مجلــة النبــأ       العــددان (21 ـ 22 )      السنــة الرابعــة1419 هـ

نهج الأمم الحية

العلامة السيد هادي المدرسي

الأمة الحية، الأمة المنيعة، الأمة التي تستطيع أن تصنع حضارة وأن تبني مدنية وأن تعيش عزيزة، هي الأمة التي تكون قادرة على دفع الآفات، دفع السموم، دفع ما يضر، دفع العادات والتقاليد التي تهدم، بالإضافة إلى قدرتها على أن تكتسب العادات والتقاليد التي تنفع وتبني، إن أمة لا تمتلك القدرة على دفع كل ما يضرّ هي أمة مصابة بالإيدز الاجتماعي والإيدز السياسي والإيدز العقائدي. كما وصفت السيدة فاطمة الزهراء (س) العرب قبل بعثة الإسلام: «تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم»، الجسم الذي ليس له مناعة، يمكن لأي فيروس أن يقضي عليه، الأمة التي لا تملك مناعة فإن كل ما حولها يستطيع أن يخطف هذه الأمة وتكون مجرّد أمة مستعبدة وأمة مستهلكة للأمم الأخرى، لأن هذه الأمة ليست لها مناعة؛ المناعة في الأمة من أين يمكن ان تُكتسب؟ وما هي المناعة في الأمة.

من غير الممكن أتعيش أنت على وجه الأرض ولا تسمع بأفكار الآخرين هدّامة كانت أو غير هدّامة، إذ لا يمكن أن تعيش في الأرض من دون أن تتأثّر بالآخرين، من دون أن تسمع وليس المطلوب من أي أمة حية أن تكون منغلقة على نفسها، بحيث لا تسمع من أحد ولا تسمع أحداً أبداً. الأمة الحية هي أمة تتفاعل مع غيرها، تسمع وتستمع، وتعمل، وتتأثّر، وتؤثر مع فارق واحد أنها تتأثّر بالخير ولا تتأثّر بالشر، تتأثّر بالصلاح ولا تتأثر بالفساد؛ القرآن الكريم يقول ( الذين يستمعونَ القولَ فيتّبعونَ أحسنَهُ) ، لا يوجد مانع أن تتعرّف الأمة على الثقافات الأخرى وتقرأ تاريخ الأمم الأخرى، تعرف عقائد الآخرين، إذ ليس في ذلك مشكلة، بل المشكلة إذا لم تكن فيها مناعة: أي أصيب جهاز مناعتها بالعطب، كما في جسم الإنسان الفرد إذا أصيب هذا الجهاز بالعطب فإن أي ميكروب ضار، قد يكون بالنسبة إليه خطر، كذلك بالنسبة إلى الأمة التي لا تملك جهاز المناعة. أنتم تعرفون أن من الأمراض المستعصية التي إذا قيل لأحد أنك مصاب بها لانهار معنوياً، هو السرطان، ما هو مرض السرطان؟ إن بعض خلايا جسم الإنسان تتمرّد على النظام العام للجسم فتبدأ بالنمو لكن خارج هذا النظام. وما من جسم إنسان إلا وهو مصاب بمرض السرطان، لكن الجسم القوي الصحيح السالم المنيع يطرد الخلايا السرطانية ولا يسمح لها بأن تنمو على حساب الجسم وأن تكبر، لكن الجسم الضعيف، الجسم غير القادر المستسلم لهذه الخلايا السرطانية تنمو في داخله ولا ينفعه شيء ولا يمكن معالجته ربما يتمكّن الطب من القضاء على هذه الخلايا لكن ضعف الجسم وانهياره وفقدان المناعة فيه سيفتح له أبواباً جديدة للمرض وتنمو فيه خلايا أخرى تتمرّد على النظام العام للبدن. والأمة الحية المنيعة ليست هي الأمة التي لا تدخل فيها خلايا سرطانية، لكنها أمة قادرة على دفع تلك الخلايا السرطانية المتمثلة بالثقافة الباطلة، والعادات والتقاليد الضارة، لا أنه لا تدخلها بل تستمع إليها وتعرفها ولكنها لا تتأثر بها، بل تؤثر فيها وتغيرها، هكذا أمة عندها مناعة.

مناعة الأمة

إذن المناعة من أين تأتي.. في داخل الأمة؟ تأتي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل الأمة شبه نظام جهاز المناعة في داخل جسم الإنسان الفرد. ميكروبات تدخل، فيروسات تدخل، آفات تدخل، سموم تدخل، لكن هذا الجسم المنيع يدفعها، في نظام وهو نظام المناعة يمنع نمو الميكروب، الميكروب يدخل للجسم وبدل من أن يقتل خلايا الجسم يُقتل هو ويموت ويقضى عليه. والأمة التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكنها وبسهولة أن تقضي على الثقافة الغريبة الطارئة وتطرد أفكار الضلالة والانحراف.

كم من أمة لم تكن تملك جهاز المناعة هذا، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انحرفت عن الصراط وهي لا تعرف أنها انحرفت عن الصراط ( وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً) ، في المسيحية بعث الله عزّ وجل نبياً هو عيسى بن مريم عليهما السلام نفخ فيها من روحه جاء ودعا إلى التوحيد والى عبادة الله، لكن جهاز المناعة في أمة عيسى (عليه السلام) كان مصاباً بالعطل لم يكن عندهم أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خرج بولس وادّعى أن المسيح كان يقول أنا الله ولم يكن المسيح(عليه السلام) قد قال ذلك ولم يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله، فبعد مائة سنة جاء الرجل وادعى هذا الادّعاء، ادّعى التثليث ادّعى الشرك بدل التوحيد، وأمة عيسى لا تمتلك جهاز المناعة فسرعان ما رأينا كيف أن المسيحية كلّها والى اليوم تعتبر المسيح إلهاً. انحرفت عن الجادة ولاتزال. أمة موسى (عليه السلام) وكلّنا نعرف النبي موسى (عليه السلام) كما عرّفه القرآن الكريم كما عرّفه الله عز وجل؛ نبي عظيم من أنبياء الله العظام معصوم عن الزلل والخطأ لكن الفيلم الذي صنعوه عن موسى وهو الوصايا العشر؛ هذا الفيلم ترى أن موسى بن عمران هذا النبي العظيم الذي اختاره الله دون غيره من البشر وفضّل أمته على باقي الأمم في ذلك الوقت، هذا النبي يعرّف كأضعف من إنسان عادي أو يعرّف شعيب وهو يستعرض بناته أمام موسى في حفلة الرقص حتى يختار واحدة منهن، وهذا الفيلم أكثر فيلم صُرف عليه إلى حين انتاجه ولا يزال اليهود الذين صنعوا هذا الفيلم يعرضونه بين فترة وأخرى على شاشات التلفاز، هل هذا موسى؟ طبعاً لا. لكن الذي ليس عنده جهاز المناعة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأتي السامري ويصنع لهم عجلاً جسداً له خوار ويتبعونه، وموسى بن عمران ذاهب لمناجاة الله عزّ وجل، يعبدون العجل بعد كل تلك المعاجز والأدلّة التي رأوها من موسى(عليه السلام) بعد كلّ ذلك اتّبعوا العجل، لماذا؟ لأن جهاز المناعة كان مفقوداً عندهم، ولم يكن عندهم أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بل كان عندهم هارون وحده وهو حينما نهاهم عن المنكر وأمرهم بالمعروف كادوا أن يقتلوه.

والأمة الإسلامية عندها جهاز مناعة، وجهاز مناعتها ليس جزءاً من الدولة، وليس جزءاً من الحكومة، وإنما هو جزء من واجبات كل فرد مؤمن. وكما أنك مكلّف بالصلاة، وبالصوم، كذلك أنت مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أنت مكلف أن تؤدي ما عليك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو تركته فكأنك تركت الصلاة، لا فرق بين من يترك فرض الصلاة والصوم وبين من يزني ويشرب الخمر وبين من يترك فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه جزء من نظام المؤمن وجزء من فروع الدين الأساسية، وترك واحدة منهما هو كترك الصلاة والصوم وكترك أي واحد من فروع الدين. إذن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعل الأمة أمة حية ويعطيها من الثبات والاستقامة أمام الانحراف ما يجعلها أمة قوية. قال لي أحد المسيحيين: مشكلتنا نحن في المسيحية، لا يوجد عندنا واحد مثل الحسين (عليه السلام) لكن سؤالي ما هو دافع الحسين؟ قلت له: دافعه بيّنه، قال: أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر. فإنّ من أسرار عظمة ثورة الإمام الحسين أنها عبارة عن تجلّي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أسرار عظمة أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً ذلك.

التباس الباطل بالحق

بعض الأوقات الصراع ما بين الحق والباطل صريح وبعض الأوقات يكون الباطل يلبس لباس الحق، وإذا بشيخ المؤلّبين على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو أبو سفيان حامل راية الكفر وراية هبل والذي نادى في معركة أحد: اعلوا هبل.. اعلوا هبل يومٌ بيوم بدر، انقلب وقال للعباس عمّ النبي: إن ملك إبن اخيك أصبح عظيماً لا نقدر عليه، إنه لم يؤمن بالله وما دخل الإيمان بالله قلبه ولم يكن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله نبوّة بل ملكاً وملوكية فكان يرفع راية لا إله إلا الله لكن يعمل لمصلحة هبل. يصلّي لكن الصلاة ضدّ الصلاة، يصوم لكن الصوم ضدّ الصوم يحجّ لكن الحج ضدّ الحج وعلى طول التاريخ كان هذا الأمر ممكناً. قد اعدّوا لكلّ حق باطلاً ولكل مستقيم مائلاً يأتي لك بالباطل ويلبسه جبة الإسلام، وباسم لا إله إلا الله وباسم التوحيد وباسم النبوّة يقاوم أهل بيت النبوة، يذبحهم وبعد ذلك يقول: قتل الحسين بسيف جدّه.. الحسين الذي يُقتل في سبيل التوحيد يتّهم بالشرك، وعمر بن سعد في كربلاء يضع السهم في القوس ويقول يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري ويصلّي بأصحابه صلاة الجماعة، والخليفة يقود الحجيج عاماً والجهاد عاماً آخر ويصعد على المنبر يقول والله ما نصحني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه، لا تقولوا لي اتقِّ الله.

وإذا كان الباطل يلبس مسوح الحق، فإن الناس ينخدعون، وابو سفيان الذي رأى لا يمكن باسم راية هبل أن يقاوم راية التوحيد رفع راية التوحيد. وقال لبني أمية حينما كفّ بصره، قال: يا بني أمية تلاقفوها تلاقف الصبيان للكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار. ويأتي حفيده ليعبر عما أراد أن يقول من قبله:

 لعبت هاشم بالملك فلا              خبر جاء ولا وحي نزل

وبذلك تصبح حالة النفاق حالة عامة وأمراض الأمة مستشرية وهي تقابلها بجسم لا يتمتع بالمناعة.

فإن لم يكن الإمام الحسين في ذلك اليوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعمل بهذين الواجبين المهمين كنّا أنا وانت نتبع يزيد ونعتبره مقدّساً، وصارت المحرمات بالإسلام واجبات وبالعكس.

هذه الليالي وبمناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة باسم السيد المسيح الفسق والفجور والزنا وارتكاب المحرمات في هذه الليالي مباحة على طول البلاد الغربية وعرضها؛ باسم المسيح احتفال بالمسيح ولكن بالزنا، احتفال بولادته ولكن بشرب الخمر والفسق والفجور، طبعاً هذا عجيب عندنا وعندهم شيء عادي.. السيد المسيح صار شيئاً عادياً، صار جزءاً من الدين والديانة، يمكن للكفر أن يأتي ويلبس ملابس الإيمان، يأتي الفساد ويلبس ملابس الصلاح، لكن إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الناس لا ينخدعون. ينظرون إلى واحد يدّعي أنه خليفة رسول الله وهو يزيد وإلى واحد يخرج مع ثلاثة وسبعين من أصحابه يقاوم ويستشهد لكن ضمائر الناس وعقول الناس تقول إن هذا على حق وذاك على باطل.

وصحيح يوجد أناس يتبعون يزيد لكنه باطل، وما استطاع الباطل هنا أن يقولب نفسه في أذهان الناس بقالب الحق لوجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول إبن مسعود كنا جلوساً ذات يوم بباب رسول الله صلى الله عليه وآله ننتظر خروجه إذ خرج فقمنا له تعظيماً وفينا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ النبي بيده فقال يا علي إني أحاجّك، يقول فقال علي (عليه السلام) وقد دمعت عيناه: يا رسول الله فيمَ تحاجّني وقد تعلم إني لم أعاتبك في شيء؟ فقال النبي: أحاجك بالنبوّة وتحاجّ الناس من بعدي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقسمة بالسوية وإقامة الحدود. إنما صار الإمام علي في مقامه العالي لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.

أبو ذر من أين صار أبو ذر؟ ومن أين عظمة أبي ذر؟ ومن أين تأثير أبي ذر إلى الآن في جنوب لبنان؟ يفتخر أتباع مذهب أهل البيت هناك ويقاومون الإحتلال لأنهم من شيعة أثر فيها أبو ذر قبل ألف واربعمائة سنة.. من أين؟ لأنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): جاءني جبرائيل فقال: يا أحمد: «الإسلام عشرة أسهم وقد خاب من لا سهم له فيها؛ أولها: شهادة أن لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد، الكلمة الصادقة. والثانية: الصلاة وهي الطهر من الذنوب، والثالثة: الزكاة وهي الفطرة، والرابعة: الصوم وهي الجنّة، والخامسة: الحج وهي الشريعة، والسادسة: الجهاد وهو العزّ، والسابعة: الأمر بالمعروف وهو الوفاء، والثامنة: النهي عن المنكر وهو الحجّة، - أي الحجة على السفيه، الحجة على من يرتكب الذنب -، والتاسعة: الـــجماعة وهي الألفة، والعاشرة: الطاعة وهي العصمة». ثم قال النبي: «قال حبيبي جبرائيل إن مثل الدين كمثل شجرة ثابتة الإيمان أصلها والجذور الإيمان بالله، والصلاة عروقها والزكاة ماؤها، والصوم سعفها، وحسن الخلق ورقها والكفّ عن المحارم ثمرها فلا تكمل شجرة إلا بالثمرة كذلك الإيمان لا يكمل إلا بالكفّ عن المحارم».

لنذهب إلى التاريخ ونرى حينما قام ذلك الخليفة وقال ماذا لو ملت بكم؟ فقال له من قام وجرّد سيفه قال: اذاً قومناك بهذا، والخليفة الثاني يقوم ويريد أن يحدّد مهور النساء فتقوم له امرأة وتقول ليس لك حق، قال: ولماذا ليس لي حق؟ قالت: لأن الله يقول: ( وإنْ آتيتم إحداهنّ قنطاراً) ليس لك حق أن تحدّد مهور النساء، فإنه ولو صار الآن الجانب الإداري بيدهم لكن الجانب الديني يبقى عند أهل البيت عليهم السلام، الحق يبقى في مكانه وهذا هو الذي أبقى الأمة على خير ( كنتم خير أمة أُخرِجَتْ للنّاس) هل لأنكم تصلّون أصبحتم؟ صحيح أنتم تصلّون لكن ليس هو علّة إنكم خير أمة أخرجت للناس، ولا لأنكم تصومون؟ فليست هذه العلّة، وإنما العلّة هي: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) .

في التاريخ يُذكر أن أحد الخلفاء كان قد سمح لضباط شرطته ولجنوده وللأشراف الذين كانوا حوله بأن يقوموا بما يريدون من الاعتداء على حقوق الناس وأعراضهم وفي يوم من الأيام خرجت فتاة من حمام عمومي وإذا بضابط من ضباط الشرطة ومعه مجموعة من حرسه ومن جلاوزته رآها أخذها على الفرس غصباً وكلّما صرخت ما التفت إليها حتى ذهب بها، وأحد من الحاضرين كان مؤذناً والمسجد كان قريباً من قصر الخليفة. وفي الثلث الأول من الليل ذهب إلى المئذنة وبدأ يؤذّن والخليفة كان نائماً فاستيقظ غاضباً يقول: هل البلد ما فيه قانون للآذان لا يتقيّد هذا المؤذن بأوقات الصلاة؟ ثم قال: عليّ به. جاء الشرطة عليه جرّوه وجلبوه عند الخليفة وهو مستشيط غضباً عليه فقال: ويلك ما هذا الآذان؟ قال له: خير إن شاء الله لماذا؟ قال له: ماذا تفكر ألا يوجد قانون في هذا البلد؟ أنا هنا خليفة أنا هنا الحاكم كيف تخالف قانون البلد وتخالف عادات الناس وتقاليدهم؟ قال له المؤذن: يا هذا هذا الكلام ليس له قيمة لأن حضرتك ليس لك قيمة. قال له: لماذا؟ قال: حضرتك تركت قانون الله فضبّاطك يغتصبون النساء في الشارع ولا من رادع ولا من مانع وأنت هنا جالس وتقول لماذا أنت أذّنت نصف الليل وقلت الله أكبر!. قال له الخليفة: كيف؟ فحكى له القصة كاملة. الخليفة قال: ائتوا به، إذا كان قد اعتدى على البنت نقتله، وإذا لم يعتدِ عليها نعزله عن وظيفته ونعاقبه ونعاتبه، لأنه رأى أنه تصبح فوضى في البلد ثم قال لهذا المؤذن: في أي وقت أنت رأيت حادثة مثل هذه الحوادث اذهب على المئذنة وكبّر. قال له: حسناً. والرجل صار يخيف أهل الجنايات والمتمرّدين، حتى أن أحد الناس كان يطلب أحد الوزراء مبلغاً من المال وهذا الوزير كان قد أنكر على الرجل ماله. جاء الرجل عند المؤذن وقال أنا أطلب هذا الوزير مبلغاً من المال وقد أنكره عليّ فهل عندك طريقة استحصل بها مالي؟ قال المؤذن: سهل هذا، أرسل المؤذن رجلاً من وراء الوزير فجاء الوزير عنده، قال له: أعطه نقوده. قال: حاضر. تعجّب الرجل من هذه القدرة على إخضاع الوزير، فسأله من أين لك هذه القدرة بحيث أن الوزير يخاف منك ويسمع كلامك؟ قال: كلهم يعرفون أنهم إذا خالفوا أصعد على المئذنة وأقول الله أكبر.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله من نصرهما أعزّه الله ومن خذلهما خذله الله. وكل أعمال البر أي نوع من أنواع البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل كفّ من الماء بالنسبة إلى بحر. الإمام علي (عليه السلام) يقول في نهج البلاغة: «وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجيّ، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا يبعّدان من رزق»، ثم الإمام علي يعطيك كلمة الفصل «وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر» إمام جائر طاغوت حاكم أفضل برّ تعمله أن تذهب إليه وأن تقول ما قاله موسى بن عمران حينما قال لفرعون: ( قال له أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذّبهم وتلك منّة تمنّها عليّ إن عبّدت بني إسرائيل) ، فرعون الذي يسجد له أهل مصر ويخافون منه هكذا يتكلّم موسى معه، هل قُتل موسى على يد فرعون؟ لا، الإمام علي في طول حياته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هل قُتل في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لا، قُتل بالمحراب «فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا يبعّدان من رزق» هذه كلمة الفصل، لا تخف من أن فلاناً مثلاً يقطع رزقك أو أن فلاناً يسجنك أو أن فلاناً يقتلك، لا، لأنّ الرزق من الله وما يقرب أجلاً لأن الأجل من الله عزّ وجل أيضاً، انظروا إلى الأئمة عليهم السلام كيف كانوا يعملون في هذا المجال الإمام علي نفسه يوم من الأيام كان يمشي رأى واحداً رفع يده وصفع صاحبه صفعة فاستنجد المضروب بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له الإمام: ولماذا ضربته؟ المضروب خاف على صاحبه لعلاقة الصداقة بينهم لمّا صار في قبضة الإمام علي قال: يا أمير المؤمنين عفوت عنه. في بعض الروايات أن علياً (عليه السلام) صفعه عشر صفعات. الضارب قال: يا أمير المؤمنين ألم يعفُ عني؟ قال: بلى، عفا عن حق الرعية وهذا حق الراعي لأن في مملكتي لا يجوز أن يصفع أحداً آخر بدون سبب، هذه الصفعات العشر إلى الآن يرنّ صوتها في التاريخ ويشير إلى عدالة الإمام (عليه السلام) وزرع حالة المناعة ضد المنكر في جسم الأمة.

إذا كان في المجتمع كل إنسان ولو بمقدار عشرة بالمائة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فأوضاع الأمة تكون بخير، ولولا موسى لكان نظام الفرعنة ماشياً إلى يومنا هذا. أصلاً بداية انهيار أمة من الأمم حينما تفقد صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أي واحد جاء أي واحد دخل أي شيء عمل الآخرون سكتوا أو قبلوا من عنده، هذا سكت ذاك سكت الكل سكتوا ومن ثم يتفرعن على الناس من يتفرعن ويجعلهم حصيداً لسيفه. يقول الإمام علي سلام الله عليه: «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» وربما لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يوجد فرعون أول يوم ولد فيه هو فرعون ونهجه نهج فراعنة.. لا، إنه إنسان عادي طبيعي لكن عندما يتفرعن هذا يسكت عليه والثاني يطيعه والثالث يتبعه والرابع يسمع كلامه والخامس يصير موظفاً عنده وإذا به يصبح قوّة جبارة وحينئذ لا تستطيع أن تقلعه وأحياناً يصبح قلع الجبال أسهل من قلعه من مكانه. وإذا ننظر الى بدايات أمره نرى أن أمر تقويمه أو عزله كانت سهلة لكن هذا سكت والثاني سكت والثالث سكت والرابع سكت إلى أن حدث ما حدث وأصبح يسوق الناس بالنار والحديد. ولو أن الناس في بدايات الأمر وقفوا قبل ما فرعون يصير فرعوناً لما تولّى عليهم شرارهم «ثم صاروا يدعون فلا يستجاب لهم». قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إذا تواكلت أمتي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتأذن بوقاع من الله تعالى». أي على هذه الأمة أن تنتظر ثمة وقيعة وكارثة من الله لأنها تواكلت ربما تجدها اهتمت بالصلاة والصيام ونحوهما لكن فيما يرتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ماذا قالت الأمة؟ قالت: ما لنا والدخول بين السلاطين. هذه الكلمة إحدى الأمراض التي قتلت الحسين، ما لنا والدخول بين السلاطين وقتلت مسلم بن عقيل، وهكذا يقولون نحن ما هو دخلنا بالموضوع، كيف ما لك دخل؟ لك دخل بحكم شرائع دينك، أليس عندنا في الإسلام أن الذي يرضى بفعل قوم مجرّد رضى قلب يُعدّ كالداخل معهم وفي بعض موارده مورداً للّعن والعذاب.

وفي زيارة عاشوراء عندنا «اللهم العن أمة اسرجت والجمت وتنقّبت… اللهم العن الأمة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت وتابعت على قتله» هذا لعن ثم تأسيس لعن جديد لمن؟ الأمة التي سمعت بذلك فرضيت به. عندنا لعنان؛ لعن الذي شاركوا ولعن الذين قبلوا. لأن القبول بداية الخضوع، بداية السكوت، بداية التقبّل فإنك إذا لا تقدر على أن تنهَ عن المنكر بيدك أو بلسانك فبقلبك على الأقل إنْهَ عن المنكر وأمر بالمعروف فان لنهي القلب أثر كبير على سلوك الإنسان وروحه وسأنقل لك هذه القصة ختاماً للحديث.

في يوم من الأيام سألني أحد الأخوة وقال ما هي فائدة النهي عن المنكر بالقلب؟ قلت له: أنت بالبيت جالس وحدك تطالع التلفزيون لو سمعت كلمة باطل من التلفزيون وحيث أنك لا تقدر على أن تنهى عنه بالطرق الأخرى وفي داخل قلبك رُدّ عليه وإلا بمرور الزمن المنكر يفقد قبحه ويصير عندك مقبولاً لكثرة ما سمعته من هذه الكلمات، كلمات الباطل وكذلك لو رأيت شيئاً باطلاً انهَ عن المنكر في قلبك وإلا بمرور الزمن ربما ستراه عادياً ويصبح المنكر عندك معروفاً وتفقد جهاز مناعتك الروحية والفكرية وتزلّ أقدامك عن الطريق القويم فتخسر دينك ودنياك.

المحاضرة التي ألقاها سماحة السيد هادي المدرسي في الحوزة العلمية الزينبية في شهر رمضان المبارك 1418هـ.

إتصلوا بنا

أعداد سابقة

العددين 21-22

الصفحة الرئيسية