المرأة في المنظومة الفكرية للشهيد السيد حسن الشيرازي

نجاح الجيزاني

موضوع لم يطرق بابه أحد من قبل.. لكن هذا لا يعني أن السيد الشهيد لم تكن له رؤيته الخاصة تجاه المرأة، وما تمثله من قيمة حقيقية في حياة الشعوب، فالمرأة هي نصف المجتمع شئنا ذلك أم أبينا، وهي تؤثر سلباً أو إيجاباً في مسيرة أية أمة.

من هذا المنطلق حاولنا أن نستنطق بعض النصوص والكلمات التي خلّفها الشهيد السعيد في هذا المجال، ضمن مؤلفاته الكثيرة والتي أغنى بها المكتبة الإسلامية وتركها إرثاً لمحبيه ومريديه، ولكل عشاق الكلمة الصادقة والحرف المسؤول، وستبقى تلك المؤلفات رمزاً لعطائه المتجدد على مر العصور والأيام.

الكتابة عن المرأة في حياة السيد الشهيد، وموقعها في خارطته الفكرية هي بحد ذاتها مجازفة، إلا أننا آثرنا القيام بها رغم قلة المادة التي بين أيدينا.

للسيد الشهيد رؤيته المنبثقة من رؤية القرآن تجاه المرأة.. خصها ضمن مؤلفاته الكثيرة بأحاديث بناءة، فقد تناول سيرة السيدة زينب(عليها السلام) عقيلة الهاشميين، باعتبارها تمثل الطود الشامخ والقدوة المثالية لأية امرأة مسلمة، فأفرد لها كتاباً خاصاً ضمن سلسلته الشهيرة الموسومة بـ(الكلمة) وأسماه )كلمة السيدة زينب(عليها السلام)( جمع بين دفتي هذا الكتاب المواقف الجريئة للسيدة العقيلة.. خطبها.. حكمها.. وكل ما مر بها من مصائب ومحن تميد منها الجبال الرواسي، فكان بحق كتاباً ثورياً يلخص مواقف الثورة وثورة المواقف.

ولم يكتف السيد الشهيد برسم خطوط القيادة النسائية الصالحة، وبيان الإلزام الإلهي لنساء المسلمين بالتمسك بالقدوات الإلهية، بل حاول السيد الشهيد معالجة الواقع النسائي بما يعتريه من أزمات أخلاقية ودينية فرسم لوحة شعرية لامرأة اليوم، والتي ضلت الطريق وفقدت بوصلة الاتجاه الصحيح، فيقول في إحدى قصائده الواردة في كتاب )جذور الشرق( والمعنونة بـ)تقزز المرأة:

أنا .. كم أصقل خدي؟

أنا .. كم أبرز نهدي؟

أنا .. كم أكشف أفخاذي .. وأكتافي .. وزندي؟

كم أصلي -أنا- للمرآة؟

كم أدفع للأزياء .. والتجميل

نقدي؟

هذه اللوحة التي خطها والتي أتقنها السيد الشهيد بريشته الأخاذة، أراد لها أن تكون لوحة حية متحركة، وناطقة لواقع المرأة المتردي، حيث الاهتمامات الهامشية، والافتتان بالدنيا الوضيعة الزائلة، والانغماس في حياة لا مسؤولة، واللجوء إلى أساليب شيطانية في الإغراء غير المشروع وإلى آخره من مفردات الضياع.

ومن خلال هذه الرؤية الثاقبة، ومن منظور الشاعر المتمكن، أعطى السيد الشهيد ضوءً أحمراً للمرأة المسلمة، وكأنه أراد أن يحذرها من مغبة التمادي في هذا الوضع الشاذ... فلا تجعل نفسها قطعة في اكسسوار أو سوقاً لتصريف بضائع الغرب الملحد.

الشهيد الشيرازي ورؤيته في تحرر المرأة

القضية الأخرى التي لا زالت تتفاعل يوماً بعد يوم، وتثير الجدل حولها باستمرار هي موضوع (تحرر المرأة) والركض المحموم خلف لافتات تنادي بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل.

هذا الموضوع الشائك والذي لأجله تسوّد الصفحات وتُعقد المؤتمرات له أعلامه ورموزه من النساء اللواتي يرفعن عقيرتهن ولا زلن للمطالبة بحقوق المرأة والانتصاف من الرجل، والأخذ بزمام المبادرة، ومجاراة المرأة الغربية في كل شيء إلى حد المسخ..، بل إن بعض رموز هذا الخط لا يرى تحرر المرأة إلا من خلال نزع الحجاب، والاختلاط مع الرجال، ومزاحمتهم في المواقع، وكأن المرأة المسلمة لا همّ لها سوى الإقتتال مع النصف الآخر والتربص به وأخذ المبادرة منه.

السيد الشهيد (رضوان الله تعالى عليه) أفرد لموضوع تحرر المرأة قصيدة كاملة أسماها )حرية السيدات( فلنقرأ ما يقول:

أفيقي من السكرة الغادرة

ولا تتبعي الفكرة الفاجرة

قذفت حجابك خلف الدروب

ودست فضيلتك العاثرة

فيا نعجة غازلتها الذئاب

لتبقى لها طعمة حاضرة!

ويا طفلة تعركين الرجال

كالفار.. والقطط الكاسرة!

قضية (حرية السيدات)

لهم .. ولك الدعوة الماكرة

فهم يبتغون جميع النساء

وألف سلام على القاصرة

بهذه الرؤية وبهذا الوضوح وصل السيد الشهيد رسالته للمرأة المسلمة، بعد أن أزاح الستار عن المؤامرات التي تحاك ضدها في الخفاء، منبهاً إياها إلى خطورة الدعوة الموجهة لها من قبل أدعياء الحرية وأذناب الاستعمار، الذين استطاعوا بمكرهم وخداعهم، تضليل المرأة المسلمة لفترة عقود طويلة، وحجبها عن أداء دورها ومسؤولياتها في الحياة.

وقد انبرى لهذا التوجه الإلحادي، مجموعة من الأقلام النسوية المحسوبة على العرب، تبث بمدادها سماً زعافاً وأفكاراً إلحادية وإباحية، فزرعت تلك الأقلام المأجورة في الواقع النسائي توجهاً نحو الخلاعة والميوعة والفساد - ومع الأسف الشديد – أخذت المرأة العربية المسلمة تتبع كل فكرة فاجرة -كما تنبأ لها السيد الشهيد- بعد أن قذفت حجابها وعفتها خلف ظهرها، وداست فضيلتها بقدميها، وياله من واقع مأساوي... لقد أضحت المرأة المسلمة ألعوبة بيد الرجل، تتقاذفها الأهواء وتتناوشها أيادي الغرباء، فأصبحت بعد كل هذا سلعة للمزايدة تباع وتشترى في سوق الرجال، إلا الواعيات منهن فقد كن متفتحات البصر والبصيرة، متمسكات بمبادئ القرآن وقوانين الحجاب وقيم الإسلام الحقة.

ومما لا شك فيه أن قيم الإسلام، هي الوحيدة التي تكفل للمرأة حريتها وصون عفتها وحفظ كرامتها وأنوثتها، أما القيم الوضعية فإنها تهدر عفاف المرأة وأنوثتها على مذابح الشهوات ومزالق الهوى تحت عناوين فضفاضة كـ(التحرر) و(المرأة العصرية المثالية) وغيرها.

إنه ذات النهج الذي دعى إليه الشهيد الشيرازي المرأة، فلم يكن نهجاً غريباً عن واقعها، أو أطروحة جديدة عليها، بل هي دعوة القرآن ذاته للنساء المسلمات، بأن يجعلن من أنفسهن قدوات صالحة للمرأة في عصرنا ولا يفسحن المجال للقدوات المزيفة بالانقضاض على الساحة النسائية والانفراد بها.

هذا الدور ينبغي أن تعيه المرأة المسلمة المجاهدة، فلا تركن بنفسها خارج دائرة المسؤولية، أو تنعزل عن الوسط النسائي بحجة أن غيرها هو المسؤول.

السيد الشهيد ومرثية الأمومة

إن رأيت دفء المكان فاعلم بأن وراءه أماً تشع دفئاً وتقطر حناناً، وهي بلا شك وهج الحياة ودفئها المتوقد.. وقد تغنّى بها الشعراء والأدباء، حتى إنهم نظموا فيها ولها أجمل القصائد الشعرية وأعذبها، وإذا قيل أن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة فهذه المقولة تصدق في آية الله الشيرازي الراحل فلقد تركت السيدة والدته (رحمها الله) بصماتها على حياة السيد الشهيد، وأغدقت عليه من لدنها شفافية واضحة، انعكست على مجمل أخلاقياته (رضوان الله تعالى عليه) إلا أنه رغم الشفافية الشديدة هذه، لم يسلم من النقد في حياته من الذين لم يفهموا مقاصده، حتى أنه أهداهم ذات مرة مجموعة شعرية، فيقول (قدس سره) في هذا الإهداء:

)أكثر من تعرّفوا عليّ لم يفهموني فانتقدوني، واليوم أدفع إلى من لم يفهموني مادة جديدة لانتقادي، عساي أفرغ بها شحنات صدورهم فلا يصبّوها على الأبرياء الآخرين، فلهم ما يشاؤون أن يقولوه عن غيرهم ولي الله..(

هذا الخلق الرفيع والإهداء الأرفع، يعكس عظمة هذه النفس الإنسانية وترفّعها عن المهادنة والمهاترة في علاقاتها مع الآخرين، إنها تجليات وانعكاسات الحب والحنان اللذان ورثهما عن الأم الرؤوم.

وحينما تناهى إلى سمعه ارتحالها عن الحياة والتحاقها بالرفيق الأعلى، قال في حقها مرثية رائعة كأجمل ما نظم من مرثيات الأمومة، حتى بدت الكلمات طيّعة تحت بنانه فيقول:

ونسيت قلبك في الفضاء
تأدينه خلف القضاء
ـن فقد تفرغ للعزاء
ـثر حوله أرج الثناء
ـترقين آفاق البلاء
بجوار أصحاب الكساء
ـت تؤثرين بلا جزاء
ء فصرت تربة كربلاء
ر فصرت أسبح في الجفاء

 

 

أمي! رجعت إلى السماء
أنا قلبك المألوم ... لا
لا نبض فيه ولا حنيـ
وسريت نعشاً قد تنـ
وذهبت للجنات تخـ
تستبدلين جوارنا
تستأثرين بهم وكنـ
وحملت تربة كربلا
أمي! جفوتك في الجوا

وقفة أخيرة وظلامة أخرى

في كتاب )سيكولوجية صدام( ذكر المؤلف حواراً تم بينه وبين خاله السيد الشهيد، فيقول العلامة السيد هادي المدرسي (حفظه الله):

لقد نقل لي خالي الشهيد السيد حسن الشيرازي، والذي دخل قصر النهاية في العراق لمدة عشرة شهور، نقل لي صوراً عن التعذيب الذي تعرض له، مما تقشعر لهوله الأبدان، وحينما طلبت منه أن يكتب مذكراته في هذا الشأن، وألححت عليه، قال:

وهل تخاف أن أنسى؟

قلت: ربما.

فقال: إن كل خلية في جسمي تعرضت للتعذيب بشكل مختلف عن الأخرى، ولذلك فإن صور التعذيب محفورة في ذاكرتي.

لقد كنت قلقاً –والكلام للمؤلف- من أن لا يكتب مذكراته وينساها، ولكنني لم انتبه إلى انهم سيفرغون ثلاثين رصاصة في رأسه ويردوه قتيلاً، قبل أن يكتب ما شاهده وعاناه منه في سجونهم.

وقيل إنه تعرض لأربعين صنفاً من صنوف التعذيب الوحشي، والتي تستعصي على الوصف.

هذا الحديث يستتبع سؤالاً يشكّل في دلالته ظلامة قاسية تضاف إلى ظلاماته الكثيرة، والسؤال هو: لماذا لم تكن هناك امرأة في حياة السيد الشهيد الشيرازي، بل لماذا لم يتزوج وهو على ما هو عليه من الصيت والشهرة الواسعة، هل ترك الزواج رغبة منه وعزوفاً عن شريعة الله؟! أم أن في الأمر سر نحن لا نعرفه؟!

قبل الإجابة عن هذا السؤال، أورد هنا خبر الرؤيا الذي ذكرته لي العلوية الفاضلة ابنة أخت السيد الشهيد فتقول:

رأى السيد الشهيد ذات ليلة في عالم الرؤيا، أن نبي الله عيسى بن مريم زاره فسلّم عليه وسلمه تربة الإمام الحسين(عليه السلام) قصّ هذه الرؤيا لوالدي آية الله المدرسي (الراحل) فقال له: تفسير رؤياك إنك ستظل أعزباً ولن تتزوج كالنبي عيسى(عليه السلام) ولم يعطه تفسير التربة الحسينية، حتى شاءت الأقدار أن تغتاله الأيادي الآثمة في بيروت، فالتحق بركب سيد الشهداء(عليه السلام)، وهذا هو تفسير التربة الحسينية والتي لم يشأ السيد المدرسي (قدس سره) ذكره للشهيد.

فلم يكفهم انهم أذاقوه صنوف التعذيب في سجونهم الموحشة، وجرّبوا في جسده الطاهر جميع أساليب التعذيب الوحشية والبربرية.. فصمموا على اغتيال جسده وإسكات صوته برصاصات لئيمة، ظناً منهم أنهم سيسكتونه إلى الأبد، ولكن الله سبحانه أراد شيئاً وأرادوا شيئاً آخر، ولن يكون إلا ما أراد الله، وله الأمر من قبل ومن بعد، لقد ابتغى الله الجليل عز اسمه للسيد الشهيد الحياة الآخرة، ونعيمها المقيم بدلاً من الحياة الدنيا ومعاشها الزائل.

أما لماذا لم يتزوج فجوابه ينبع من ذات التعذيب الذي تعرض له السيد الشهيد (رضوان الله عليه)ن لقد ظن الصداميون إنهم قد أفقدوه القدرة على الزواج، فإنهم بذلك سيضربون عصفورين بحجر واحد؛ أولهما: إن ينقطع نسله فلن يكون له خلف في حياته وبعد مماته. ثانيهماً: إنهم سيثنون عزمه عن مواصلة الجهاد ومقارعة الظالمين والملحدين.. ولكن خسأ العفالقة، فلقد ظل الشهيد الشيرازي وفياً لدينه، مخلصاً في وفائه، شديداً في إخلاصه، وظلت حنجرته الذهبية تصدح في الفضاء الأرحب، وهو القائل:

لا تبكني .. فالموت بدء حياتي

وغداً .. سأولد عند فجر مماتي

فالشهيد يولد بشهادته مرة، ولكنه يتوالد عشرات المرات، وهاهم السائرون على نهجه وخطاه قد ملأوا أسماع الزمان والمكان، فلا يحصى لهم عدداً، قلوبهم غامرة بحبه.. ألسنتهم تلهج بذكره.. وعزائمهم معقودة على الثأر من أعداء الله.. أعداء الدين والعلم والإنسانية، وسيظل الشهيد شاهداً على عصره حتى قيام الساعة، فسلام عليك –يا سيدي- يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً إنشاء الله مع الشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.