بين الحداثة والتراث..  أين الطريق؟

حيدر الجراح


تحرّرت البلاد الإسلامية سياسياً أو هكذا يبدو على السطح الخارجي ولكن موجة فكرية تعادي مبادئها ومثلاً تحارب مثلها قد طغت على البلاد الإسلامية فعمتها؛ لقد جلا المستعمر عن الديار ولكنه أسلم البلاد بكيده العميق إلى تشتت في جماعتها وانقسام في مبادئها، وضعفت مناعة الشعوب الإسلامية أمام الهجمات الفكرية المناوئة لدينها..

لقد جهل المسلمون ماضيهم وغفلوا عن مبادئهم وكانت قلوبهم خواء من أصول الدين الإسلامي وحقيقته ودعوته وفتحوا أعينهم على المدنية الغربية بتلك القلوب الخاوية فبهرت هذه المدنية أبصارهم وأخذت بألبابهم فصاغتهم بصياغتها وطبعتهم بطابعها وحملتهم على التنكر إلى أصولهم ومبادئهم وحضارتهم وتراثهم.

إن التوفيق بين التدين ومتطلبات الفكر والحياة والمعاصرين يشكل إحدى المشكلات الأساسية التي تواجهها المجتمعات العربية والإسلامية في وقتنا الحاضر.

ومن هنا برزت مقولتان هما التراث والحداثة أو الأصالة والمعاصرة، وإذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مصطلح الحداثة له جذر متأصل في تراثنا اللغوي.

فابن منظور في لسان العرب نراه يقول:

حدث: الحديث: نقيض القديم..

والحدوث: نقيض القدمة.. فهو مُحدث وحديث..

وحدث الشيء يحدث: حدوثاً وحداثة.

ورجل حدث السن وحديثها: بيّن الحداثة والحدوثة(1).

وفي قاموس المنجد في اللغة:

الحداثة من الأمر: أوله وابتداؤه(2).

أما في المفهوم الحالي فإن الحداثة تعني: ديناميكية اجتماعية تستفيد من الموروث الإيجابي كله وتحاول توظيفه في حركة مستمرة لتطوير المجتمع بكل فئاته وطبقاته ومناطقه وقواه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإدارية والعسكرية وغيرها.

فمفهوم الحداثة أو التحديث الشمولي للمجتمع يحمل في طياته لذة التجديد الدائم انطلاقاً من العناصر الإيجابية والفاعلة في المجتمع نفسه، لذا لا يمكن للحداثة أن تكون تقليداً أو استعارة من الغير لكنها وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تكون انغلاقاً على الذات ورفضاً للآخر تحت ستار الحفاظ على نقاوة الهوية والأصالة..

يقول الإمام الشيرازي (دام ظله):«من الضروري على المسلمين أن يستفيدوا من القوى المختلفة حتى القوى الكافرة في سبيل بناء الإسلام كما كان رسول الله(ص) يستفيد منهم»(3).

فهو الأخذ والتفاعل من منطلق القوة لا الضعف، ومن منطلق الابتكار لا التقليد الأعمى الذي ذمه القرآن الكريم في قوله عز وجل:( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (4) وقوله عزّ من قائل :( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) (5)، وقول رسول الله(ص):«لا يكون أحدكم إمَّعة، قيل: وما الإمَّعة؟ قال: الذي يقول إنا مع الناس. والإمَّعة: الذي لا رأي له فهو يتابع كل أحد على رأيه، وقيل هو الذي يقول لكل أحد أنا معك..»(6).

وهنا يبرز تساؤل: هل من الأفضل التشبث بالتراث أم الانجراف مع الحضارة الغربية وثقافتها؟ أم أنه من الممكن إزالة التعارض والتناقض بطريقة أخرى لا تؤدي إلى تدمير حياة المسلمين الاجتماعية ومصادرة هويتهم الثقافية؟

يقول الإمام الشيرازي (دام ظله):

«إن الحضارة الغربية اشتملت على حسنة وهي الرقي الآلي وسيئة وهي الانحطاط الروحي وظن بعض الناس أنهما متلازمان وحيث أن الرقي يقتضي الأخذ بالإله فلابد من الانحراف إلى مهوى الانحطاط الروحي وهذا الزعم سبب الانسلاخ عن الإسلام ظناً أنه لا يمكن اجتماع الإسلام والحضارة..»(7).

وقد برزت إلى الوجود ثلاثة تيارات في معترك الصراع بين التراث والحداثة:

1) التيار المتشبث بالتراث: اعتقد هذا التيار بأنه بالإمكان العيش في إطار التقليد الضيق الموروث عن سلفهم بغلق الأبواب في وجه أمواج الحضارة الغربية وثقافتها المندفعة في كل اتجاه..

2) التيار المتغرب: خيّل إلى أصحابه أن الأزمة قابلة للحل من خلال قبول الحضارة الغربية بجميع أبعادها ومتطلباتها ومستلزماتها بما في ذلك ثقافة الحداثة التي تُختصر بتحقيق السعادة والتقدم والتحرر عبر التنكر لكل ماضيهم و قطع الصلة به، وفي هذا السياق اعتقدوا بأن التراث عقبة كأداء يجب تجاوزها لكنهم عجزوا عملياً عن أداء دور يذكر أمام الواقع الماثل في المجتمع ولم يتمكنوا في أي وقت من الحصول على موطئ قدم في مجتمع يعي التراث ويأنس به ويحافظ عليه..

3) التيار الإصلاحي: وهم القلة القليلة الذين يضعون الأمور موضعها ويعرفون ميزة المدنية الغربية وسبقها وتقدمها في مجالات العلم المادي وما عليه.. فهم يرون بأعين نافذة أن الحضارة الغربية إذا كان لها سبقها في العلوم المادية فليس الأمر كذلك في العلوم الإنسانية فلقد جهلت هذه الحضارة الإنسان والجانب الروحي فيه، ولم تستطع أن تقدم إليه ما يسعده سعادة حقيقية وما ينقذه من المهالك والمخاوف ولم تقدم إليه ما يزيده إلاّ ضياعاً وحيرة وتأخراً في ميزان الإنسانية، وهكذا فالمدنية الغربية لا تؤخذ بكل ما فيها فهي ليست على حق في كل ما تدعو إليه..

يقول الإمام الشيرازي (دام ظله):

«للإسلام منهج خاص في الحياة وللغرب منهج خاص آخر وهذان المنهجان يتصادمان في جملة من المرافق فاللازم على الهيئات والمنظمات الإسلامية أن تهتم للتلاؤم بينهما»(8).

لقد اتسم منهج التيار الإصلاحي بالدعوة إلى المفاعلة والمزاوجة بين رؤى الإسلام العامة وواقع الحياة المعاصرة حتى لا يبقى الإنسان غريباً عن نفسه وفطرته التي ترفعها مفاهيم الإسلام القيمة كما لا يعيش المسلم غربة حقيقية عن عصره فينغمس كلياً في ثقافات العصر المختلفة.. إن منهج هذا التيار يدعو إلى الاستفادة من منجزات العصر المتنوعة التي تنسجم وحركة الإسلام في الحياة على اعتبار أن الإسلام مشروع حضاري مستقل يقبل بكل صحيح ويرفض كل انحراف..

يقول الإمام الشيرازي (دام ظله):

«إن اللازم على الحركات الإسلامية أن ترتفع إلى مستوى العالم إن أراد البقاء فإن حال التيارات حال الماء كلما وجد موضعاً منخفضاً ملأه فإذا كانت الحركة دون مستوى العالم ملأت التيارات العالمية الأرفع مستوى مكان تلك الحركات..»(9).

لقد انطلق هذا التيار الإصلاحي في عمله من مبدأين:

الأول: هو العودة إلى الذات وإحياء الهوية الثقافية التاريخية والإسلامية لأمتهم وشعبهم.

الثاني: فيقول بالتعامل الإيجابي مع معطيات التمدن البشري وفي الوقت ذاته اتخاذ الحيطة والحذر في مقابل نزعة الغرب التوسعية وتوجهه الاستعماري وانحرافه الفكري والاجتماعي..

لقد لخص الإمام الشيرازي بنظرته الثاقبة هذين المبدأين بالقول:«اختلف عالم اليوم عن عالم الأمس بتحكم التكنولوجيا في جميع شؤون الحياة فاللازم على الأفراد والحكومة الإسلامية الاهتمام بهذه الجهة اهتماماً بالغاً وإلاّ تأخرت الدولة والتأخر من مؤشرات الاستعمار والاضمحلال.. إن المسافة أخذت تزداد عمقاً واتساعاً بين الحكومات العصرية وبين الحكومات الإسلامية المتأخرة ولو لم نتدارك هذه الناحية ينتهي الأمر إلى ما لا يرجى معه التدارك وفي ذلك مزيد ضعف للإسلام والمسلمين»(10).

ولا يجب أن ننسى واقع المرأة المسلمة في هذا الصراع الناشب بين التراث والحداثة سلباً وإيجاباً.. فقضية المرأة أخذت حيزاً كبيراً من خلال أطروحات التيارات الثلاثة التي مر ذكرها.. فهي تارة حبيسة الجدران والقيود والتي تلغي إنسانيتها.. وهي تارة أخرى منفلتة في قراراتها وتصرفاتها والتي تلغي أدميتها وتمسخ كيانها لتصبح سلعة تجارية كباقي السلع.. وقد عالج الإمام الشيرازي هذه القضية من منظور إنساني وإسلامي يرتفع بالمرأة إلى المكانة اللائقة بها، فهو يقول:

«وقع في البلاد الإسلامية تناقض هائل فترى الكثير من الناس صنفين صنف تحفظ على النساء إلى حد الخنق والشلل وصنف خرج بالنساء إلى ما لا يلائمهن دنيا وديناً تقليداً للغرب وحيث أن الخنف خلاف طبيعة الإنسان فمن الضروري إشراك النساء في العلم والعمل وفقاً للمنهج الإسلامي الوسط الذي لا إفراد فيه ولا تفريط.. فالمرأة يجب أن تتعلم ولكن بدون استهتار ويجب أن تعمل ولكن بدون تورط ويجب أن تشارك الرجـــال في كل الـــميادين باستـــثناء ما حظره الإسلام تحظيراً لأجل كرامتها وحفظ المجتمع من الانزلاق»(11).

ويبقى الصراع بين القديم والجديد صراعاً متصلاً لا ينتهي إلاّ بانتهاء الحياة لأن ذلك سبيل التطور والارتقاء نحو عالم أفضل تسود فيه قيم العدل والمحبة والسلام بطريقة منطقية ومدروسة.. إذا عرفنا كيف نتعامل معه.

(1) لسان العرب: ج2 ص131 ب حدث.

(2) المنجد: ص121 ب حدث.

(3) نحو يقظة إسلامية: الإمام الشيرازي ص35.

(4) الزخرف: 22.

(5) البقرة: 170.

(6) نهاية البداية والنهاية: الجزري ج1 ص67.

(7) إلى حكم الإسلام: ص13.

(8) نحو يقظة إسلامية: ص145.

(9) المصدر السابق: ص166.

(10) المصدر السابق: ص19.

(11) المصدر السابق: ص22.