في ذكراه العشرين

الشهيد الشيرازي رجل الاستراتيجية

الأستاذ: نزار حيدر

قليلون هم الرجال الذين يفكرون ويخططون استراتيجياً، والمفكر الإسلامي آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (اغتيل في بيروت عام 1980م) واحد من هؤلاء القلة في أمتنا الإسلامية، إذ اعتاد الناس عادة على العمل التكتيكي، وشتان بين النوعين، لأن مليون تكتيك قد لا يعادل استراتيجية واحدة، وما فائدة التكتيكات إذا لم تصب في رافد استراتيجي واضح المعالم مدروس الإمكانيات والأهداف والنتائج، فضلاً عن أن التكتيكات، مهما كثرت، لا تبني حضارات ولا تبني مشاريع ولا تحقق هدفاً، أما الاستراتيجية فإنها حجر الأساس لكل ذلك.

ومشكلتنا - نحن في العالم الثالث أو ما يسمونه بالنامي- هي أننا لا نعرف العمل الاستراتيجي ولا نفكر فيه ولا نحاول أن نمارسه لأنه صعب ويتطلب المزيد من التفكير والتخطيط والرؤية الاستراتيجية للأحداث، بالإضافة إلى أنه بحاجة إلى نوع خاص من الرجال الذين يتميزون بالصبر ويتحلون بسعة الأفق ودقة التحليل والقدرة الفائقة على ربط الجزئيات ببعضها لانتاج كليات محسوسة وملموسة، وهذا ما نفقده عادةً، فضلاً عن أن العمل الاستراتيجي يتطلب اعتماد عنصر الزمن كأحد الأسس المهمة لنجاحه، أما نحن فمستعجلون لا نرى إلا مواطئ أقدامنا ولا نهوى إلا الأعمال التكتيكية التي تنتج بسرعة وهي عادة ما تنتهي بسرعة، ولذلك ترانا متخلفين على أكثر من صعيد، والأمة –أي أمة- إنما تحيا بأعمالها الاستراتيجية كما أن الرجال العظماء يخلدون بمنجزاتهم الاستراتيجية التي تصنع فيهم العظمة والأهمية والتي تبقى –منجزاتهم الاستراتيجية- ما بقي الدهر، أما رجال الأعمال التكتيكية فإن منجزاتهم تموت بموتهم لأنها عادة ما ترتبط بوجودهم.

ولا أبالغ قط إذا قلت بأن الشهيد الشيرازي، واحد من أولئك الرجال القلائل الذين خططوا وعملوا استراتيجياً، لأنه أولاً، كان يفكر في نتاج ثابت لا يهتز إزاء التحديات والعواصف، ولأنه ثانياً، كان يؤسس للزمن القادم وليس للحظات والساعات التي كان يعيشها، ولأنه ثالثاً، لم يكن يستعجل النتائج لأنه كان أبعد ما يكون عن حب الزعامة وحب الظهور والرياء والسمعة، ولذلك لم يكن المهم عنده أن يرى نهاية ما يؤسسه ليحتفل به ويسجله باسمه، بمقدار ما كان المهم عنده أن يؤسس ويبني ما يمكن أن يكون مشروعاً للعمر تستفيد منه الأمة جيلاً بعد جيل، بالإضافة إلى أنه كان على يقين من أن البناء الحضاري والمشروع النهضوي لا يمكن أن يتحقق بليلة وضحاها لعمق المأساة التي تعيشها الأمة وخطورة مشاكلها التي ضربت في الجذور والأعماق، فالعجلة في مثل ذلك إهدار للطاقات والزمن المصروف، وتقديم للتضحيات من دون نتيجة، فتكون الأمة قد خسرت كل ذلك مع الإبقاء على الحالة المرضية، ولكل ذلك كان الشهيد استراتيجياً في التفكير والتخطيط والعمل والتنفيذ، لأنه كان يحمل في ذهنه مشروعاً متكاملاً يتطلب رجال استراتيجيون غير مستعجلين حتى لا يفرطوا بشيء من حق الأمة.

إن الفارق بين التكتيك والاستراتيجية، كالفارق بين النار التي تشب في الهشيم والأخرى التي تشتعل في الحطب، فإذا كانت الأولى تشب بسرعة لتصل ألسنتها إلى عنان السماء، ولكنها ما تلبث أن تنطفئ بسرعة، فإن الثانية إلا تشتعل لا بشق الأنفس إلا أنها تظل متقدة مدة طويلة من الزمن ولذلك تتعدد سبل الاستفادة منها.

كذلك الحال بين التكتيك والاستراتيجية، فالأول ينجز بسرعة ويتبخّر بسرعة ولا تبقى إلا آثاره البسيطة أما الثانية فلا تنجز بسرعة إلا إنها تمتد مع الزمن فتتعدد أهميتها وتترسخ نتائجها وإنجازاتها، ولذلك اختارها الشهيد الشيرازي.

لقد عانقنا السماء يوم كنا أمة تفكر وتخطط وتعمل باستراتيجية، فسبقنا الآخرين في بناء حضارتنا الإسلامية التي اعتمدت على الوحدة والحرية واحترام حقوق الإنسان والمساواة والمشاركة والمسؤولية والتعاون والإيثار والتسامح ومكارم الأخلاق والتقوى والعمل الصالح، ثم رحنا نصدر مقومات البناء الحضاري والعلوم والمعارف بمختلف أشكالها إلى الأمم الأخرى التي كانت غارقة آنئذ في ظلام الجهل والتخلف والأمية والتقاتل والعدوان على الآخرين، إلا أن الخط البياني بدأ بالتراجع عندما تحولت همومنا الاستراتيجية إلى مجموعة من الأعمال التكتيكية التي تجر الإنسان جراً للإنشغال بها لسهولتها وسرعة إنجازها وبساطة ممارستها، والتي وقفت على رأسها همّ السلطة من أجل السلطة، فتقاتل عليها الآباء والأبناء ثم الأشقاء فيما بينهم ثم الأبناء والأحفاد وأخيراً قواد الجيش والوزراء ثم الأدنى فالأدنى.

حتى الفتوحات تحولت عندنا إلى عمل تكتيكي لا نستهدف منه سوى توسيع أراضي وحدود الإمبراطورية واغتنام العبيد والجواري لنملأ بهم قصر الخليفة، والحلي والمجوهرات وغير ذلك، فكانت الوسيلة إلى تحقيقها القتل والإرهاب والعدوان والدمار والتجاوز على حدود الله وكل الوسائل غير المشروعة؛ لأن الخليفة أو واليه على هذه البلاد كان مستعجلاً لتسجيل الفتح باسمه قبل أن تنقلب عليه الطاولة فيطير معها عن كرسي الحكم ويخلفه آخر يسارع أولاً إلى تسجيل فتح الذي سبقه باسمه وهكذا دواليك.

وتنقلب المعادلة، وإذا بنا أمة متخلفة مشغولة بالتكتيكات، محكومة من قبل الآخر المشغول بالاستراتيجيات ومنها، وبل ولعل من أهمها وأبرزها مدّ نفوذه على هذا العالم المترامي الأطراف والذي نحن جزء منه.

إننا نعدم اليوم الرجال الاستراتيجيون، ليس لأننا لا نمتلكهم، أو أن الأمة لم تنجبهم، وإنما لأن الجو العام محكوم بالأعمال التكتيكية التي يلمس الناس ثمارها كل يوم وربما كل ساعة وهذا ما نريده، ولذلك ترانا نصطف ضد أي رجل استراتيجي يحاول انتشال الأمة من وضعها المؤسف ليشغلها بالأهم وأقصد به الخطط والأعمال والمشاريع الاستراتيجية، والتقليل من المهم، وأقصد به الهموم التكتيكية التي أجهدتنا واستنزفت طاقاتنا من دون أي تغيير ملموس لا على أرض الواقع ولا في المستوى المنظور والشهيد الشيرازي واحد من أولئك.

وإذا كانت الجيوش لا تقاس بعدد الجنود وإنما بعدد الضباط ذوي الخبرة والتجربة والقدرة على قيادة جموع الجنود الغفيرة في ساحة المعركة عند احتدام الصراع مع العدو، كذلك الأمم والشعوب فإن قدرتها ونضجها ورشدها وصمودها أمام التحديات تقاس بعدد الرجال الاستراتيجيين ذوي الخبرة، القادرين على التخطيط للزمن القادم عندما يكون جمهور الشعب مشغولاً بهموم يومه.

إننا –وللأسف- نعيش زمناً لا يجرؤ الاستراتيجيون على التحكم فيه لأنهم سرعان ما يتهمون ويمارس ضدهم الاغتيال السياسي والدعاية السوداء والتخويف وغير ذلك، من دون أن تمنحهم الساحة الفرصة الكافية لإثبات وجودهم وأحقية منهجيتهم وقدرتهم على القيادة والإدارة.

ولأنني لا أستطيع أن ألمّ بكل المشاريع والجهود والخطط الاستراتيجية التي حمل همومها الشهيد السعيد، لذلك سأحاول أن أؤشر على أهمها وأبرزها وهي:

 العراق في الرؤية الاستراتيجية

في 17 تموز عام 1967م نزت على السلطة في بغداد عصابة من البعثيين العفالقة، يتزعمهم أحد أبرز مجرمي العصابة وهو الطاغية صدام.

وقتها اختلف (المعنيون) في فهم هذه الزمرة، إما جهلاً بأصولها وعدم معرفة صحيحة بخططها وأهدافها ودوافعها، وإما للا أباليتهم وعدم اكتراثهم بما يجري في القصر الجمهوري بالعاصمة بغداد، وإما خوفاً من العواقب غير المحمودة فكان شعار الأغلبية (ما لنا والدخول بين السلاطين) أو القول المشهور:)الصلاة خلف علي أتم، والقصعة مع معاوية ادسم، والوقوف على التل أسلم(، وهذا ما كان يرقص له طرباً الحكام الجدد.

أما الشهيد الشيرازي، فقد نجح في تحديد هوية العصابة وأهدافها بكامل الوعي ونفاذ البصيرة، بالرغم من أن العصابة حاولت في البداية التستر على هويتها الحقيقية والتخفي وراء شعارات وأسماء وعناوين مختلفة، إلا أن الشهيد لم ينطل عليه كل ذلك، ولذلك تعامل مع العهد الجديد باستراتيجية واضحة داعياً الآخرين وعموم الشعب العراقي إلى التصدي الفوري لهذه الزمرة، اليوم وقبل فوات الأوان، لأنها في بداية الرحلة تكون ضعيفة القوى غير منسجمة التركيب ومراكز القوى، قد تفجرها التناقضات في أية لحظة، والانقلابيون اللصوص عادة ما ينشغلون بأنفسهم في بداية سيطرتهم على الحكم حتى إذا صفّى القوي منهم الضعيف واستتبّت له دعائم الحكم، تفرغ للشعب وقواه المخلصة والواعية والحقيقية الرافضة لهذه الطريقة في الحكم والسلطة، فكان كل أمل الشهيد أن يتحرك ويحرك معه الشعب ضد السلطة قبل أن يستفحل أمرها وتتفرغ لهم، ولكن للأسف الشديد لم يكن الوعي الجماهيري بمستوى التصدي فحصل ما حصل، فقد صفّى الرفاق بعضهم بعضاً بسرعة البرق وخرج الطاغية صدام أقوى، ليتجه صوب النجف وكربلاء باعتبارهما مصدراً للإزعاج الأول والأهم الذي يقلق سلطته، فبدأ حملته الشعواء ضد الحوزات والمراجع والفقهاء والعلماء والمثقفين والكتاب والخطباء والأدباء، مبتدئاً حملته بأنشط رجلين وأخطر الموجودين آنئذ وهما الشهيد السيد حسن الشيرازي في كربلاء والشهيد السيد مهدي الحكيم في النجف، لما كانا يمثلانه كذلك من امتداد مرجعي خطير على السلطة، الأول متمثلاً بمرجعية الإمام السيد محمد الشيرازي وهي المرجعية الحضارية الناشطة والمجددة والمتجددة والناهضة التي كانت وقتها تواصل امتدادها بخطى استراتيجية ثابتة ومدروسة، والثاني ممثلاً بمرجعية الإمام السيد محسن الحكيم، وهي المرجعية العليا آنئذ، وكأن النظام أراد أن يقضي على المرجعية بشكل كامل من خلال القضاء على الجذر والغصن.

وكانت خطة الشهيد التحذير من:

أولاً: الأحزاب المنحرفة التي صدرها لنا الغرب ومنها الحزب العفلقي بقوله:

كم ذا جنى الأذناب والأحزاب فلتسقط الأحزاب والأذناب

لا توجد الأحزاب في أوطاننا فمـناورات تلك أو ألعاب

ثانياً: الحزب العفلقي على وجه التحديد من خلال الكشف عن جذوره وارتباطاته الاستعمارية المعادية للشعب والأمة ولقيمهم ومقدساتهم وتاريخهم وتراثم بقوله:

لو لم يكونوا ملحدين لما رضوا بالمشـركين وفـيهم دخلاء

لكـنهم راحـوا قـيادة عـفلق إذ لـم يـكن فيه لـه أكفاء

أوَليس قد سـماه يـعرب عفلقاً ولديه أحـقاد الصليب دماء

وأبوه جاء لسـوريا مسـتعمراً والأم بـاريسـية عجـماء

ثالثاً: القيادات المنحرفة وشد الشعب إلى قياداته الحقيقية والأصيلة بقوله:

وزعيمنا الـكدار لا ميـشيل لا ماركس لاالقسيس لا الحاخام

وكذا قوله مخاطباً الإمام أمير المؤمنين )عليه السلام( في ذكرى مولده المبارك في 13 رجب:

فالشعب نحن وأنت أنت إمـامنا ورعاتنا (العلماء) لا(العملاء)

رابعاً: دعوته الصريحة والواضحة للتصدي لهذه الزمرة من دون خوف أو تردد، ومن دون التلفّع بعباءة التقية لأنه كان يرى وبنظرة المتيقن بأن الظروف التي تمر بالعراق خطيرة جداً لا تتحمل السكوت أو التريث أو الانتظار أو التردد فكان يرى وجوب العمل السريع والتحرك المباشر، وإلا فإن الأيام القادمة حبلى بأعظم المخاطر وأشدها ليس على الشعب العراقي فحسب وإنما على الأمة وعلى الإسلام على حد سواء، و لذلك وقف يدعو الجميع للتحرك الفوري على هدى الإسلام ومجده بقوله:

أمل الشعوب ومجدها الإسلام وسـواه كفـر زائف وظلام

فدع المبادئ كلـها في معزلٍ إن المـبـادئ كلـها هـدّام

واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً إن الـعقيدة مصحف وحسام

واسحق جباه المـلحدين مردداً لا السجن يرهبني ولا الاعدام

والبيت الأخير إشارة إلى شراسة المواجهة من جانب والاستعداد التام لكل الاحتمالات التي قد يواجهها المرء في مثل هذه المواجهة من جانب آخر، لمعرفته بمدى إرهابية وعدوانية العصابة الجديدة التي لم تتورع عن ممارسة أي شيء من أجل الاحتفاظ بالكرسي، وبالفعل فلقد أثبت الشهيد أن السجن والتعذيب بكل أشكاله وألوانه وأحكام الإعدام التي صدرت بحقه، إن كل ذلك لم يثنه عن المضي في مسيرته الجهادية الصالحة.

وكان الشهيد قد أطلق رؤيته هذه ووضعها أمام الجميع ليتحملوا المسؤولية بعد أن قرأ خريطة المستقبل برؤية استراتيجية كان يرى فيها:

أرض العراق مجازر ومآتم والرافدان مدامـع ودماء

خامساً: وكانت أروع رؤاه الاستراتيجية بهذا الصدد قوله:

ويل العراق فليله لا ينقضي حتى تقوم حكومة الإسلام

والذي حدد فيه الخط العام الصحيح الذي يلزم الجهاد والنضال من أجل تحقيقه كمشروع استراتيجي لحل قضية العراق بشكل جذري ومن دون ترقيعات لا تغني ولا تسمن.

ومن هنا نفهم أن رؤية الشهيد للعراق كانت استراتيجية عميقة، خاطب فيها الشعب قبل أي واحد آخر من خلال تأسيسه لمشروع احتفالات مولد الإمام علي بن أبي طالب )عليه السلام( الجماهيري، ليحمّله المسؤولية كاملة باعتباره المعني قبل أي واحد آخر خاصة بعد أن رأى عزوف البعض عن تحمل مسؤولياتهم الإنسانية والإسلامية والوطنية، حتى لا تبقى حجة لأحد من الناس يتهرب من خلالها من المسؤولية لائماً الآخرين مبرّءاً نفسه بحجة جهله بالأمور وعدم معرفته وإطلاعه على حقائق الأمور والقضايا والتي تمر بها الساحة والساعة.

 الحوزة العلمية الزينبية.. الصرح الاستراتيجي الثابت

لقد كانت كل اهتمامات الشهيد استراتيجية، فلم يكن يشغل نفسه بالتكتيكات أو بالتوافه من الأمور، كما أنه كان يسعى في نشاطاته إلى تأسيس كل ما هو جديد واستراتيجي، فكان لا يحبذ الاستمرار على الروتين أو الاندماج بما هو قائم أو التطفل على جهود الآخرين، لأنه أدرك أن فلسفة التطور في هذه الحياة قائمة على اكتشاف الأراضي البكر واستغلالها في توسيع مجالات العمل الإسلامي وعدم الاكتفاء بما هو قائم وموجود، والذي يعني الاستمرار في المراوحة عند موطئ الأقدام وذلك هو التخلف بعينه، أولم يقل المعصوم )عليه السلام(:)من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه أفضل من يومه فهو ملعون أو إلى نقصان؟(.

ومن هذا الفهم الواعي لنظرية التطور كان الشهيد يسعى إلى ملئ الفراغات الاستراتيجية في أي موقع يراه هاماً لمسيرة العمل الإسلامي سواء كان ذلك الفراغ فكرياً أو سياسياً أو إعلامياً أو مؤسساتياً أو أي نوع آخر، بغض النظر عن الزمان والمكان، والجهود التي يحتاجها المشروع والعراقيل التي سيواجهها والمشاكل التي ستعترضه وسهام النقد والتحريض المضاد التي سيتلقاها في صدره، لأن المهم عنده أن يملأ الفراغ بمشروع استراتيجي ومفيد.

ولعل من أبرز مصاديق مشاريع الشهيد الاستراتيجية التي ينطبق عليها ذلك هو تشييده للحوزة العلمية الزينبية في منطقة السيدة زينب)عليها السلام(.

فلقد فكر الشهيد في تشييد هذا الصرح الاستراتيجي بدمشق الشام في وقت لم يكن يخطر على بال أحد أن يقتحم الصعوبات ويتجاوز المحاذير فيبادر إلى مثل هذا العمل خاصة وإن الحوزات العلمية التقليدية كانت آنئذ تنشر بظلالها على مدن العراق وإيران المقدسة، ولذلك فقد اعترض الكثيرون على مشروع الشهيد، فيما اعتبره البعض الآخر نوعاً من أنواع شق عصا الحوزة العلمية المترسخة آنئذ في خنادقها التراثية.

إلا أن الشهيد كان ينطلق من نظرة أخرى تختلف تماماً عن رؤية الآخرين، فلقد كان يرى بأن سيطرة نظام العفالقة في العراق ومساعيه الرامية إلى تدمير الحوزة العلمية في النجف الأشرف بعد تصفيته للحوزات العلمية في كربلاء والكاظمية المقدستين نذير شؤم ونواقيس خطر، لابد من السعي لصناعة بدائل للصروح العلمية التقليدية للحيلولة دون توقف أو إضعاف الجهد العلمي الديني مهما كان الثمن، فاختار منطقة السيدة زينب)عليها السلام( لهذا المشروع لما تتميز به سوريا من موقع استراتيجي متميز بالنسبة للعالم الإسلامي فضلاً عما تتميز به منطقة السيدة زينب بالذات من موقع خاص في قلوب المسلمين، كونها تضمّ بين جنباتها مرقد بطلة كربلاء وعقيلة الهاشميين العالمة غير المعلمة السيدة الجليلة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين)عليه السلام(، وهذا يعني أن الطلبة الوافدين الذين سيدرسون العلوم الدينية إلى جانب مرقدها الشريف سينهلون منه الإيمان والاستقامة والصبر وتحمل الصعاب في سبيل طلب العلم وإعلاء كلمة الله تعالى في الآفاق.

وتمر الأيام والسنون والعقود وإذا بمنطقة السيدة زينب تضم واحدة من كبريات الحوزات العلمية، يدرّس فيها عشرات العلماء والأساتذة في مختلف المراحل وأنواع الدروس لأعداد غفيرة من طلبة العلوم الدينية من مختلف دول العالم والاسلامي منه على وجه الخصوص.

وبعد مرور أكثر من ربع قرن على تأسيس هذا الصرح الاستراتيجي المبارك، يتضح لكل ذي عين بصيرة أن تفكير الشهيد في تأسيس هذا المشروع كان استراتيجياً حقاً، فالظروف القاسية التي مرت على العراق في ظل السلطة الديكتاتورية والتداخلات السياسية والأمنية والإدارية التي مرت على إيران منذ انتصار الثورة عام 1979م، كادت أن تحرم الآلاف من طلبة العلوم الدينية من التحصيل والدراسة وإكمال دروسهم وبحوثهم العلمية والدينية، لولا أنهم رأوا في الحوزة العلمية الزينبية التي أسسها الشهيد الشيرازي ملجأً آمناً لجأوا إليه وملاذاً يطمئن إليه يمكن أن يحتضنهم ويرعاهم ويمنحهم الفرصة الذهبية التي كانوا يحلمون بها في الحوزات والمناطق الأخرى.

لقد كان مشروع تأسيس الحوزة بحق عملاً استراتيجياً أحيا موقعاً استراتيجياً في المنطقة والعالم الإسلامي فكانت البديل عن الحوزات التقليدية التي صعب على الكثيرين من الطلبة شدّ الرحال إليها لأسباب عديدة، أمنية وسياسية وإدارية وغيرها، ولذلك نرى أن الحوزة اليوم تحتضن العديد من كبار الأساتذة ولمختلف المستويات التدريسية الحوزوية بالإضافة إلى احتضانها ورعايتها لكم وفير من الطلبة الأجلاء ومن مختلف بلدان العالم.

ولا نجانب الحقيقة قط إذا قلنا بأن للحوزة العلمية الزينبية ومؤسسها الشهيد الشيرازي، الفضل للوجود الواسع والمفعم بالخير والبركة المادية والمعنوية اليوم في شوارع منطقة السيدة زينب)عليها السلام(، بل إن لها الفضل على العديد من الحوزات العلمية الدينية التي شيدت في بقاع مختلفة من العالم كبلدان إفريقيا والهند والباكستان والتي اتخذت منها منطلقاً لرحلة التأسيس.

كما ساهمت الحوزة بشكل فعال في بناء جيل واسع من الأساتذة والحوزويين الذين ينتشرون اليوم في مختلف مناطق العالم يبلغون رسالات الله عز وجل ويدرّسون علوم الإسلام والقرآن الكريم وعلوم أهل بيت النبوة)عليهم السلام(. بالإضافة إلى مساهمتها في بناء جيل آخر مكن الخطباء المتميّزين الذين يجوبون البقاع في الاتجاهات الأربعة كل عام مرة أو مرتين يبلغون ويرشدون ويحيون أمر أهل البيت)عليهم السلام(.

لقد تحمّل الشهيد الكثير من الصعوبات والعراقيل حتى نجح بتوفيق من الله عز وجل في تشييد مشروع العمر الاستراتيجي، فلقد كانت المنطقة آنئذٍ قاحلة جرداء لا يسكنها أحد، إلا أن الشهيد نجح في إحياء المنطقة وتحويلها إلى واحدة من أكثر مناطق ريف دمشق عصريّة بالرغم من أنه بدأ المشروع من الصفر سواء على صعيد البناء وتأمين قاعات الدرس وسكن الأساتذة والطلبة وانتهاءً بالمستلزمات القانونية التي يحتاجها مثل هذا المشروع وصون المنتمين إليه.

ولقد كانت للشهيد طموحات كبيرة في هذا المشروع كان يسعى لتأسيسها وتحقيقها واحداً بعد آخر، إذ كان ينوي أن يبني مدرسة دينية ضخمة ذات طوابق وأجنحة متعددة لسكن الأساتذة والطلبة سواء المتزوجين منهم أو العزاب، كما كانت في نيته أن يبني إلى جانب ذلك مسجداً ومكتبة وحسينية وقاعة للمطالعات والمحاضرات والندوات الإسلامية وحدائق جميلة تحيط بهذه المؤسسات والمراكز، إلا أن يد المنون حالت دون أن يحقق طموحاته الاستراتيجية الكبيرة، آملين أن يوفق الله تعالى تلامذته ومحبيه لمواصلة المشوار وإكمال ما انتهى عنده الشهيد بعد أن نال درجة الشهادة العظيمة.

هذا غيض من فيض نشاطات واهتمامات الشهيد الاستراتيجية، ولكم كان بودي أن أتحدث عن اهتماماته الاستراتيجية الأخرى لولا محدودية الزمان والمكان، وأسأله تعالى أن يوفق المعنيين لتسليط الضوء على الجوانب الاستراتيجية دون كلل أو ملل أو استعجال.

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد برصاصات الغدر ويوم يبعث حياً في مقعد صدق عند مليك مقتدر والحمد لله أولاً وأخيراً