اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ      العدد 44        محرم  1421       نيسان 2000

 

تعالوا نتعلم..

               
       
   

أدب الحوار

السيد مصطفى السادة(1)

3 ـ عدم التعصب للرأي

2 ـ إبداء الرأي الآخر وإيضاحه

1 ـ عدم إسقاط الآخر

5 ـ وضوح الألفاظ

4 ـ الإلمام بموضوع الحوار

آيات القرآن ينبغي أن تكون الملاذ الأول لكل موضوع نريد البحث فيه ولابد من الذهاب إليه مستسلمين أمام الثوابت التي يتحدث عنها وغير محملين الآيات على حصيلتنا المعرفية المستقاة من المختلف المتبدل.

والآيات كلها ناطقة بالثابت الذي يستطيع كل باحث عن الحقيقة أن يعرض عليه كل ما من شأنه أن يصيّر واقعاً أو أمرا لابد منه كما يقرر ذلك القرآن نفسه ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (2).

وعندما نريد البحث في موضوع ما نجد انه من اللازم الرجوع إلى هذا المعين الذي لا ينضب والنبع الذي لا يجف واستنطاق آياته لتصل الآية بنا إلى حقيقة من الحقائق تتفتق عنها أذهاننا ـ وان كانت هذه الحقيقة تخالف تصوراتنا وتصديقاتنا أحيانا أو غالباًـ(3).

هذا الموضوع المطروق هنا وهو أدب الحوار واحد من المواضيع المهمة التي نكاد نغفلها ونخرجها من ساحة حواراتنا ـ وهذا هو المقروء خارجاً ـ(4) المختلفة التي نفقدها هنا وهناك.

ومن هنا تفرض علينا ثوابت كثيرة انه لابد أن يخيم على الحوار مناخ إيجابي يدخله المتحاورون:

1ـ لأجل الحفاظ على سلامة الحوار.

2ـ ولأجل الخروج به إلى الغاية التي يجب أن تكون هدف الجميع.

هذه الأمور وغيرها تلزمنا بضرورة الالتفات إلى هذه الجهة المهمة التي عقد لأجلها القرآن عدة آيات لو نظرنا إليها فهي في حقيقتها إرشادات تصب في بوتقة واحدة وتهدف الانتقال بالحوار إلى أرقى مستوى إيجابي والابتعاد به عن أجواء السفسطة.

وتصلح هذه الإرشادات أن تكون الأسس التي يجب أن يقوم عليها كل حوار مهما كان نوعه أو غرضه أو أطرافه، وبمقدار ما تراعى هذه الالزامات الخلقية نستطيع أن نصل إلى الثابت المنشود.

ونستطيع أن نلخص بعض هذه الإرشادات ـ الآداب الحوارية ـ في:

1 ـ عدم إسقاط الآخر

ويقصد به عدم إسقاط شخص أو شخصية أو فكر الآخر، وهو من أهم الالزامات التي لابد أن ينظر إليها نظر المتفهم لخطرها العلاقاتي والنتيجي.

لان الإسقاط يؤدي إلى نتائج سلبية قد يصل الأثر فيها إلى الموضوع والآخرين أيضا.

والقرآن يوجهنا إلى ضرورة مراعاة هذا الإلزام الأدبي مهما كان لون أو نوع الطرف الآخر، فالحوار مفردة ليس لها مدلول في هذه الأمور.

( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (5).

فالقرآن يركز على غرس هذا المفهوم في عمق الحوار كلازم يلازم الإنسان ـ وغيره أيضاً إن لم نجاوز الحقيقة ـ كطريق للتعايش مع الآخرين(6).

وبرجوعنا إلى الآيات نجد هذا الإلزام واضحاً في حوارات الأنبياء وخصوصاً إبراهيم (ع) مع قومه في موضوع الإيمان بالتوحيد الذي هو أسمى الأهداف فقد ركز القرآن على احترام إبراهيم (ع) وسعة صدره للرأي الآخر حيث نجد انه نزّل نفس منزلة المؤمن بقضيتهم وتدرج معهم في مراتب الخضوع من مرتبة إلى أخرى كما يذكر القرآن ( فلما جن عليه الليل رءا كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا احب الآفلين.. )(7) لأنه ليس الهدف من الحوار أقسار الآخر على الاقتناع والتسليم للرأي الواحد هذا في الأمر العقيدي فكيف بغيره ( لا إكراه في الدين.. )(8) ( ليس عليك هداهم... ) (9).

والمطلوب كشف الحقيقة وإزاحة الموانع بعد إقامة الحجة ووضعها في متناول الآخر وترك الحكم على النتيجة لمن يكون الثابت في متناوله ( قد تبين الرشد من الغي.. ) (10). وهكذا كان يضع الأنبياء € في حواراتهم التي تحدث عندها القرآن، فلم يكن هدف أحدهم أقسار الآخر بمقدار ما كان يهمهم كشف الحقيقة بعد أن كانت مغيّبة عن أذهانهم بسبب التراكمات التي اقسرهم عليها الآخرون من أصحاب المصالح.

2 ـ إبداء الرأي الآخر وإيضاحه

لأنه لا يحق لأحد الحكم على الآخر وثابته قبل إعطاء الفرصة والوقت الكافي لإبداء ـ رأيه واتمامه ثم فهم هذه الحجة فهماً حضارياً وهذا لازم مهم وحتى يتحقق هذا الأمر لابد أن يتمتع الجميع بقدرة وكفاءة ولياقة عالية تمكنه من قدرة الاستماع للرأي الآخر.

ويمكن أن نستشف هذا من خلال قراءة متأملة في هذه الآيات ( ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا احيي واميت قال إبراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب... )(11).

وفي موضع آخر نجد النبي إبراهيم (ع) يصور للطرف الآخر وكأنه مؤمن برأيه ويقدم شرطاً لحجته بحيث لا يدع مجالاً غير واضح فيها وهذه قمة الأدب الحواري.

وفي حوار إبراهيم يوجد أمران وفرق بينهما:

1ـ أن يعطي كل طرف الآخر الفرصة الكافية لإيضاح رأيه ودليله عليه.

2ـ أن يقوم كل طرف بشرح حجة الآخر ودليله، وهذه مرتبة أرقى من سابقتها، وقمة في التكيّف الحواري مع الآخر.

ونحن ندعو هنا إلى التمسك بالقدر المتيقن وهو الاتفاق على الأقل في حال فقدنا للقدر الأعلى الذي تمسك به إبراهيم حين صور للأخر وكأنه مقتنع برأيه وقضيته في إيمانه بعبادة الكواكب والأجرام السماوية على أساس كبرها وما تقدمه من اثر في الطبيعة وما كانت وراءها من أسرار غامضة لم يلتفت إليها قومه إبراهيم فصوّروها الجهة المطلقة التي لابد من الخضوع لها وعبادتها.

فقد كان تفكيرهم يقف عند حدود الحس والمادة من خلال تمييزهم للجهة التي لابد أن يفزع إليها الإنسان عند كل نائبة وملمة ولم يكن فكر أحدهم قادرا على تجاوز المادة والارتباط بقدرة وجهة أخرى تكون هي الفاعل الوحيد والمؤثر الحقيقي في هذا الكون. وهي التي تفيض عليهم الوجود والخير والشر.

ولذا بدأ إبراهيم معهم وكأنه واحد منهم ويلتزم طريقتهم في منهج التفكير وهذا أرقى أنواع الإلزام للنفس باحترام الآخر حتى في مثل هذه الأمور(12).

3 ـ عدم التعصب للرأي

أمر آخر من متممات العملية الحوارية حتى نخرج بها إلى الإيجابية والبلوغ بها إلى تحقيق الغرض أن نبتعد بالحوار عن العصبية للرأي والتمسك به في كل الظروف وان كان الثابت خلافه والتعصب للرأي مهما كانت النتائج صفة يتمتع بها بعض أقوام الأنبياء كما يذكر القرآن ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا... )(13) وفي موضع آخر يقول ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مهتدون)(14) هذه نماذج ذكرها القرآن ممن جحد على رأيه ووقف عليه وانه الحقيقة الثابتة التي لابد من الوقوف عليها لأنها الحق المطلق.

وفي هذا يعطينا القرآن درساً في عدم التعصب والجمود على ما نتصوره نحن البشر ـ من بنات أفكارنا ـ المفروض الذي يجب اتباعه. ويلفتنا إلى ضرورة التوجه نحو الأسمى وهو معرفة الحقيقة وذلك بذكره للحوار النبوي مع بعض المشركين ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)(15) وهنا تظهر قمة الاستعداد للتجرد عن الرأي في سبيل كشف الحقيقة، فمع كون النبي (ص) هو الحق والثابت بيده ولكنه يعطينا درساً في أدب الحوار مع الآخر من حيث إثارة الجو الهادئ والمناخ الإيجابي ليتمكن الآخر من مواصلة الحوار بحرية.

4 ـ الإلمام بموضوع الحوار

وحتى لا يكون الحوار سوفسطائياً كما هو غالب حواراتنا لابد من تحديد الموضوع أولا وقبل كل شيء لتكون هناك ثمرة عملية أو علمية يخرج بها الجميع.

ولذا لابد من تحديد موضوع الحوار ما هو؟

هل المشكلة عقيدية؟ أم اجتماعية؟ أم فكرية؟

هذه نقطة مهمة في الحوار حتى يثمر، ويكون حواراً موضوعياً مفيداً.

وفي ذلك نجد القرآن يشير في آيات عدة إلى هذه النقطة المهمة حيث يشير إلى ضرورة تحديد الموضوع والإلمام به.

نجد ذلك في حوار إبراهيم مع قومه ( وحاجة قومه قال اتحاجوني في الله.. )(16) ونجد ذلك في حوار موسى مع فرعون ( قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما.. )(17).

ونجده في حوار موسى مع السحرة ( فالقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين)(18) ونجده في حوار نوح مع قومه ( فاتقوا الله واطيعون)(19).

... وهكذا نجد هذا القاسم المشترك في حوارات الأنبياء € مع غيرهم وهذا يدفعنا إلى ضرورة التأسي بهم لوحدة الهدف التي ينبغي أن تتبعها وحدة الأسلوب كما يقرر ذلك القرآن خصوصاً في الدعوة إلى الله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن... )(20).

5 ـ وضوح الألفاظ

ونقصد بذلك كون الألفاظ المستخدمة أثناء ممارسة الحوار واضحة المعاني وغير معقدة أو مشتركة المعاني والألفاظ مما يؤدي إلى وقوع المغالطة والجدل العقيم كما هو الحال في الحوارات المنطقية والفلسفية لإظهار الغلبة على الأخر فقط. والقرآن يقرر أن الأنبياء جميعاً كانت ألفاظ حواراتهم واضحة وسهلة النفاذ إلى الآخر دون أن يتوقف للتفكير في معانيها، بل نجد الأنبياء كثيراً ما يختصرون الطريق للوصول إلى النتيجة بالألفاظ السهلة التي يفهمها الجميع.

ولذا نحن اليوم ورغم التباعد الزمني بيننا وبينهم نستطيع أن نفهم حواراتهم ولم يذكر القرآن نموذجاً واحداً يدل على استخدام الأنبياء الألفاظ المعقدة أو غير الواضحة.

فقد كانت عباراتهم (اتقوا الله.. اعبدوا الله.. اطيعون... أن الله ربكم... الخ) هذه بعض الآداب التي تحدث عنها القرآن ووضعها كإرشادات في متناول الجميع، وهذه وغيرها يمكن أن تساهم في إنضاج العملية التحاورية لنصل بها عن طريق تفعيلها في واقعنا ـ الإسلامي خصوصاً ـ وإفساح المجال لها لتؤثر أثرها وتعطي ثمارها.

وهذا بخلاف ما نجده في واقعنا الحواري في بعض الأحيان حيث لا نصل إلى نتيجة أو نصل إلى نتيجة غير مطلوبة والسبب ابتعادنا في حواراتنا عن هذه الإرشادات التي تساهم في إنضاج الحوار والبلوغ به حداً يتفاعل معه الجميع.

1 ـ كاتب سعودي.

2 ـ سورة النحل، آية 89.

3 ـ كما هو الغالب والسبب في ذلك أننا نحمل مسلماتنا على القرآن الكريم ونذهب إليه بغرض البحث لأفكارنا عن دليل أو مؤيد يجعل منه ثابتاً ينبغي التمسك به.

4 ـ فان من ينظر في حواراتنا المختلفة مقروءة ومسموعة ومرئية يلمس غياب هذا الثابت باسم الحرية مرة وباسم المتطلب العصري وظروف الحداثة تفرض علينا عدم التمسك بهذا الأمر.

5 ـ سورة الأنعام، آية 108.

6 ـ لمزيد من الفائدة مراجعة الآيات (55 الكهف ـ 30 البقرة ـ 117 طه).

7 ـ سورة الأنعام، آية 76.

8 ـ سورة البقرة، آية 256.

9 ـ سورة البقرة، آية 272.

10 ـ سورة البقرة، آية 256.

11 ـ سورة البقرة، آية 258.

12 ـ ليس من الضروري حين إفساح المجال للآخر لطرح حجته وشرح مقوماتها وادلتها لأجل الاقتناع بها، إنما قد يكون بغرض إثراء النقاش علمياً والتعرف على المباني التي ينطلق منها الآخر، وقد يكون لأجل جعل الحوار موضوعياً.

13 ـ سورة البقرة آية170.

14 ـ سورة الزخرف، آية 22.

15 ـ سورة سبأ، آية 24.

16 ـ سورة الأنعام، آية 80.

17 ـ سورة الشعراء، آية 22-23.

18 ـ سورة الشعراء، آية 46 ـ 47.

19 ـ سورة الشعراء، آية 108.

20 ـ سورة النحل، آية 125.

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية