اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 43

الصفحة الرئيسية

الأنبياء

بين دليل الفطرة ودليل العقل

ابراهيم جواد

الفطرة شهود ذاتي

الكفر والشرك عارضان

فطرة التوحيد

خلاصة القول

الوحي

آفات العقل


قال تعالى:

( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) .

وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ( فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) . الأنعام: 74 ـ 79

تضعنا هذه الآيات الكريمة أمام مشهد من المشاهد العجيبة حيث تحتدم المعركة ويشتد الصراع بين قوم قد أجمعوا أمرهم على عبادة الأصنام والأوثان حتى شاب عليها كبيرهم وشب صغيرهم فألفتها عقولهم وأنست بها قلوبهم وركنت إليها نفوسهم، وبين شابٍّ فردٍ يخرج من بينهم ويتربى في بيئتهم لكنه يأنف أن يسجد لهذه الأصنام ويرفض عبادتها وأبى أن يتوسل بها أو يتقرب إليها. كل ذلك والضغط عليه من أبيه وقومه شديد، والإلحاح من الزعماء والوجهاء مستمر ومتواصل.

ثم أن هذا الشاب لا يكتفي بمجرد الإحجام والامتناع عن مشاركة قومه فيما هم فيه، بل يتجه إليهم بتسفيه الأحلام ووصمهم بالضلال المبين يعيب عليهم جمود الفكر وتحجر العقل وانحراف الفطرة ويزري بقلوبهم الميتة وتفكيرهم السقيم.

ويحتدم الصراع بين هذا الشاب وقومه، ويعلو صوت المعركة التي لم تحسم رغم الدلائل الواضحة والحجج البينة، ولن تحسم ما دامت هنالك مصالح شخصية أو قبلية أو وطنية أو قومية وما دامت هنالك مطامع ومطامح وأهواء.

وبموازاة هذه المعركة المحتدمة بين الإيمان والكفر والتوحيد والشرك هنالك معركة أخرى جانبية احتدمت بين المؤمنين أنفسهم، صحيح أنها ليست بحجم المعركة الأولى ولا بخطرها ولا بعنفها، لكنها معركة فكرية مستمرة مثلها لم تحسم ولن تحسم ما تباينت العقول وتعددت المدارس الفكرية وتنوعت منابعها التي تستمد منها.

فطرة التوحيد

فريق يرى التوحيد يمر عبر الشرك ويتصور الكفر قنطرة الى الإيمان ويعتقد أن اليقين لابد أن يعبر جسر الشك، يستوي في ذلك الأنبياء والأولياء وغيرهم من البشر، فالداعون الى الله والمدعوون إليه سواء في هذا الطريق.

وفريق يرى أن التوحيد فطرة فطر الله الناس عليها فما دامت الفطرة سوية سليمة فإنها تصل صاحبها بالتوحيد مباشرة دون أن تخالطه ذرة شرك، أو تخالجه خاطرة شك، أو تداخله فترة كفر. وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء. فإذا انحرفت الفطرة عن مسارها فغشّاها الرين أو غطّاها الصدأ احتاجت الى من يصحح لها المسار ويذهب عنها الرين، وهذه هي وظيفة الأنبياء والرسل فيعيدونها من الشك إلى اليقين، ومن الكفر الى الإيمان، ومن الشرك الى التوحيد. وهذا هو الفارق الأساسي بين الأنبياء والأولياء وبين غيرهم من البشر.

نعود الى الفريق الأول أصحاب المدرسة الأولى نتفحص ظنهم في خليل الله إبراهيم عليه السلام وهم يقلبون نظرهم في هذه الآيات الكريمة فنجدهم يتصورون نبي الله إبراهيم ضائعاً ضالاً لم يهتد الى الهه الذي خلقه ورزقه رغم أن فطرته السليمة الصادقة تنكر ألوهية الأصنام التي يعبدها قومه لكن فطرته السليمة الصادقة وبصيرته المفتوحة تؤهلانه عند الله ليريه ملكوت السموات والأرض ويطلعه على الأسرار الكامنة في صحيح الكون ويكشف له الآيات المبثوثة في صحائف الوجود.

إنها صورة لنفس إبراهيم وقد ساورها الشك بل الإنكار لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام الجامدة ولما يستيقن بعد حقيقة الإله الذي يستحق العبادة فانطلق من الجامد الى المتحرك ومن الأرضي الى السماوي من التحت الى الفوق، من الحجر الجامد على الأرض الى الكواكب السيارة في السماء فيضل قلبه بين كبير وأكبر ثم أكبر، بين كوكب يلمع وقمر يطلع وشمس تبزغ فتسطع ويحس إبراهيم انه مضيّع ضال إن لم يدركه ربه بهدايته ثم تنطلق الشرارة وينبثق النور ويجد ربه في قلبه وفي كيانه لا في تبصره عيناه وتدركه حواسه، فيطمئن عندئذ الى يقينه الجديد ويستريح الى اتجاهه الأخير فلا تردد ولا حيرة(1).

فإذا انتقلنا الى مدرسة الفريق الآخر نجد إبراهيم على صورة أخرى مغايرة تماماً للصورة الأولى. فما أن يشب إبراهيم ويستتم شرائط التكليف حتى يطلب إليه أبوه آزر(2) وقومه أن يعبد الأصنام التي يعبدون وان يسجد للتماثيل التي لها يسجدون، وسرعان ما تنكشف لهم حقيقة هذا الفتى الذي رفض أصنامهم وأبى السجود لها وأنف عبادتها وعاب عقولهم التي سوغت لهم ذلك الملك وقلوبهم التي طاوعتهم عليه وزينته في نفوسهم ورماهم بالضلال المبين والانحراف عن الصراط المستقيم ودعاهم الى ما هو عليه من عبادة الله الذي خلقتهم ورزقهم من الطيبات، فلما لم يمتثلوا أمره ولم يستجيبوا لدعوته، راح يفكر في حجة يقطع بها جدالهم ويكشف بها زيف باطلهم، وعلم إبراهيم … انه إن جاءهم بما لا يعلمون واستمر يخاطبهم بما ينكرون فلن يستجيبوا لدعوته ولن ينقادوا لنصحه ولن يهتدوا بهديه، فألهمه ربه سبحانه أن ينطلق بهم من الأفكار التي يفهمون والمنطلقات النظرية التي يسيغون فإن الحكمة أن تخاطب الناس على قدر عقولهم وهكذا أراه الله ملكوت السموات والأرض، ليكون من الموقنين أن الحجة التي سيدلي بها لقومه حجة قاطعة مانعة تدفع كل ذي قلب وتدفع كل ذي لب، وكان في قومه من يعبد مع الأصنام الكواكب ومنهم من يعبد القمر ومنهم من يعبد الشمس فانطلق يحاربهم بلسانه دون قلبه فيما يعتقدون ويسايرهم ظاهراً فيما يظنون وكأنه واحد منهم حتى إذا أصغوا اليه راح يبين لهم ما يظهر به فساد رأيهم وبطلان قولهم، حيث أن وجد ـ بهداية من ربه ـ أن هذا النهج من الاحتجاج أصح لاسماع الحجة وأمنع لثورات العصبية وانفع لاستجابة الخصم وانصياعه.

فإبراهيم … عند هذا الفريق كان على علم تام بحقيقة الأمر منذ البداية، ولذلك تراه يخاطب أباه آزر جازماً مستيقناً بصواب عقيدته:

( يا أبت أني جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) مريم 43.

وعلى رأي هذا الفريق فقول إبراهيم عن الكوكب والقمر والشمس هذا ربي ليس في الحقيقية على القطع الذي يعد من الشرك وانما هو افتراض أظهر التسليم به للنظر الى الآثار التي تثبته أو تنفيه كما تقول لمن تعبت في إيضاح الحق له وهو يجادلك ويخاتلك: لتسلم جدلاً أن هذا الأمر هكذا، وأنت تريد أن تسكته ليصغي إليك ويستمع لقولك فتدلي عندئذ بحجتك التي تقطع حجته وحقك الذي يهزم باطله(3).

الكفر والشرك عارضان

وتعالوا معي نحقق هذا الموضوع بين المدرستين لنرى هل كان إبراهيم … ـ باللجوء الى الدليل العقلي ـ ناظراً لنفسه يطلب لها الهداية كما ذهب أصحاب المدرسة الأولى، أم كان مناظراً لقومه يدلهم على الحق ويهديهم الى الرشاد ويدعوهم الى اتباع الصراط السوي كما يقول أصحاب المدرسة الأخرى؟!.

يقول الأستاذ عمر أحمد عمر متهرباً من الجواب مسوياً بين الرأيين مع شبه ترجيح للرأي الأول:

(وسواء أكان إبراهيم في هذا المقام ناظراً أو باحثاً عن الله سبحانه وتعالى، أو كان مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فإن العقيدة لا تتلقى عن الآباء بدون فهم وقناعة، وإن التفكير في هذا الوجود وما عليه من اتساق وانسجام وإبداع دليل قاطع على وحدانية الله تعالى) (4).

ونقول بعون الله وتسديده:

نحن رغم أننا نشاطره الرأي في صحة وسلامة المنهج الفكري في الاستدلال الذي يعطي العقل دوره الأساسي وموقعه المتقدم في فهم ظواهر الوجود، واستخلاص تفسير شامل للكون ومصدره وكيفية انبثاقه وظهوره، إلا أننا نزعم أنه ليس من لوازم هذا المنهج ان يمر الانسان ـ كل انسان ـ بمرحلة الكفر بوجود الخالق او الشك بربوبيته والوهيته او اشراك ما سواه معه في هذه الربوبية والألوهية.

ذلك أن الإنسان خلق مفطوراً على التدين وعلى التوحيد أما الكفر والشرك فعارضان. قال تعالى:

( فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون(5)) الروم 30.

وقال رسول الله (ص) :

(كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (6).

وورد في الحديث القدسي:

(.. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وانهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم انزل به سلطاناً) (7).

الفطرة شهود ذاتي

فما الفطرة؟! وما العقل؟!!

الفطرة والعقل ملكتان للإدراك البشري وطريقان للمعرفة الإنسانية يكمل كل منهما الآخر لمعرفة الحق والباطل وتمييز الخير من الشر والحسن من القبح، وسبيل الفطرة السياحة في الخالق مع الخالق الى الخالق.

الفطرة هي استعداد غريزي وملكة قلبية لادراك المطلوب من المخلوق تجاه الخالق على وجه الإجمال واليقين، وهو معرفة الخالق وتوحيده والتوجه اليه بالعبادة، وذلك موهوب من الخالق للمخلوق عند الخلق والفطر.

بينما العقل ملكة التحليل والتركيب التي زود بها الخالق المخلوق لإدراك تفاصيل المعرفة الإجمالية الموهوبة بالفطرة وذلك بالعلوم والمعارف والادراكات المكسوية بعد الخلق عن طريق التدقيق والنظر.

فعند الخلق ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.. ) البقرة 31.

وفي خطوة تالية ( واذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على أنفسهم الست بربكم، قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، او تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟) (8) الأعراف 172 ـ 173.

وعبارة: أشهدهم، وشهدنا تظهران بوضوح تام أن الإيمان الفطري مبني على شهود العيان، ولا يحتاج الإنسان ـ ما سلمت فطرته ـ الى شاهد خارجي بعد هذا الشهود الذاتي. اما إذا انحرفت الفطرة بما علاها من الصدأ أو غشيها من الرين ـ وما اكثر ما يحصل ذلك ـ احتاجت الى الدليل العقلي لتثبيت التوحيد وأركان العقيدة.

سئل الإمام محمد الباقر … عن هذه الآية فقال: (خرج من ظهر آدم ذريته الى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرّفهم وأراهم نفسه ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربه) (9).

وهذا ما نسميه دليل الفطرة وبدونه لا يستطيع العقل البشري أن يستقر على أمر، ولذلك فان الدليل العقلي ليس الا كاشفاً عما هو مغروز في الفطرة من المعرفة والتوحيد.

ولقد ورث بنو آدم جميعاً عن أبيهم العلوم والمعارف الإلهية التي تعلمها من لدن رب العالمين ولكنهم يتفاوتون في تذكر تلك العلوم والمعارف بقدر سلامة فطرهم من التأثيرات الخارجية.

والدين ـ الذي هو التوحيد والعبادة ـ إنما يدرك إجمالاً بهذه الفطرة السليمة التي تعتبر دليلاً يقينياً جازماً قائماً على شهود العيان كما أسلفنا.

وأما العقل ـ وسلاحه الحواس من جهة وبقايا الفطر الربانية في قلوب الناس من جهة أخرى ـ فهو الملكة الثانية والطريق الآخر للمعرفة والإدراك البشريين.

وهو طريق سليم ما سلم العقل البشري من الآفات التي تطرأ عليه أثناء المعاناة والمكابدة في الحياة الدنيا.

آفات العقل

وآفات العقل كثيرة، لعل من أظهرها:

1ـ قصوره من الإحاطة والشمول بكل القضايا من جميع جوانبها وفي كل زمان ومكان، فان العقل مهما اكتشف وجلّى من الأمور تبقى الغوامض والمبهمات أمامه كثيرة ومحيرة:

( وما أوتيتم من العلم الا قليلاً) الإسراء: 85.

( يعلمون ظاهراً من الحياة وهم عن الآخرة هم غافلون) الروم: 7.

2ـ خضوعه غالباً لضغوط المصالح الشخصية والقبلية والوطنية والقومية وما الى ذلك مما يسمى (الهوى) ( افرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم؟!) الجاثية: 23.

3ـ وقوعه تحت خداع الحواس مما يوقعه في الوهم واللبس ولئن تمكن العقل من اكتشاف بعض هذه الخدع والأوهام فما لم يكتشف منها أكثر بكثير بل إنه لا يقع تحت الحصر:

( وما يتبع أكثرهم الا ظناً، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) يونس: 36.

( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون) الأنعام: 9.

4ـ عجزه عن إلزام صاحبه بما استيقنه من العلم:

( وجحدوا بها واستقنتها أنفسهم) النمل: 14.

فالإيمان والالتزام قد يرافقان العلم العقلي وقد يتخلفان منه، والذي يؤدي الى الإيمان والالتزام ـ سواء بالاستدلال العقلي أو بدونه ـ إنما هو الهداية الربانية أي الفطرة.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

(إن الله إذا اراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً الا عرفه ولا منكراً الا أنكره ثم يقذف في قلبه كلمة يجمع بها أمره) (10).

وقال: (إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتةً من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكاً يرده. وإذا أراد بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتةً سوداء وسد مسامع قلبه، ووكل به شيطاناً يضله) (11).

ثم تلا هذه الآية:

( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حَرَجاً كأنما يصَّعد في السماء) الأنعام 125.

الوحي

وما دامت هذه الآفات تغطي على الفطر والعقول فإنه لابد من الطريق الثالث للمعرفة وهو الوحي.

والوحي حق خالص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولو لا الوحي المنزل على الأنبياء والرسل لما استطاع العقل ـ العقل القائم في الواقع لا العقل المجرد ـ أن يعرف الله تمام المعرفة ويكتشف طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان وخالقه.

قال أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام:

(واصطفى سبحانه من ولده ـ أي من ولد آدم ـ أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله اليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبـــيائه ليستأدوهم ميثــــاق فطرته وليذكروهم مَنسيَّ نعمـــته، ويحتجوا عليهم بالـــتبليغ ويثيروا اليهم دفائـــن العقول ويروهم آيات المقدرة) (12).

فالأنبياء اذن يسلكون كلا طريقي الفطرة والنظر العقلي الاستدلالي لمناظرة اقوامهم وتعريفهم على خالقهم وهدايتهم إليه ثم يسددونهم بالوحي ويبلغونهم مراسم العبادة وأصول التشريع ليعيشوا الحياة الرشيدة التي توصلهم الى رضا خالقهم وتجنبهم سخطه وغضبه. لكنهم لا يسلكون سوى طريق الفطرة لتحصيل الهداية لأنفسهم لأنهم لا يزالون على الفطرة السليمة التي لا عوج فيه فلا يحتاجون مطلقاً الى النظر العقلي رغم أنهم يملكون أرجح العقول، ولذلك اصطفاهم الله تعالى واجتباهم وأخذ عليهم ـ إضافة الى الميثاق العام الذي أخذه على جميع الخلائق ميثاقاً آخر خاصاً بهم. قال تعالى:

( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مُصدِّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال أأقررتم واخذتم على ذلكم اصري قالوا أقررنا. قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين) آل عمران 81.

( واذ اخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم واخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) الأحزاب 7.

والعقل السليم لا يقر أن يحتاج الأنبياء بعد الفطرة وهذين الميثاقين ـ العام والخاص ـ الى النظر العقلي الاستدلالي لمعرفة الخالق وتحصيل العلوم والمعارف اللدنية الإلهية ( وعلمناه من لدنا علماً) الكهف: 65.

ذلك أن طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام للإيمان بالله الخالق لا يمر عبر تأليه المخلوقين، وان إيمانهم بالله الخالق لا يسبقه الإيمان بالأرباب المتفرقة، فذلك طريق بهيم ليله، حالك سواده، كثيف ضبابه، كثيرة حجبه، وحاشا الأنبياء والمرسلين أن يتساووا في هذا الطريق مع بقية البشر وهم معصومون عن ذلك بما زودهم الله تعالى من فطر سليمة وبما أخذ عليهم من الميثاق.

وعلى هذا فإن إيمان الأنبياء والرسل إنما طريقه الفطرة السليمة الباقية على الميثاقين المأخوذين عليهم جميعاً والقائمة على التسديد بالإلهام والوحي.

خلاصة القول

وفي ضوء هذا البيان نعود الى قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه في الآيات 74 ـ 83 من سورة الأنعام لننظر إليها من زاوية جديدة فماذا نجد؟!

إبراهيم … يشنع على ابيه وقومه ويعيب عليهم سجودهم لهذه الأصنام واتخاذ ما هو رمز له وصورة عنه من الكواكب والشموس والأقمار آلهة من دون الله ويصفهم وهم على هذا العمل غير المألوف في قومه إلا إذا كان نبياً أو على الأقل مهتدياً الى الحق متيقناً به عن طريق الفطرة.

ثم يتقدم إبراهيم خطوة أخرى فيناظر قومه ويواجههم كما اسلفنا بتلك الحجة القاطعة التي آتاه الله اياها والتي أوضح لهم من خلالها إيضاحا جلياً وبالنظر العقلي السليم أن ما يعبدونه من أصنام ونجوم وكواكب وأقمار وشموس ليست آلهة تعبد لأنها أجسام متحولة زائلة، وكل متحول فهو مخلوق محتاج لخالق لا يحول ولا يزول.

والملفت للنظر حقاً أن إبراهيم … بعد تلك الجولة في ملكوت السموات والأرض لم يقل: لقد آمنت أو علمت أو تيقنت الآن انه لا اله الا الله، لأنه إنما كان مؤمناً قبل ذلك بنور الفطرة السليمة والميثاق والعلم اللدني من الله تبارك وتعالى، ولكن ابراهيم بعد هذه الجولة التي تميزت بإعمال العقل تحليلاً وتركيباً ـ توجه الى قومه معلناً لهم البراءة مما هم عليه من الإشراك بالله الخالق الرازق:

( قال يا قوم اني بريء مما تشركون) الأنعام 78.

ووجههم الى الإله الحق الذي يؤمن به ويتوجه اليه وحده بالعبادة:

( اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) الأنعام: 79.

وواضح جداً من هذه اللفتة أن إبراهيم … خلال تلك الجولة في ملكوت السموات والأرض لم يكن ناظراً لنفسه ليحصل لها الهدى ويصل بها الى اليقين عن طريق الاستدلال العقلي. وإنما كان مناظراً لقومه يفرض لهم المقدمات ويطلعهم على النتائج ـ كما هو طريق الاستدلال العقلي ـ ليعرفهم على خالقهم ويأخذ بيدهم الى طريق التوحيد.

ولذلك جاء قوله تعالى في ختام النص.

( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأنعام: 83 دليلاً قاطعاً على ذلك.

الهوامش

(1) في ظلال القرآن 7/7 – 82، أولو العزم من الرسل 1/69 – 72.

(2) أجمع المؤرخون والنّسابة أن الأب الحقيقي لإبراهيم اسمه كارخ وعليه فان آزر ربما يكون عمه وربما يكون جداً لإبراهيم لأمه أو زوجاً لها بعد أبيه كرخ وهو يجري مجرى الأب عند العرب ولهم في معنى كلمة آزر أقوال نعرض عنها الآن.

(3) الميزان في تفسير القرآن 7/183 – 184 و 7/192، مجمع البيان في تفسير القرآن 7/109 – 113.

(4) اولوا العزم من الرسل 1/72.

(5) روى ثقة الإسلام الشيخ الكليني في أصول الكافي 2/12 أن الإمام أبا عبد الله الصادق … سئل عن الفطرة في هذه الآية فقال: فطرهم جميعاً على التوحيد. وفي رواية: فطرهم على الإسلام. وفي رواية: فطرهم على المعرفة به. ومثل الفطرة الصبغة في قوله تعالى: ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) البقرة 138.

(6) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة ـ ورواه الشيخ الكليني في الكافي 2/13 عن الإمام الباقر ونقل تعليق الإمام عليه حيث قال: يعني على المعرفة بان الله خالقه.

(7) صحيح مسلم 10/311 وما بعدها ورواه الإمام احمد.

(8) واضح من الآية الكريمة ان فطرة التوحيد في القلوب من القوة واليقين بحيث لا تترك لأحد أن يعتذر بغفلته أو بأنه ورث الشرك عن آبائه.

(9) الكافي للكليني 2/13 وعبارة عرّفهم وأراهم نفسه تعني أنه فطرهم على معرفته وغرز في قلوبهم ذلك إذ لم يكن لهم يومئذ أبصار تحس وإنما بصائر تدرك.

(10) أصول الكافي الكليني 1/165 – 166.

(11) أصول الكافي الكليني 1/165 – 166.

(12) نهج البلاغة شرح الدكتور صبحي الصالح ص43.


 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 43

الصفحة الرئيسية