مجلـــة النبــــأ       العددين (23 ـ 24 )       السنــــة الرابعــــة       ربيع الثاني ـ جماد الأول  1419 هـ

بين الفكر والعمل

أكبر الحركات العلمية والحضارية لم تنهض وتبني صرحها إلاّ بعد أن كانت مدعومة بحركة فكرية قوية غذّتها بالأفكار والرؤى لتشكيل كيانها وبناء أسسها، لذلك فإن النهضة لا بدّ أن ترتكز على مخزون فكري كبير يعطيها إشارة البدء للانطلاق ويؤهلها لدخول التاريخ والحياة برفعة ومجد.

والفكر الذي يمتاز بالتجدد والإبداع يوفّر الطاقة الحيوية التي تحتاجها أي نهضة للاستمرار في التصاعد والتكامل، وإلاّ فإن عدم وجود المخزون الفكري أو نفاد الطاقة الفكرية يعني الإنتهاء إلى الفشل.

والفكر الذي قامت عليه النهضات ينتمي إلى مجموعة مختلفة من الاتجاهات، فهناك اتجاه مدرسة التأمّل الفكري النظري الذي يعتمد على استدرار الأفكار من خلال التأمل الفلسفي المجرّد والذي لا يرتبط بالواقع من قريب وفي بعض الأحيان يتطرّف ليتحوّل إلى حالة صوفية منفصلة كلياً عن الواقع. وهناك اتجاه مدرسة الفكر الواقعي الذي يعتمد كثيراً على انتزاع أفكاره من خلال ما يستمدّه من خبرات وممارسات عملية تهدف بالدرجة الأولى إلى ما هو نافع ومفيد. وهناك اتجاه لا يرى العمل المباشر والمكثّف وسيلة لتحركه وهو يعتقد أن الفكر يعوق العمل لأنه يجعله أسيراً للمناقشات والآراء المتعدّدة..

والذي يبدو أنه لا يمكن لأي حركة نهضوية تبحث عن التصاعد والنجاح أن تنتقي أحد الاتجاهات وتترك الباقي لأنّ ذلك يعني وجود نقص كبير في بنيتها الأساسية ينعكس بشكل واضح في التحوّلات المستقبلية التي تهب عليها. وقد رأينا أن النهضة الأميركية الحديثة قامت على الاتجاه البرغماتي الواقعي الذي ينظر للفكرة من خلال ما تقدمه من معطيات مباشرة وملموسة ونفعية، لذلك فإنهم سبقوا الآخرين كثيراً وتقدّموا سريعاً في بعض الميادين، ولكنهم وقفوا في مستوى الفعل النفعي من الناحية الفكرية مما قد يفقدهم القدرة والطاقة على الاستمرار، وهو يعني النزول وبداية العد العكسي للانحطاط.

أما الأوروبيون فإنهم اعتمدوا كثيراً على الاتجاه الثاني والضياع في دوامة الأفكار الفلسفية المجرّدة مما قاد الكثير منهم تدريجياً إلى الصوفية الوجودية، وهذا الأمر جعلهم متأخرين عن الأميركيين وأبعد عن الواقعية العملية وإن كانوا أكثر قدرة منهم في مجال التفكير عمقاً وتأملاً.

ونرى اليابانيين هم أصحاب الاتجاه الثالث المنهج العملي المجرد حيث العمل الجاد الذي لا ينقطع والتشكيل المنظم الذي يستثمر الجهود الأنانية بشكل كبير ويصبّها في الاتجاه العملي المكثف، ولكنها في الواقع ليست إلا مجرّد آلية عملية تفتقد للحس الإنساني العميق والرهيف الذي يمتاز به العقل الإنساني المبدع، فهم ليسوا أكثر من آلة تجتر إبداعات الآخرين وأفكارهم وتعيد صياغتها بشكل آخر، لذلك يرى البعض أنهم ليسوا أكثر من نهضة عملية مؤقتة لا تملك مقوّمات الاستمرار والحضارة.

ومن هنا كان لا بدّ من التوازن والاعتدال في المسيرة في الفكر والعمل.. لنضمن نجاحاً أكبر وضمانات أقوى في الصمود والاستقامة.