من مراعاتها وهي:

1) احترام الآخر

وهذه من الأوليات الأخلاقية في التعامل وهي ليست مرتبطة بحالة الاختلاف فقط، وإنما هي من لحقوق المسلم على أخيه، ولكن تظهر اهميتها والحاجة إليها عند الاختلاف ولابد لكل طرف أن يراعي الآخر في هذه الجهة لان القرآن يؤكد عليها (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم)20. وتفرضها سيرة الرسول وأهل البيت(ع) في التعامل مع الآخرين ليس في الدائرة الإسلامية وحسب بل حتى مع الذين اتخذوا منهجاً يختلف عن المنهج الحق، وكان لهذا البعد في حياتهم الأثر الكبير في انتقال الآخرين من دائرة العداوة للرسول(ص) إلى دائرة الحب والولاء.

ولم ترد في التاريخ الإسلامي العريض جزئية واحدة تظهر خلاف هذا في حياة الرسول وأهل بيته(ع) في التعامل مع الرأي الآخر.

2) عدم سوء الظن (الإحسان بالآخر)

محاكمة النيّات والحكم عليها جزافاً من خلال مقدمات أو مسلمات معينة من أخطر الأمراض التي تسبب الخلاف والتشرذم، وكم هي المفردات والقضايا التي استصدرنا فيها حكماً على الآخر بطريقة غير منضبطة ولا علمية مع أن القرآن ينهى عن هذا الخلق الذميم (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن)21.

وهكذا ورد في الروايات أيضاً (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً)22.

ولقد اشتهر بين المسلمين ـ هلا شققت قلبه ـ كدليل على رفض المسلمين لهذه المفردة السلبية بعد أن رفضها الرسول(ص) من خالد بن الوليد حين قتل رجلاً مسلماً بسبب الظن السيء والحكم على النيّة.

3) عدم غيبة الآخر:

وهو تناول شخصيته بنوع من التجريح لا لشيء سوى أنه مختلف في الموقف والرأي وهي من المحاذير التي تناقلها القرآن وشدد على خطورتها ويعاقب عليها (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)23.

4) عدم تصيّد اخطاء الآخر

وهي محاولة رخيصة للانتصار على الآخر بحيث نلج إلى اعماقه ومكتوماته وننقب في تاريخه ونتتبع عثراته ثم ننشرها سواء كان شخصاً أو جهة أو فكرة نرفضها.

ومن الطبيعي أن الاحتكاك والعمل يولد بعض الأخطاء ولا يمكن أن يدعي احدنا العصمة من الخطأ ومن اللازم مساعدة الآخر على تجاوز اخطاءه ومحاولة سدّها.

وفي سيرة أهل البيت(ع) ما يؤكد على ذلك وعلى النصح والارشاد وليس العكس كما هو حال البعض من المشتغلين بالشأن الديني والفكري. فهم يحولون الاختلاف إلى خلاف وليس هذا من حضارية الاختلاف في شيء، وتلك الممارسات الخاطئة في هذا الاتجاه والتي يتوسل بها البعض للنيل من الآخر بغية اسقاطه واقصائه هي دليل على قصر نظره وعجزه أيضاً وعدم قدرته على التكيّف مع الآخر، وفقدان ثقته بمنهجه وطريقته في العمل.

ومن الشرع التعامل مع الآخر طبقاً للمعايير والموازين الشرعية وليعلم هواة الطعن والتجريح والتقسيط والتكفير والتفسيق انهم بعيدون كل البعد عن الشرع المقدس وعن القيم الأخلاقية الثابتة وعن الأطر الإنسانية المتفق عليها إنهم ـ أي الرافضون للرأي الآخر ـ بأساليب التسقيط والتحقير ضد الرأي المخالف يمارسون سياسة سيئة وإن كانوا يتمسحون بالإسلام ظاهراً لان الإسلام لا يقر مثل هذه الأساليب الشيطانية مطلقاً24

ثانياً: الآداب العلمية

نحن كثيراً ما نحكم بعدم صلاحية الآخر ونرشقه بالتهم والسباب دون أن نطلع على رأيه وفكره، ومن المعلوم أنه للحكم على أي قضية أو رأي لابد:

1ـ من معرفة هذه المفردة أو القضية بكل جزئياتها وحيثياتها، وهذا إنما يتأتي بعد القراءة الدقيقة والتامة لتلك القضية المراد الحكم عليها.

2ـ القدرة على المحاكمة أو ابداء الرأي.

* أننا نطلق الأحكام على عواهنها دون الرجوع إلى مرجعيات علمية تحدد مفاصل هذه القضية.

* ومن المؤسف أيضاً أن الكثير منا حين يطلق أحكامه على الآخر عن طريق السماع والسماع فقط ويؤسس على ذلك مبانيه ونظريته في الحكم والتعامل مع الآخر.

* والبعض منا يقرأ الآخر وهو لا يملك المقومات كالقدرة على الحكم والمخاصمة، أو على فهم النصوص فيقتطع النصوص ويفصلها عن سياقها الموضوعي معتمداً في ذلك على ما لديه من معرفة سطحية.

* وقد يبغ البعض منا احياناً حد التصريح بنقطة الاختلاف مع الآخر ويدخلها في دائرة الخلاف بين الحق والباطل بسبب الاختلاف في النظرية واحياناً كثيرة في تطبيق النظرية مع أن كل هذه الأمور ليست من الأسس العلمية، وما هي إلا تخرصات وظنون هي وليدة عقد معينة.

وكان الأجدر بهذا البعض التأسيس العلمي الرصين القائم على القراءة الواعية للفكر والاستعانة بالمرجعيات العلمية المتخصصة والقادرة على فهم الرأي والراي الآخر.

إذ أن الكثير من الاختلافات تأخذ سبيلها السيء والسلبي من جراء الفهم المنقوص للمسألة التي دار حولها الخلاف. لذلك وقبل أن يرتب أحد أطراف الاختلاف أي قناعة أو موقف لابد من أن يفهم المسألة بشكل كامل بحيث تتوفر لديه المعرفة التامة حول المسألة المعنية25.

ومن الجدير هنا التنبيه لما قام به الإمام الغزالي في حكمه على آراء الفلاسفة فقد يغفل البعض أو يتغافل أن الغزالي سبق كتابه (تهافت الفلاسفة) بكتاب أخر وهو (مقاصد الفلاسفة) حيث قرأ آراءهم وشرح مقاصدهم بطريقة لا تدع للشك مجالاً ثم اعقبه بكتاب التهافت كطريق علمي للحكم على الآخر.

2ـ الموضوعية وإنصاف الرأي الآخر

وهذه المفردة تحتاج إلى الكثير من التنازل عن الأنا السفلى وهي الذات وصنميّة الأفكار والأشخاص فليس من السهل أن يكون الإنسان موضوعياً ومنصفاً تجاه الآخر المختلف.

وعدم إنصاف الآخر ناشئ من:

ـ حب الذات المعبر عنه في علم النفس بالأنا السفلى.

ـ صنمية الفكر والأشخاص.

بحيث يتعامل مع ذاته أو فكره وجهته بنوع من القداسة والتنزيه اللامبرر وكأنها نصوص شرعية لا تحتمل الخطأ. وتكرّس هذا الفهم الخاطئ عند الكثير أدّى إلى نشوء حالة الدفاع اللا مشروع عن الرأي ضد الرأي الآخر، أو عن الجهة والأشخاص. مع أنه من الموضوعية والإنصاف أن ينقد الإنسان ذاته وان ينفتح على همومها ومشاكلها وهو أمر يدخل في محاسبة النفس بمفهومه العام قبل نقد ومحاسبة الآخر.

ومن الإنصاف أيضاً التعرف على الرأي الآخر وشرحه كما لو كان هذا الرأي هو رأي الجهة التي أقدس فكرها ورأيها كما هو حال بعض أهل الفكر.

3ـ البحث عن الحقيقة:

الحقيقة هي الغاية التي ينبغي أن تكون المنشود الذي يبحث عنه الإنسان فهي ضالة المؤمن يأخذها متى وجدها.

وهذا يعني التجرد التام عن كل ما من شأنه أن يعيق حركة الإنسان في بحثه ومن أهم ذلك (الأنا الجهوية) لأنها سبب كل النتائج السلبية التي يعيشها واقعنا المعاصر والحقيقة كل الحقيقة لا يمكن أن يدعي احدنا أو يجزم بظرس قاطع أنها ملك له وحده أو لجهته وحدها. والعصمة من الخطأ ليست من الأمور الكلية في الدائرة الكبرى بحيث تصدق على جميع الناس.

والقرآن يذكرنا بقوله تعالى (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)26.

وينبغي أن يكون الوصول إلى الحقيقة ديدن الجميع وان كانت تخالف مشاربهم ومسالكهم في الحياة ويذكرنا التاريخ أن صدر الدين الشيرازي المعروف بـ(ملا صدرا) عاش شطراً من حياته يؤمن (بأصالة الماهية على الوجود) وكان يبحث عن الحقيقة حتى تبدل رأيه إلى القول (بأصالة الوجود واعتبارية الماهية) وليس ذلك مثلبة يمكن أن يؤاخذ عليها في بحثه عن الحقيقة، إنما هي طبيعة الباحث عن الحقيقة.

وليعلم أولئك الذين يعيشون الصنمية والشخصانية الفكرية واحتكار الحقيقة لانفسهم ويتشدقون بشعارات هم ابعد الناس عن العمل بها إنما هم معول هدم ولا يزيدون الخرق إلا اتساعاً، وانهم بذلك يعملون على تمزيق وحدة الصف ونشر الفرقة والخلاف في الوسط الإسلامي. 

ثالثاً: الآداب الاجتماعية

أهم ما ينبغي التأكيد عليه هنا أن نسلم بحالة الاختلاف وتأثيراتها على الواقع مع النظر إلى إننا لا يمكن أن نلغي الاختلاف بين البشر مهما كانت الجهود كما يقول القرآن (ولذلك خلقهم) لأن الاختلاف امتحان الهي ينبغي تجاوزه بعيداً عن السلبيات التي يمكن أن تنتج أثناء الممارسة وهنا لابد من مراعاة الأمور التالية:

1. التكيّف وقبول الاختلاف

ونقصد به اقلمة النفس وتكيّفها مع هذا المفروض المتأصل ليس فقط في الفكر والرأي بل في كل وجودنا. وعن طريق هذا التكيّف يمكن أن نحقق التعايش الإيجابي.

والتكيّف يعني قبول الآخر واعتباره عامل اثراء ويمكن الاستفادة منه في خلق حالة من التنافس الإيجابي بين أبناء المجتمع لتقديم كل ما هو افضل من فكر وراي لتطوير العمل والفكر والدعوة إلى الله باللتي هي احسن. والدفع نحو الأفضل.

2. عدم إسقاط الآخر اجتماعياً

وهذه المفردة ينبغي أن يضمنها كل منا للآخر بحيث لا يتعدى عليه اجتماعياً فلا يمكن تطوير المجتمع مع الانشغال بإسقاط الآخر.

مع التأكيد على أن المجتمعات الأخرى تضمن هذا الحق في أعلى مراتبه لأن الرأي الآخر لا يوجد التصارع والفرقة إنما يولد التنافس وتقديم الخدمات فكلما كثرت الآراء وتلاقحت مع بعضها تولد الصواب، لأن الصواب إنما يتولد بضرب الرأي بالرأي، ومن اجل ذلك كله ينبغي تقديس الرأي الآخر.

والحال أن بعض واقعنا لا يكتفي بعدم قبول الآخر إنما يتجاوز ذلك إلى إلقاء الاسقاطات النفسية والاجتماعية على كاهل الآخر.

ومما يؤسف له أن نعيش حالة من اللا تديّن في الاختلاف بحيث ينشغل بعضنا بإسقاط الآخر ومحاولة إقصائه عن ساحة العمل الإسلامي.

3. حق إبداء الرأي

مكفول في الإسلام للجميع ما دام في إطاره الإيجابي فكما يحق لطرف إبداء رأيه بكل فسحة دون أن نفرض عليه قيود الحجر فكذلك يحق للآخر، وحتى لا نعيش الازدواجية والمزاجية بحيث يحق لي ما لا يحق لغيري، ولا يحق لغيري ما يحق لي لابد من افساح المجال للآخر في إبداء رأيه.

ومن منطلق حرية الفكر وإبداء الرأي، كثرت المذاهب والآراء والمدارس المختلفة.

* توجد كثرة مدارس كلامية.

* وتوجد كثرة مدارس فلسفية.

* وتوجد كثرة مدارسة اصولية.

* وتوجد كثرة مدارس مذهبية.

بل وفي ضمن الرأي الواحد نجد الكثير من الآراء ففي الأصول توجد (مدرسة الشيخ الاخوند الخراساني ـ ومدرسة النائيني ـ ومدرسة اغا ضياء الدين العراقي).

وهذا كله إنما نشأ بسبب ضمان حرية ابداء الرأي للجميع ما دام الهدف هو الاثراء أما قسر الناس على رأي واحد فهذا نوع من الاستبداد وحين مورس هذا النوع من الفكر وساد لفترة من الزمن في بعض فترات الحكم الإسلامي كان له الأثر السلبي العميق الذي ـ إن لم نجاوز الحقيقة ـ لا نزال نعاني من آثاره إلى اليوم.

ومن أهم آثاره:

* قتل الكفاءات.

* عدم بروز الطاقات.

* هجرة بعض الكفاءات.

* الاعتماد على الفكر الواحد ـ المعلّب ـ.

* زيادة التأخر والبعد عن ركب الحضارة المدنية.

ففي الوقت الذي يعيش فيه العالم الثورة المعلوماتية وعصر الإنترنت وما هو اعقد منه وفي الوقت الذي ينفتح العالم على الرأي الآخر ويتفاعل معه غير أن البعض لا يزال يعيش بعقلية العصور الوسطى وعصر ما قبل الثورة الفرنسية.

الخلاصة 

إن الاختلاف مما لابد منه وهو كائن قديم ـ كان ولا يزال ـ يعيش معنا وينبغي أن نسلم به ونتكيّف معه ونحاول تطويره والانتقال به إلى الحالة الإيجابية وأن يكون هدفنا جميعاً البحث عن الحقيقة متسلحين بنقذ الذات قبل الآخر سواء كان فكراً أو رأياً أو شخصاً.

وفي سيرة الرسول وأهل البيت(ع) وسيرة السلف الصالح الكثير الكثير مما ينبغي التأسي بهم كما قال القرآن الكريم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)27.

وبهذا فقط يمكن أن نحقق الذات العليا وان نتعايش مع الآخر.


* باحث من السعودية.

1 سورة المائدة الآية 48

2 سورة فاطر الآية 28.

3 سورة الروم الآية 22.

4 سورة البقرة الآية 286.

5 سورة التغابن الآية 2.

6 سورة الزخرف الآية 32

7 سورة العنكبوت الآية 43.

8 الوحدة والتعددية والحوار في الخطاب الإسلامي المعاصر، ص52، زكي الميلاد.

9 مجلة الكلمة ص43، حق الاختلاف ومشروعية الرأي الآخر، عبد الله اليوسف.

10 نفس المصدر، ص47.

11 نفس المصدر، ص48.

12 علل الشرائع ص85، ومعاني الاخبار ص157.

13 نفس المصدر.

14 مجلة الكلمة مصدر سابق، ص49.

15 سورة الأنعام الآية 65.

16 سورة اقرأ الآية 1-4.

17 سورة محمد الآية 24.

18 سورة الاعراف الآية 157.

19 سورة البقرة الآية 256.

20 سورة الحجرات الآية 11.

21 سورة الحجرات الآية 12.

22 ميزان الحكمة مصدر سابق ح5، ص623.

23 سورة الحجرات الآية 12.

24 مجلة الكلمة عدد سابق ص60.

25 مجلة الكلمة عدد 5 ص79 تعالوا نتعلم كيف نختلف، محمد محفوظ.

26 سورة سبأ الآية: 24.

27 سورة الأحزاب الآية 21.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية