مجلة النبأ - العدد 41 - شوال 1420 - كانون الثاني 2000

اكتب لنا

اعداد سابقة

الكتّاب

الموضوعات

العدد41

الصفحة الرئيسية

التجديد.. الثوابت والمتغيرات

إبراهيم محمد جواد

ان الرسالة الإسلامية ـ بطبيعتها و جوهرها ـ رسالة تغييريه تجديدية ـ بحكم واقعيتها و توازنها و شمولها و عالميتها، جاءت على فترة من الرسل لتضع عن الناس الآصار التي خلفتها فيهم القرون المنصرمة، لانحرافاتهم عن الشرائع، و تنكبهم عن خط الأنبياء، و لتفك عنهم الأغلال التي قيدهم بها التقليد الأعمى للتطبيقات البشرية خلال العصور الغابرة، و لتكسر عنهم صخور الجمود على التراث بما يحمل من تراكمات، و ما ينطوي عليه من قصور في الاجتهاد، و عجز في التطبيق، و ميل للهوى، و تدخل من أصحاب السلطان و النفوذ، و اتّباع للأطماع و المصالح العاجلة و الميول و النوازع النفسية الآنيّة. و هي كذلك متجردة متطورة، بحكم ما صيغت عليه لتكون صالحة لكل زمان و مكان، و لتكون بحق الرسالة الخاتمة التي يصلح بها الناس الى آخر الزمان.

و لكي يكون المثقف الإسلامي رسالياً حقًا و مجدداً فعلاً، يجدر به أن يتوفر على تحصيل عدة عوامل يحققها في نفسه و يحاول تحقيقها فيمن حوله من المثقفين الإسلاميين. نذكر من هذه العوامل و الضوابط بعضاً دون أن نحصرها ليبقى باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه...

فهم اللغة

لم تعد مصيبتنا الحالية محصورة في عدم فهمنا للغة العربية، بل تعدت ذلك الى ما هو أشد خطراً، و هو أننا بتنا نفهم بشكل مغلوط و نصر على أنه الفهم الصحيح الذي نحن فيه، و يمنعنا من الاحساس بالحاجة الفعلية الى التصحيح و التغيير.

فنحن بسبب هذا الفهم الخاطئ للغة نغدو بين تيارين:

ـ تيار يتمسك بدين موهوم، و يتجمد على مفاهيم مغلوطة و ممارسات مخطوءة.

ـ و تيار ينفر من الدين ظناً أن هذه المفاهيم و الممارسات هي من هذا الدين و خارجة من مشكاته.

و لكي نخرج من هذه الحالة المزرية، لابد من الإحساس بالخطأ الفادح في فهمنا للغة، و لابد من المحاولة الجادة للعودة الى الفهم السليم للمعاني الأصلية للغتنا العربية.

إن هذا هو أهم شرط من شروط التجديد و التغيير، لأن الفهم السليم و الصحيح للغة العربية هو السبيل الأوحد للاستفادة الحقيقية من المصادر الأساسية لثقافتنا الإسلامية، و خاصة القرآن الكريم.

و من متطلبات فهم اللغة عدم الجمود على ظواهر الألفاظ، و الغوص وراء دلالاتها الجوهرية، و ما تتضمن من إلماحات و إيماءات و رموز و إشارات:

(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، سورة محمد (ص) آية 24.

التفريق بين الدين و التراث

هنالك حقيقة لا تقبل الجدل، و لا يختلف فيها أصحاب البصائر و الفطن، و هي أن الدين الذي أنزله الله على الأنبياء شيء، و تطبيقات الأمم له خلال العصور شيء آخر.

الدين المنزل من الله سبحانه بصائر معصومة، و نهج سديد، لا خلل فيه و لا شك و لا ريب:

(ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) البقرة: 2.

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً( الإسراء: 9.

أما التطبيقات البشرية فيكتنفها الكثير منه الجهل و الخطأ و الهوى و العجز و التقصير، إنها في أحسن الأحوال، و مع حسن النوايا، لا تعدو أن تكون محاولات و اجتهادات و تطبيقات ربما تكون ناقصة فهي ليست حجة علينا للاهتداء بها او السير على نهجها.

و لذلك فان الجمود عليها جمود على نسبة من الخطأ و الجهل و العجز و التقصير مهما كانت ضئيلة، و إن التحجر عليها لا يؤدي إلا إلى التخلف، فلابد إذن من التفريق الواضح بين الدين و التراث، و أن نعلم أن الدين للاتّباع و أن التراث للاسترشاد.

ان رفع القدسية من التراث و عن الأسلاف الذين خلفوه لنا، لا يعني بحال من الأحوال إهمال هــــذا التراث و لا ازدراء أولئك الأسلاف، و إنما يهدف لأن لا نجعل هذا التراث حجاباً بيننا و بين الدين، و أن لا نتخذ منه سداً حاجزاً عن الوصول الى الفهم الحقيقي للدين، أو على الأقل الى محاولة فهم جديدة تخص زماننا، و اجتهاد حي لمشاكل العصر الذي نحن فيه، و تطبيق للدين في جيل آخر له قضاياه و مشاكله و حاجاته.

و إضافة الى التفريق بين الدين و التراث ينبغي التفريق كذلك بين الثابت و المتغير في الدين.

و ليس هذا العنوان غريباً على أسماعنا، و لا مستهجناً في أفكارنا، و لا بعيداً عن إفهامنا، حيث استقر لدى المسلمين إن الإسلام صالح لكل زمان و مكان، و اجمع الفقهاء على تغير الأحكام بتغير الزمان و المكان، إلا أن المعاصريــــن منهم قد تهيبوا ولوج التطبيق العملي لهذا الذي استقر في الأذهان بشكل عام، و لهم الحق في هذا التهيب بعد الإغلاق الطويل لباب الاجتهاد، لكنه لا ينبغي أن يتحول الى جمود و تحجر، بالقدر الذي لا يجوز أن يكون فتحه مجالا لان يهجم على الاجتهاد كل من تحدثه نفسه أنه قد ملك شيئاً من الأهلية، أو حاز نصيباً من المعرفة أو الثقافة….

إن العودة إلى أهل العلم ـ و خاصة الراسخين فيه ـ و الاعتماد على أهل الاختصاص ـ و خاصة أهل التقوى منهم ـ شرط ضروري للنجاح في مضمار التجديد و التغيير المجدي في حياة الأمة، و لا يمكن الاستغناء عن هذا الشرط في حال من الأحوال.

و إن تهيب أهل العلم و الاختصاص من الولوج الى عالم التجديد و التغيير لا ينبغي أن يستفزنا لــــنستنفر من دونهم للقيام بهذه المهمة، لأن التجديد و التغيير لا يأتي طفرة واحدة، و لا يهجم على المجتمع دون مقدمات، فان ما يأتي عن طريق الاستعجال قد ترفضه الأمة و لا تهضمه، و لا تستطيع أن تتمثله في عقلها و قلبها و سلوكها:

(و قال الذين كفروا لو لا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلاً) الفرقان:32.

عدا عن أن الاستعجال قد يأتي بما يضر و لا ينفع.

و لعل من المفيد ـ إن لم يكن من الضروري ـ إن يكون فقه التغيير و التجديد جماعياً أو شبه جماعي، بحيث تنهض به مؤسسات ثقافية تقوم على الشورى و احترام الرأي الآخر و تعدد الاختصاصات العلمية و المناهج الفكرية و المدارس الفقهية، بحيث تنال ثقة الأمة و تشعر تجاهها بالاطمئنان، و بذلك تتفاعل معها و تدعم مسيرتها و تتحرك بحركتها.