مجلـــــة النبـــــأ      العــــدد  27       السنــــة الرابعــــة       شعبــــــان  1419 هـ

الحرية قلق الغياب ودعوى الحضور


حيدر الجرّاح

شيء من اللغة

جاء في لسان العرب أن الحر نقيض العبد، والحرّة نقيض الأمة(1).. وهو من الضرب الأول الذي لم يجر عليه حكم الشيء نحو الحرّ بالحرّ(2)... والثاني: من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية التي تضادّ ذلك...

أشار النبي(ص): ·تَعِس عبد الدرهم، تَعِس عبد الدينار (3). وقول زهير: ورقّ ذوي الأطماع رقّ مخلّد (4).

وقيل: عبد الشهوة أذلُّ من عبد الرق..

والتحرير: جعل الإنسان حرّاً، فمن الأول (فتحرير رقبة مؤمنة)(5)، ومن الثاني (نذرت لك ما في بطني محرراً) (6) قيل هو أنه جعل ولده بحيث لا ينتفع به الانتفاع الدنيوي المذكور في قوله عز وجل: ( بنين وحفدة) (7) وقيل: جعلته خادماً يخدم في متعبداتك (8)..

وحررت القوم أطلقتهم عن أسر الحبس، وحرّ الوجه ما لم تسترقه الحاجة(9)، والحرّ: الكريم ... قال الشاعر:

تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ فان الحرّ في الدنيا قليل(10)

والحرّ من كل شيء اعتقه.. والحرّ الفعل الحسن.. والحرّة: سحابة بكر كثيرة المطر .. والحرّ من الناس: أخيارهم وأفاضلهم .. وحرية العرب: أشرافهم (11)..

تدلّنا اللغة على أن هذا المصطلح قد توزّع على معان متعدّدة وكلها تشير إلى الشيء الحسن والجذّاب والمتِّسق مع معانيه ودلالاته.. ومعنى التخليص والتميز والنقاوة من الشوائب ومن كل ما يشين .. فهي تعني الانطلاق الذي هو نقيض القيود والعبودية... وهي تعني التفرّغ لطاعة الله وخدمة المسجد فعلاً يسبق القول... وحركة تتماشى مع غاية الخلق... وهي تعني الأخيار والأفاضل من الناس.. وتعني الفعل الحسن والسحابة الكثيرة المطر.. وهي كلها معاني تدور حول الخير والجمال والبركة والنعماء.. والحرية في الاصطلاح يقابل الجبر واللا اختيار والسوق...

شيء من الفلسفة والتاريخ ...

يمكن تمييز ثلاثة مستويات مختلفة في تعريف الحرية..

1- المستوى الأول: وهو المستوى اللغوي والعادي والمتعارف عليه والذي يعني انعدام القيود القمعية أو الزجرية... فالحرية هنا هي الصفة التي تعطى لبعض الأفعال البشرية التي يقوم بها الإنسان بدون ضغط أو إكراه وعن سابق قصد وتصوّر وتصميم كما أنها نقيض العبودية والتبعية..

2- المستوى الثاني: يقع في نطاق التفكير الأخلاقي والسياسي... والحرية في هذا المستوى لا تعود مجرّد صفة تميز بعض الأفعال عن غيرها بل ترتفع إلى مستوى الواجبات والحقوق والقيم.. إنها ذلك الشيء الذي يجب أن يكون ولم يتحقّق بعد..

3- المستوى الثالث: فهو مستوى الفلسفة الخالصة حين يطرح سؤال عن ماهية الحرية وجوهرها وربط وجودها بمجموعة من المفاهيم والتعابير مثل السببية والضرورة والحتمية والاحتمال والإمكان وتتعلق هذه كلها بصيغ الوجود وطرقه(12) ..

نحاول أن نتطرّق إلى جملة من الآراء حول مفهوم الحرية ومدلولاته الواسعة من خلال استقراء مجموعة من التعاريف والأفكار في المفهوم الفلسفي والتاريخي ..

يذهب بعض المفكرين إلى القول أن غياب الإكراه هو الشرط الكافي والضروري لتحديد الحرية، فطالما أن الإنسان يتصرّف بملء إرادته ولا يخضع لأي إكراه فهو حر..

يقرر الفيلسوف هوبر :«إن الحرية هي انعدام القسر.. وكل فعل يتم وفقاً لدوافع حتى لو كان الدافع هو الخوف من الموت يُعدُّ حراً.. والإنسان يكون حرّاً بقدر ما يستطيع التحرك على طرق أكثر وحرية المواطن والعبد لا تختلف إلا من حيث الدرجة، فالمواطن ليس تام الحرية والعبد ليس تام العبودية»(13).

وعند سبينوزا نجد نفس المفهوم للحرية وهو الخلو من القسر:«هذا الشيء يُعدُّ حراً إذا كان يوجد وفقاً لضرورة ماهيته وحدها ويعين ذاته بذاته للفعل»(14)، ووفقاً لهذا التعريف أن الله هو وحده الحر أما الإنسان فهو غير حر لأنه يتحرك بانفعالات خارجية ومع ذلك فإن الإنسان يستطيع أن يتحرّر إذا أحال أفكاره غير الواضحة إلى واضحة وأحال انفعالاته إلى حب الله..

وعند الفيلسوف لوك أن الحرية هي أن «نفعل أو لا نفعل بحسب ما نختار أو نريد»(15).

أما هيدجر فيقول: «إن ماهية الحقيقة هي الحرية والإنسان لا يوجد إلاّ من حيث هو مملوك للحرية .. فالحرية هي من ماهية الإنسان الجوهرية .. والحرية هي الأساس المطلق وهي التأسيس وهي الوجود الأساسي»(16).

إلاّ أن مفكرين آخرين يعطون لمفهوم الحرية وبالتالي لمفهوم العبودية مدى أوسع فيقولون أن إرادة الآخرين أو سلطتهم أو قوّتهم ليست هي وحدها التي تعيق الحرية وتقيّدها بل أن الظروف الطبيعية تفرض هي الأخرى قيودها وعنفها على قدرة الإنسان على الاختيار الحر..

ويضيف هؤلاء المفكرون أنه سواء كانت إرادة الآخرين - السلطة - تحدُّ من قدرتنا على القرار والاختيار أم لا فإننا لا نستطيع الادّعاء بأننا أحرار في القيام بعمل ما إذا كنا لا نملك وسائل تحقيقه.. فعندما تنعدم الوسائل تكون الحرية هي الأخرى منعدمة...

والحرية في هذا المفهوم قد اقترنت بشرطين أساسين هما الإرادة والعقل.. قدر الفيلسوف ليبنتس أن «الحرية تكون أوفر كلّما كان الفعل صادراً عن العقل وتكون أقل كلّما كان الفعل صادراً عن الانفعال»(17).

ونعود الى سبينوزا مرّة أخرى فنراه يقرن الحرية بمدى قدرة الإنسان على التخلّص من أهواءه ورغباته والتي يعتبرها قيداً يحجر على حريته - فهو يقول «إنني أسمّي العجز الإنساني عن ترويض الأهواء والحد منها عبودية، لأن الإنسان الخاضع للهواء لا يمتلك نفسه بل هو موجود في قبضة القدر وإلى حد يجعله على الرغم من رؤيته للأفضل مضطراً إلى اتباع الأسوأ»(18).

وإذا توغّلنا بعيداً في ذاكرة التاريخ نجد أن مفهوم الحرية في الحضارات القديمة قد أسّس للكثير من العناصر المشتركة التي سار عليها الفلاسفة فيما بعد من خلال قراءاتهم لتلك الحضارات والمفاهيم التي طرحتها.. فنجد عند اليونان في العصر السابق على سقراط أنّ فكرة الحرية ارتبطت بفكرة المصير وبفكرة الضرورة وبفكرة الصدفة وقد انقسمت هذه الفترة إلى ثلاثة مراحل:

1- في المرحلة الأولى كان لفظ حر يطلق على الإنسان الذي يعيش بين شعبه وعلى أرض وطنه دون أن يخضع لسيطرة أحد عليه.

2- في المرحلة الثانية صارت الكلمة من لغة المدينة.. فالمدينة حرّة.. ومن يعيش فيها فهو حر.. حيث يوجد قانون يوفق بين القوّة وبين الحق.. والمقابل للحر حينئذ ليس العبد بل الغريب أو الأجنبي..

3- في المرحلة الثالثة وجد معنى لكلمة حر أي مختار ويقابله مضّطر وكانت تدلُّ على الحرية الفردية، لكن الحر لا يُقصد به من يتبع هواه أو قانونه الذاتي بل هو من يجعل قانون العالم الإلهي هو قانونه.. ثم جاء سقراط وعرّف الحرية بأنها «فعل الأفضل» وبهذه اتخذت الحرية معنى التصميم الأخلاقي وفقاً لمعايير الخير، واعتبر سقراط أن من شروط الحرية الأخلاقية ضبط النفس من ناحية والفحص المنهجي عن الأحسن أو الخير من ناحية أخرى ..

وعند أفلاطون يعرّفها بأنها وجود الخير والخير هو الفضيلة والخير محض ويراد لذاته ولا يحتاج الى شيء آخر والحر من يتوجه فعله نحو الخير.

الحرية .. على المستوى العملي

مع أرسطو يبدأ المعنى الأدق للحرية في الظهور إذ هو يربطها في الاختيار ويقول أن الاختيار ليس عن المعرفة وحدها بل وأيضاً عن الإرادة ولهذا نجده يعرّف الاختيار بأنه اجتماع العقل مع الإرادة معاً... على المستوى العملي الذي هو مستوى الحكم نرى أن أصناف الحكم التي مرّت في مراحل البشرية والتي كان منطلقها أساساً يعتمد على الموقف من الله قد انقسمت إلى ثلاثة أصناف:

1- الصنف الأول: هو صنف السلطة غير المعترف بالله وحده كمالك للبشر ومانح للسلطة.. وقد ساد هذا الصنف حيث كان الملك أو الإمبراطور يعتبر نفسه إلهاً أو ممثلاً للإله فكانت صلاحياته مطلقة من الناحية النظرية والعملية لا يجدها إلاّ وجود قوى واقعية بعض الأحيان..

2- وهو صنف الأنظمة المعترفة بالله كمالك للبشرية والمدعية استمداد السلطة منه .. وقد قام هذا الصنف في معظم بقاع الأرض بعد النظام الأول وربما جاوره بعض الأحيان فكان الملوك يعتبرون أنفسهم مبعوثين من العناية الإلهية وهم من ظل الله على الأرض.. فهم إذن يعترفون بربوبية الله بألسنتهم ويدّعون تنفيذ مشيئته ولكن دون أي سند لو علّنا نستطيع تبين ثلاثة أنماط من الأنظمة داخل هذا الصنف، نمط الرق ونمط الملكية العقائدية الكبرى ونمط الإقطاع..

3- هو صنف السلطة المتحدية لله والقائلة بأن مصدر السلطة هو البشر.. وهو الصنف الذي قام على أساس الإيمان بالإنسان وقدراته المبدعة في مختلف المجالات فأكد على المنافسة في المجالات الاقتصادية والعسكرية وعلى المشاركة المتكافئة في المجالات السياسية وقد تمثل بالنظام الرأسمالي الذي يسود العالم اليوم.. وإذا جئنا إلى الديانة المسيحية فأننا نستطيع أن نلاحظ أنهم رأوا أن الحرية ليست مجرّد الخلو من القسر كما أنها ليست مجرّد حرية الاختيار لان حرية الاختيار يمكن أن تستعمل للخير أو للشر.. يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل روما «حقاً أنا لا أفهم ما أفعله لأنني لا أفعل ما أريد بيد أني أفعل ما اكره فمنذ أن ارتكب الإنسان الخطيئة الأولى وفسدت بذلك طبيعته فإن الأمر الذي يثير الدهشة ليس أنه يستطيع أن يفعل الخير أو الشر بل يستطيع أن يفعل الخير»(19).

وقد اصطدم هؤلاء الكتاب بمشكلة التوفيق ين حرية الإرادة والعلم الإلهي.. وقد رأى القديس أوغسطين أن التوفيق ممكن بين القول بحرية الإرادة الإنسانية وبين القول بعلم الله السابق.. ذلك أن التجربة الشخصية تؤكد أن لدى الإنسان إرادة تدفعه نحو هذا وذاك.. وهذا لا يستبعد أن يفعل الإنسان بإرادته واختياره .. إن علم الله لا يحيل الأفعال من حرة إلى مجبور عليها.. وقد رأى كالفان أن فقدان حرية الإرادة وسيطرة مبدأ السعادة هما ناموسا كل إنسان لم يتلق لطف الله.. بينما قال مولينا بحرية الاستواء، ومفاده أن الحر هو من يقرر حين تُعطى كل الشروط الواجب توافرها للفعل.. أن يفعل وأن لا يفعل أو أن يفعل الشيء وينقضه..

في الإسلام..

حين انبثق فجر الإسلام كانت جميع التناقضات التي تسلب الإنسان حريته موجودة بين الناس.. كانت العبودية لغير الله، وكان استعباد الإنسان لأخيه الإنسان موجود داخل النسيج الاجتماعي والاقتصادي والديني للمجتمعات البشرية..

والإسلام باعتباره مكمّلاً وخاتماً للشرائع السماوية السابقة والتي جاءت من أجل تحرير الخلق من عبوديتهم التي صنعوها بأيديهم نتيجة ابتعادهم عن النهج المستقيم الذي رسمته تلك الشرائع وبشّر به أولئك الرسل والأنبياء على مرّ التاريخ..

حاول الإسلام أن يعيد تلك الحرية المهدورة من خلال التأكيد على قيمة التوحيد المطلق لله سبحانه وتعالى والتي تؤدي بالنتيجة إلى تحرير الإنسان على كافة الأصعدة..

وكانت آيات القرآن الأولى هي المفتاح والتميمة لهذه الثورة الإنسانية الشاملة (الذي خلق)(20) هي المدخل لصميم مفردة الحرية..

يقول عزّت بيغوفتش: «إن قضية الخلق في الحقيقة هي قضية الحرية الإنسانية، فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له وأن جميع أفعاله محدّدة سابقاً إما بقوى داخلية أو خارجية ففي هذه الحالة لا تكون الألوهية ضرورية لتفسير الكون وفهمه، ولكن إذا سلّمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله فإننا نعترف بوجود الله إما ضمناً أو صراحة، فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقاً حراً فالحرية لا يمكن أن توجد بفعل الخلق»(21)..

وانسجاماً مع حركة العقل والخلق تصير الحرية «هي القدرة على الاختيار بين الممكنات بما يحقق إنسانيتي» (22) على حدّ تعبير د. محمود عكام..

وحيث أن الخلق هو إيجاد للفطرة السليمة داخل النفس الإنسانية يصبح الحديث عن الحرية من خلال «ثمرتها الظاهرة وهي العفوية.. والعفوية هي التعبير الصادق عمّا يجول في داخلك فإن كانت صواباً توبع وعُمّق وإلا صُحّح بقواعد صادقة النسبة لعالم بالإنسان موثوق مطلع خبير وهو الله تعالى، ولا تكون العفوية إلا إذا كانت الحرية.. فالحرية هي المبدأ والعفوية هي السلوك أو التطبيق والمنهج الذي لا يسمح بعفويتك بمنهج ضد الحرية لذا قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنا وأتقياء أمتي براء من التكلّف»(23).

لقد منع الله عبادة أيّ مخلوق ووعده بأشدّ العقاب للعابد والمعبود ( إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) (24).. وقوله تعالى:( ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) (25).

«أما عظمة الله فاكبر من عظمة أكبر الملوك وإليه دون سواه يتوجّه الناس بالتبجيل المطلق ومن هنا يتأسس مبدأ يقول بالأفقية المطلقة لكل إنسان في أن يقاوم كل طغيان ويجابه كل سلطة وتلك هي القاعدة الإلهية لإقامة مساواة بين الناس تتجاوز كل تصنيف طبقي للناس»(26).

وهكذا تسقط بضربة واحدة كل الأنظمة القائمة على إشراك الحاكم بالألوهية سواءً أعتبر مساوياً لله أو إلها أدنى أو مجرّد شريك..

لقد اعتقد الناس أن الرسالة هي إلغاء ألوهية الأشخاص والأشياء أي إلغاء الشرك، ولكن الأحكام الإلهية قضت في الحقيقة بأكثر من ذلك.. لقد رفض الله أي أساس للسلطة ما لم يكن إلهياً ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله) (27).. وجاء في التوراة «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق بأسمه باطلاً»..

بعد استبعاد ألوهية أي مخلوق وسلطته يؤكد الله أنه هو مالك السلطة يمنحها من يشاء من عباده ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير أنك على كل شيء قدير) (28).. كما يؤكّد أنه هو مالك الأرض بمعنى الملكية وبمعنى التسلط ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) (29).

إن التوحيد بكل المضامين التي يحملها أو يوصي بها هو الأساس المتين للمسؤولية والحرية لدى الإنسان لأنها مع الفطرة ولا تتصادم معها.. وهو حين يختار الإسلام بإرادته مستوعباً المبدأ الأولي، مبدأ الوحدانية الذي يخلع على الحياة معناه.. وهو أيضاً يتحمّل مسؤولية اختياره كاملة لأنه يملك إمكانية الرفض التي هي أحد مصاديق الحرية العديدة..

أصالة الحرية

يقول الإمام الشيرازي:«الأصل في الإنسان الحرية في قبال الإنسان الأخذ بجميع أقسام الحرية إذ لا وجه لتسلّط إنسان على إنسان آخر وهو مثله كما أن الأصل في الإنسان العبودية لله سبحانه»(30).. انطلاقاً من قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عندما خطب في مكة خلال حجّة الوداع ألحّ إمام صحابته على فكرة المساواة بين الناس أمام الله دون تمييز في الأصل أو الغنى أو الذم حين قال :«أيها الناس إن ربكم واحد وان أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم»(31)..

وقد شاء العليم الخبير أن يعمّر الإنسان الأرض وكان فكره وإرادته الحرة ضروريين لتحقيق عمارة الأرض وحضارة الإنسان، كما شاء الله وأدّى اختلاف الأفكار والإرادات والأعمال إلى تكامل وتعاون أحياناً وإلى تناقض وتصارع أحياناً أخرى، وتلك هي سنّة الحياة.. فبمقدار اقترابنا من مفهوم التوحيد يكون هذا التكامل والتعاون.. وبمقدار ابتعادنا عن هذا المفهوم يكون التصارع والتضاد. يقول الإمام الشيرازي:«إن من تأمّل في كلمة (لا إله إلا الله) يجد في هذه الكلمة رمز الحرية وجوهرها»(32).. فالعلاقة بين التوحيد والحرية علاقة عضوية وبمقدار ما تترسّخ عقيدة التوحيد في ذات الإنسان يشعر بالحرية ويمارسها بفاعلية وسعة وحيوية ناشطة.. والحرية في هذا المفهوم هي تأسيس إسلامي بحت، وليست نظرية وضعية ابتدعها متكلّمي المسلمين أو منظروهم، لأنها في الصميم من مبدأ التوحيد والعبودية المطلق لله الواحد القهار.. وكما قال الإمام الشيرازي: «الحرية وهي كون الإنسان حراً حقيقة فلا فوضى ولا كبت صريح أو مغلق وهي لا توجد إلاّ في الأنظمة الإسلامية.. ففي الإسلام التحرّر العقيدي والتحرر الاقتصادي والتحرر السياسي والتحرر الثقافي والتحرر الاجتماعي»(33).

يقول الله تعالى في محكم تنزيله:( يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (34).. ويقول جلّ وعلا:( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (35).. ويقول سبحانه وتعالى :( لكم دينكم ولي دين) (36).

وتقول الحكمة الصينية:«من يكن مع الواحد يأته كل الناس لأن في ذلك السكينة والسعادة والسلام»(37).

لقد أتت شريعة الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل وإجراء العدل الذي هو صفة مطلقة لله سبحانه وتعالى في مختلف صوره التي تتناول الفرد والمجتمع والعالم.. وإذا كان الحق يعني العدل والاستقامة والانتظام وانتفاء الميل والاعوجاج والاضطراب بوجه عام وهو قائم في خلق الله جميعاً سُنّة أزلية لا يعتريها التبديل في جماده وأحياءه فأنه أولى ما يكون في شأن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وكرّمه وفضله على كثير ممن خلق الله تفضيلاً.. فعبادة الله وإنفاذ شريعته كان ينبغي أن يقترنا في الأذهان بإحقاق الحق وكرامة الإنسان.. وكما يقول البعض:«إن الله سبحانه أرسل رسله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر صبحه بأي طريق فثمّ شرع الله ودينه ورضاه وأمره ».. ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (38).

وأخيراً بين أن تكون عبداً وتنفتح على آفاق الحرية الواسعة، وأن تكون حراً وتطبق عليك قيود العبودية والمذلّة والذليلة، معادلة قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى أمام التنظيرات الوضعية لمفهوم الحرية، لكنها في المفهوم الإسلامي تصبح معادلة صحيحة المقدّمات والنتائج حين يقود الدافع نحو الغاية التي من اجلها خلق الإنسان ليكون حراً ..

(1) لسان العرب: ابن منظور، ص181.

(2) سورة البقرة : 178.

(3) البخاري: كتاب (الجهاد) باب الحراسة في الغزور ج6/ص60.

(4) مفردات الراغب: ص224.

(5) سورة النساء: 92.

(6) سورة آل عمران: 35.

(7) سورة النحل: 72.

(8) لسان العرب: ابن منظور، ص181.

(9) مفردات الراغب: ص224.

(10) أقرب الموارد: ص622.

(11) لسان العرب: ص181.

(12) موسوعة السياسة: عبد الوهاب الكيالي، ج2/ص242.

(13) موسوعة الفلسفة: عبد الرحمن البدوي، ج1/ص458.

(14) المصدر السابق: ص460.

(15) المصدر السابق: ص460.

(16) ماهية الحقيقة: هيدجر، ص17.

(17) موسوعة الفلسفة: عبد الرحمن البدوي، ج1/ص460.

(18) المؤلفات المختارة: سبينوزا ، المجلد1/ص521.

(19) أعمال الرسل: رسالة القديس بولس إلى أهل روما،إصحاح 15-22.

(20) سورة العلق:1.

(21) الموسوعة الإسلامية الميسرة: ص869.

(22) المصدر السابق: ص869.

(23) المصدر السابق: ص869.

(24) سورة النساء: 48.

(25) سورة النساء: 119.

(26) ما يعد به الإسلام: روجيه غارودي، ص51.

(27) سورة يوسف: 40.

(28) سورة آل عمران: 26.

(29) سورة الأعراف: 126.

(30) الفقه السياسة: ج2/ص213.

(31) تحف العقول: الحراني، ص30.

(32) الصياغة الجديدة: ص311.

(33) السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص341.

(34) سورة الأعراف: 157.

(35) سورة البقرة: 256.

(36) سورة الكافرون: 6.

(37) كتاب التاو: لاوتسه تشوانغ، ص91.

(38) سورة الحديد: 25.