مجلــة النبــأ       العــددان (21 ـ 22 )      السنــة الرابعــة1419 هـ

   

العنــــف وحــــــركــــــة الـتـغييـــــــر

 

مرتضى معاش

 

[email protected]

إن التساؤل الذي يستدعي الإثارة هو مدى فاعلية العنف ونجاحه في إحداث التغيير الجذري الشامل الذي يعقبه استقرار وهدوء سياسي واجتماعي واقتصادي. هذا الأمر هو الذي يطرح التمايز بين حركتي العنف والإصلاح حيث (إن أهم الفروق بين الحركات الثورية والحركات الإصلاحية في وسيلة التغيير تتمثل في: إن الإصلاح والتطور يأتي بالوسائل السلمية أما الثورة فإنها تتم عادة باستخدام العنف الشعبي، وفي سرعة التغيير حين يتم ببطء في حركات الإصلاح بينما يتمّ في حالات الثورة بسرعة فجائية)(1).

إن دراسة منهج العنف وتتبّع دلالاته اللغوية والعرفية والعقلية واستقصاء آثاره السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية يمكن أن يعطينا بعض العينات والنتائج التي قد ترشدنا إلى معرفة تأثير العنف في حركة التغيير.

يقول صاحب لسان العرب: «العنف الخُرق بالأمر وقلّة الرفق به وهو ضدّ الرفق، وهو عنيف إذا لم يكن رفيقاً في أمره، وفي الحديث أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشرّ مثله، والخُرق بالضم: الجهل والحمق، والعنيف الذي لا يحسن الركوب وليس له رفق بركوب الخيل».

وقد قال رسول الله (ص): «الرفق يُمْن والخُرق شؤم» (2)، وقال أمير المؤمنين لولده الحسين (عليهما السلام): «يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق» (3).

الدوافع لنشوء العنف

إنّ معرفة أسباب العنف والدوافع التي تحرّك الفرد أو الجماعة لاستخدامه يمكن أن ترفدنا بالمؤشرات اللازمة لفهم مدى قدرة أسلوب العنف في إيجاد التغيير الفعال.

تختلف الدوافع نحو العنف حيث يعزو علماء النفس وجود العنف إلى مجموعة من الأسباب منها أن العنف طبيعة عدوانية متجذّرة في الإنسان حيث أن (القوة عامل طبيعي مرتبط ارتباطاً وجودياً جوهرياً بكلِّ كائن حي بمعنى أن تأكيد الحياة في الحيز الطبيعي لا يمكن أن يحصل بدون القوّة وظاهرة تأكيد الحياة هذه نجدها في مختلف أشكال التنازع والانتقاء البيولوجيين(4). ولكن الإنسان كائنٌ عاقلٌ مختار يختلف عن باقي الكائنات بكونه متحكّماً بغرائزه لذلك استطاع الإنسان (أن يكبح جماح العنف وذلك بإخراجه من دائرة الطبيعة إلى دائرة العقل فلو بقي الإنسان في دائرة الطبيعة لا يرى سوى حقيقته المطلقة التي ترسمها له مصالحه الفردية وقوّته وحاجاته لأصبحت حياته عنفاً مستمرّاً والحياة الاجتماعية لا تطاق، غير أن العقل البشري يدخل عنصر الحوار في علاقة الفرد مع الآخرين فينشأ بذلك مبدأ المفاوضة والعقد الاجتماعي ومجموعة القواعد والنظم والمؤسسات التي من شأنها تنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتراجع حياله العنف الطبيعي إلى حدّه الأدنى(5). فالعنف يمثل استثناءً في حياة الإنسان الكائن الاجتماعي عندما لا تستجيب المؤسسة الاجتماعية لمصالحه التي يراها حقوقاً مشروعة لنفسه، يقول ايريك فروم: «إن العنف والتدمير يمثلان الناتج التلقائي والحتمي للشعور بالإحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن خذلان الآمال والتطلّعات لسببٍ أو آخر»(6). والإحباط يشكل سبباً رئيسياً في نشوء العنف عند علماء النفس باعتبار أن (الإحباط حالة مؤلمة تنزع الذات إلى أبعادها وإلى الخلاص من الضغط الذي ينجم عنها ويكون العدوان أحياناً السلوك الدفاعي للذات في سعيها وراء الخلاص من ضغط الإحباط)(7). والإحباط حالةٌ من اليأس القاتل الذي يستولي على الإنسان فتسلبه قدرة التفكير المنطقي السليم وتدفعه إلى اتخاذ مواقف غير طبيعية لا يمكن التكهّن بنتائجها لذلك لا يشكل العنف سلوكاً عقلانياً نابعاً من وجود استقرار نفسي يوفّر الأجواء الطبيعية المناسبة، فالعنف سلوك غريزي هدفه تفريغ الطاقة العدوانية الكامنة داخل الإنسان وان الإحباط سبب العدوان وكلما زاد الإحباط زادت حدّة العدوان)(8).

ويرى البعض أن الـــعنف ينشأ من اخـــــتلال النظام السياسي الذي ينظم العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين مختلف قطاعات المجتمع وخصوصاً العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فعندما تختلّ التوازنات التي تحافظ على استمرارية النظام يلجأ البعض إلى العنف للحفاظ على مصالحه أو استعادة حقوقه التي يراها قد سلبت منه. ويمكن تلخيص هذا الأمر بعبارة وجيزة وهي: افتقاد أجواء الحرية والقدرة على التعبير والحركة، وسيطرة الاستبداد والشمولية، وتمركز القوّة وقمع التعدّد الفكري أو السياسي، ولهذا فإن (غياب القنوات الوسيطة أو عدم فاعليتها التي تقوم بتوصيل المطالب وتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم وعدم اعتراف الأنظمة الحاكمة بمبدأ المعارضة السياسية وتعقب العناصر والقوى المعارضة بكل الأساليب دفعت بعض القوى الاجتماعية والسياسية إلى الانخراط في أعمال العنف، فعندما لا توجد قنوات للتعبير الشرعي ينفتح الباب أمام العنف)(9).

ففي (عالم لا تجد فيه الجماعات مكاناً لقيمها وحرياتها وحقوقها المشروعة لا يسعها إلا أن تجد في قضيتها الحقيقة المطلقة ولا تعود تؤمن إلا بها فتنقاد إلى استعمال الإرهاب كحلٍّ أخير تلوح فيه بوارق الأمل)(10).

فغياب القدرة على التعبير السلمي الحر يجر الجماعات والأفراد إلى الوقوع في حلقة متسلسلة من أعمال العنف قد لا تنتهي بسهولة وتزيد من الوضع القائم سوءً. ويحاول البعض أن يرمي معظم اللوم في نشوء العنف إلى الأنظمة السياسية المستبدة التي تمارس الحكم بالعنف والقمع والإرهاب، ذلك أن (إرهاب الدولة نظراً لشراسته وتأثيره الواضح والعميق يشكل السبب الرئيسي لنشوء العنف عند الأفراد وبالتالي لنشوء إرهاب الضعفاء، إذ طالما هناك حكومات قادرة على التفرّغ لممارسة الإرهاب فإن الإرهاب المضاد يبقى الرّد الوحيد والممكن من قبل ضحاياها)(11).

ولكن ردّ الضعفاء هو في الغالب ردّ فعل غير مدروس منبثق من حالة اليأس والشعور بالعجز وافتقاد القدرة على ممارسة أي تكتيك آخر يمكن أن يواجه تلك الأنظمة الشمولية، والحال أن العنف غير قادر على شلّ تلك الآلة القمعية إن لم يزد في ضراوتها، ففي (النظام التوتاليتاري يبدو إرهاب الضعفاء عاجزاً عن النمو والتأثير الفعّال وبذلك بمقدار ما تستطيع قوى القمع أن تقضي على كلّ مقاومة أو معارضة)(12).

ويضع البعض مؤشراً قياسياً على إحصاء الدلائل التي تشير إلى أسباب نشوء العنف حيث ترتفع في النظم الاستبدادية و(ينخفض في النظم الديمقراطية نظراً لوجود مؤسسات سياسية وسيطة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتضبط الصراع الاجتماعي)(13).

والسبب الآخر الذي يدعو نحو العنف هو التطرّف والإيمان المطلق بما يحمله من معتقدات والتعصّب الأعمى لها، فالتطرّف (اتجاه عقلي يجعل الفرد يؤمن بأنّ أفكاره واعتقاداته هي الصحيحة ومن ثم يتشدّد في الحكم على الآخرين إما بإتباعها أو الحكم عليها بالكفر)(14). ومشكلة التطرّف لا تقف إلى هذا الحد بل تتصاعد إلى مستوى استخدام العنف لإجبار الآخرين على الخضوع المطلق لذلك فإن (التطرّف في رأي يلحقه تعصب لهذا الرأي وعندها يتحوّل التطرف والتعصب إلى سلوك غالباً ما يستخدم العنف كوسيلة لتحقيق أهدافه)(15).

وعندما يصبح التطرّف الثقافة الغالبة في المجتمع وتفتقد حالة الوسطية المبنية على التفكير الموضوعي والاعتدال النفسي والعقلاني يصبح المجتمع على حافة السقوط في هاوية العنف والإرهاب، وما أكثر المجتمعات التي انخرطت في أعمال عنف دامية ومدمرة جرّت إلى حروب أهلية وربما عالمية نتيجةً للتطرّف الفكري والحزبي والطائفي والقومي. فالتطرّف يسعى إلى إلغاء الآخرين ومركزية الاتجاه الواحد والحزب الواحد وسيطرته المطلقة، وهذا ما يثير ويجر إلى المواجهة بالمثل حيث أن (الاتجاه نحو المركزية قد يزيد من حدّة الصراعات بين الجماعات المختلفة إذ تصبح السلطة محوراً للصراع)(16).

والتناقض الملموس الذي نشهده في ظاهرة التطرّف هو ذلك التحوّل المضاد الذي يطرأ على الفرد المتطرّف ففي يوم كان ينتمي إلى أقصى اليسار وإذا به يتغيّر بسرعة فجائية نحو أقصى اليمين ونفس هذا التغير المفاجئ هو نوع من التحوّل العنيف الذي يصاحب الشخص المتطرّف كسلوك متماثل يمكن أن يتحقق في مصاديق متنوعة.

ومن الناحية الاجتماعية فإن التغييرات الجذرية التي تجتاح المجتمعات بسرعة كبيرة تخلّف وراءها فجوة وتخلّفاً ثقافياً عميقاً تتمثل في عدم استيعاب التغيرات المتلاحقة والتأقلم معها، ولا شكّ فإنّ عدم استطاعة المجتمعات البشرية إدراك التحوّلات والانسحاق تحت وطأة المتجدّدات تدفع نحو العنف كمؤشر على رفض الواقع الجديد.

ومن هنا فإن ظاهرة العنف في المجتمعات الحديثة كما يحلّلها آرنولد توينبي ترجع (إلى انعدام الذاتية وانسحاق الفرد في آلية الحياة الميكانيكية وأن تنظيماً اجتماعياً ذا طبيعة لا شخصية يناقض جوهر الطبيعة الإنسانية)(17). لذلك تكثر الحركات الراديكالية ذات الطابع العنيف في المجتمعات التي لم تستوعب التغييرات الحضارية الكبيرة التي تواجهها.

ويمكن أن نستخلص من مجموعة هذه الدوافع نحو العنف نتيجة أساسية وهي أن العنف حالة استثنائية تنشأ من ظروف غير طبيعية لا يستطيع الفرد والجماعة فيها مواجهة الأمر بالأسلوب الأفضل إما بسبب الانفجار على القمع السلطوي أحياناً أو العجز أو اليأس أو الإحباط أو عدم القدرة على استيعاب التغيرات والتكيف معها في أحايين أخرى.

مشروعية العنف

إن أهم الإشكاليات التي ترد على أسلوب العنف في عملية التغيير هو شرعية استخدام العنف، إذ أن هناك من شكّك في استخدام العنف واعتبره غير قانوني، فالعنف عنده هو (الاستعمال غير القانوني لوسائل القسر المادي والبدني ابتغاء تحقيق غاية شخصية أو جماعية)(18)، وهو أيضاً (الاستخدام غير المشروع للقوى المادّية بأساليب متعددة لإلحاق الأذى بالآخرين والإضرار بالممتلكات وتتضمّن معاني الاغتصاب والعقاب والتدخّل في حريات الآخرين)(19).

ويفهم من هذا الكلام هو شرعية العنف عندما تستخدمه السلطة وعدم شرعيته عندما تستخدمه المعارضة. ولا شكّ فإن التمييز بين عنف السلطة وعنف الجانب الآخر ينطوي على مغالطة واضحة فالعنف هو واحد سواء كان يرتكز على مبررات قانونية فرضتها السلطة الحاكمة بالقوة، أو يرتكز على مبررات عقائدية أو آيديولوجية، لأن (الإرهاب أصبح وسيلة مرتبطة بالعنف الأيديولوجي المنظَّم والموجّه ضدّ العدو الأيديولوجي باعتباره مجرماً أخلاقياً وتاريخياً وأيديولوجياً، وبالتالي فليس هناك مجال لاعتبار نوعين من الإرهاب متمايزين جوهرياً واحد قبل تولّي السلطة والثاني بعده، إنه في كلتا الحالتين إرهاب واحد مهما اختلفت الأساليب والأجهزة التي تنفذه)(20).

ومهما حاول دعاة العنف أن يضفوا على حركتهم الشرعية والقانونية يبقى أسلوب العنف جوهرياً عملاً لا يستند على أسس مقبولة من كل الجهات شرعياً وأخلاقياً وفطرياً، ذلك أن (الإرهاب يستمدّ قوته ويكتسب فعاليته من كونه غير مقنّن أي أنه لا يقيد بقواعد ثابتة متفق عليها ومعترف بها ومن هنا فانه مخيف ومرعب، إن القواعد والقوانين التي يتقيّد بها الإرهاب هي كل ما يخدم القضية التي يناضل من أجلها)(21).

إن استناد البعض في استخدام العنف بمواجهة عنف الأقوياء لا يمكن أن يضفي الشرعية على أسلوب العنف لأن العنف المضاد قد يكون أقوى وأكثر دماراً وبذلك يفقد كلّ تبريراته الدعائية التي يعتمد عليها.

وعلى صعيد مصادر الشرع الإسلامي فإنّ المنهج الكلي الذي تصوغه هذه المصادر هو الإشكال في عملية استخدام العنف. ففي القرآن الكريم هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تثبت أرجحية السلام والسلم وترك العنف مثل: ( وعباد الرحمن.. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (سورة الفرقان: 63-72) ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (سورة فصلت:34) ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (سورة البقرة: 208) ( وإنْ جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله) (سورة الأنفال: 61) ( فبما رحمة من اللهِ لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم) (سورة آل عمران: 159) ( وإن تعفوا أقرب للتقوى) (سورة البقرة: 237)، بالإضافة إلى كثير من الآيات التي وردت في هذا الباب، لذلك فان (الإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل؛ والحرب هي الاضطرار، وإن الجهاد والحرب حكمٌ ثانوي اضطراري وإن السلم هو الحكم الأوّلي)(22).

وقد حاول البعض الاستدلال بآيات من القرآن الكريم لإثبات شرعية العنف كآيات الجهاد والقتال وردّ العدوان، والحال إن الجهاد في سبيل الله لا يعني العنف بالإضافة إلى أن تطبيق حكم الجهاد والقتال في سبيل الله يخضع إلى شروط وقيود كثيرة ذكرتها أبواب الفقه الموسّعة. أولها اتباع السلم ( فان اعتزلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) (سورة النساء: 90) وكثير من آيات القتال وردت في موارد خاصة في حروب الرسول (ص) مع المشركين بعد أن أذِنَ الله تعالى له بالقتال ( أُُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) (سورة الأنبياء: 38) لذلك لا يمكن الأخذ بها كدليل على جواز العنف لأنها من الموارد التي يتم فيها التعرّض لدماء الناس وأموالهم وأعراضهم. وعلى فرض التسليم بدلالتها فان الإشكال يبقى في كون هذا المصداق هو من المصاديق التي ينطبق عليه مفهوم الآية القرآنية كما ذكر التاريخ ذلك في قضية الخوارج الذين رفعوا شعار لا حكم إلا لله تمسّكاً بظواهر بعض الآيات من دون التوغُّل إلى مضامينها وأعماقها لذلك نرى أن (الإسلام يجعل للحرب قيوداً وشروطاً مع أنه أوجب الجهاد الابتدائي أحياناً والدفاعي أحياناً أخرى، وإنما جعل هذه الشروط والقيود الكثيرة حتى لا تكون الحرب إلا بقدر الضرورة الشديدة، ثم إذا انتهت الحرب يعفو الإسلام ويغفر ويطلق سراح المجرمين مهما وجد إلى ذلك سبيلا)(23).

أضف إلى ذلك أن العنف يعد من الأمور الخطيرة التي تتعرض فيها الأنفس والأموال والأعراض لخطر الانتهاك والاستباحة، ففي الآية القرآنية التي هي في مقام تشريع القصاص والرد بالمثل أمر تعالى بالتقوى والاحتياط: ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) (سورة البقرة: 194) لأنّ استعمال العنف أمر خطير حتى في الموارد التي يمتلك فيها الفرد حق ردّ العنف إذ أنه قد يؤدي إلى الطغيان والتجاوز الذي لا يمكن لجمه، وقد قال تعالى: ( مَنْ قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (سورة المائدة: 32).

أصالة اللاعنف

إن اللاعنف والسلم هو الأصل الذي يجب أن يُعمل به والعنف هو استثناء يحتاج فعله إلى إقامة الدليل، ومن هنا فقد ذمّ الإسلام الحرب لأنها (في ذاتها قبيحة لما فيها من قتل النفوس والتخريب والتدمير وقد قال سبحانه مؤيداً لذلك: ( كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ، فإن الظاهر من هذه الآية أن القتال لو كان طبيعياً لما قال سبحانه (كره لكم). فالحرب ظاهرة اجتماعية تمليها الغرائز الفاسدة في العديد من الأحيان وليست أمراً طبيعياً. ولذا نجد رسول الله (ص) لم يقدم على حرب واحدة وإنما كان يحارب دفاعاً عن النفس وكان (ص) لا يلجئ إلى الحرب الدفاعية أيضاً إلاّ بعد فقدان الخيارات التي كانت عبارة عن الأمور التالية: الحياد.. العهد أو معاهدة عدم الاعتداء.. الإسلام فإذا أسلم الطرف حقن ماله ودمه.. الجزية)(24).

وسيرة الرسول (ص) هي أفضل مبين لدلالة الآيات القرآنية، فقد كانت حركة الرسول الأعظم (ص) التغييرية مبنية على أساس السلم واللاعنف، فقد عفا رسول الله (ص) عن قاتل عمه وحشي وعفا عن قادة المشركين في فتح مكة بالإضافة إلى كثير من المواقف العظيمة التي عبّرت عن المكنون السامي والسلمي الذي يحمله في رسالته الكونية. يقول الدكتور محمد حميد الله في كتابه (محمد): «إن محمد (ص) مع أنه استولى على أكثر من مليون ميل مربع مما يعادل كل أوروبا باستثناء روسيا ومع أنه كان يسكن هذه المنطقة ملايين من البشر لم يُقتل في كلّ حروبه من المسلمين إلا مائة وخمسون مسلماً، ويضيف: إن هذا العدد يعادل قتيلاً واحداً في كل شهر تقريباً»(25).

إن سيرة الرسول (ص) وأقواله الشريفة يمكن أن ترفدنا بالكثير من الرؤى التي توضّح لنا الطريق في مسألة شرعية العنف وعدم شرعيته، فعن النبي (ص) في حديث المناهي قال: «ومن لطم خدّ امرئ مسلم أو وجهه بدّد الله عظامه يوم القيامة وحُشر مغلولاً حتى يدخل جهنم إلا أن يتوب»(26). وعن علي (ع) أن رسول الله (ص) قال فيما عهد إليه: «وإياك والتسرّع إلى سفك الدماء لغير حلّها فإنه ليس أعظم من ذلك تبعة»، وقال (ص) أيضاً: «مَنْ قتل رجلاً من أهل الذمّة حرّم الله عليه الجنة التي توجد ريحها مسيرة اثني عشر عاماً». وفي حديث قال علي (ع) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجّة وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم»(27).

ومن أقواله (ص) في مدح السلم والرفق وذمّ العنف: «إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نُزع من شيء إلا شانه.. الرفق رأس الحكمة.. إن الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له.. إن السلام اسم من أسماء الله فافشوه بينكم»(28)، ويقول (ص): «يا علي صفات المؤمن: عظيماً حلمه، جميل المنازعة، أوسع الناس صدراً، أذلهم نفساً.. لا يؤذي من يؤذيه.. وأصلد من الصلد.. ليّن الجانب طويل الصمت، حليماً إذا جهل عليه صبوراً على من أساء عليه… حليماً رفيقاً ذا قوة في لين وعزمه في يقين.. إذا قدر عفا.. لسانه لا يغرق في بغضه.. يعطف على أخيه بزلته..»(29).

ومن أقوال أمير المؤمنين (ع) في مدح اللاعنف وذم العنف: «رأس الجهل الخرق، ليكن شيمتك الرفق فمن كثر خرقه قلّ عقله، يا همّام المؤمن هو سهل الخليقة ليّن العريكة.. نفسه أصلب من الصلد.. لا جشع ولا هلع ولا عنف ولا صلف.. وصول في غير عنف..»(30).

ويقول المرجع الديني الإمام الشيرازي في كلامه المفصّل حول السلام في الإسلام ومنهاج الحركة الإسلامية في عملية التغيير: «الواجب أن يكون شعار الحركة السلام قولاً وفعلاً وفي كل موقع ومع كل الناس»(31).

العنف يضرّ بالاستراتيجية

وتبرز هنا إشكالية أخرى حول العنف وهو الجماعة التي تتّخذ من العنف وسيلة في عملية التغيير لا تمثّل إلا مجموعة أفرادها أو قسماً من طبقات المجتمع، وبما أن العنف قد يؤدي إلى دمار الممتلكات وقتل الأنفس إضافة إلى العنف المضاد الذي يمكن أن تردّ به السلطات على عنف الجماعات، فان الإضرار بطبقات وفئات من الأمة قد يشكّك بشرعية العنف وبالتالي شرعية الجماعة التي تستخدمه، فالجماعة التي تعتبر نفسها ضمير الأمة وممثلة الشعب تفقد شرعيتها عندما تضرّ بمصالحه وحقوقـه، فعن الرسول (ص): «لا يحلّ دم امرئ ولا ماله إلا بطيبة نفسه»(32)، وعلى فرض أن الجماعة تستخدم العنف باعتباره حقاً مشروعاً لها في الدفاع عن مصالحها فإن العنف قد يحقّق لها مصالحها على الأمد القصير ولكنه قد يضر بمصالحها ومصالح الآخرين إضراراً كبيراً على المدى البعيد، وفي هذا الصّدد يقول الإمام الشيرازي: «لا يجوز التعسّف في استعمال الحق إذا كان التعسّف يصل إلى الضرر الكثير في حق نفسه ومطلق الضرر في حق الغير»(33).

وقد حاول البعض أن يشكك في آلية العنف عندما شكّك في أخلاقية هذا الأسلوب خاصة وأن بعض دعاة العنف يحملون رسالة تغييرية تحمل في طياتها مبادئ أخلاقية ومثلاً إنسانية ترفع لواء الخير والأخلاق، وهذا هو الذي جعل البعض يعتقد بوجود تناقض واضح بين آلية العنف وأهداف الجماعات التي تعمل بهذه الآلية وتدعو لها، مما يشكّك فـــي مصداقيتها وبـــالتالي في شرعـــية هذه الآلية.

فالجماعة أو الحركة التي تهدف التغيير تفقد شرعيتها عندما تستخدم نفس الأسلوب الذي تستخدمه السلطة في طغيانها مهما كان التبرير الأخلاقي الذي تدعيه، ذلك (أن التبرير الأخلاقي للإرهاب بالاستناد إلى الغاية أو الهدف مهما كان هذا الأخير نبيلاً شرعياً يعني أن نجعل من الأخلاق مجرد مجاملة لنزاعاتنا أو قبولاً لآيديولوجية معينة، أي عذراً للتغييرات اللانهائية والمتناقضة في نشاط مجموعة بشرية أو طبقة أو حزب أو دولة)(34).

إن التشكيك بشرعية العنف دينياً وعرفياً وأخلاقياً يرجع إلى محور أساسي وهو أن العنف لا يتحدّد بحدود ولا يقف إلى مستوى معين بل قد يتجاوز كل الخطوط الحمراء الشرعية والأخلاقية والقانونية التي رسمها القائمون به خاصةً إذا بدأ التصعيد المتفجّر مع سلطات قائمة على القمع. وعندما يتجاوز العنف تلك الحدود ويقع في دوّامات من الدم المتبادل والمتصاعد تفقد الجماعة مبرراتها الشرعية والأخلاقية والشعبية التي يناضل من اجلها.

ومن كلّ هذا نستنتج الحقيقة الأساسية التي أفرزها تاريخ العنف وهي أن العنف في جوهره متصاعد بقوّة وسرعة ودموية بحيث يتجاوز الأعراف الدينية والقانونية والأخلاقية أحياناً ويصعب السيطرة عليه مما يبطل هدفية العمل ومشروعيّة الحركة.

(1) الثائرون: رفعت سيد أحمد ص31.

(2) الصياغة الجديدة: الإمام الشيرازي ص595.

(3) المصدر السابق: ص596.

(4) الموسوعة الفلسفية: معهد الإنماء العربي، ص626.

(5) المصدر السابق.

(6) مجلة العلوم الاجتماعية: العدد الرابع/ السنة الرابعة ص106.

(7) الصحة النفسية: الرفاعي ص18.

(8) ظاهرة العنف السياسي: حسني توفيق، ص46.

(9) المصدر السابق، ص166.

(10) الإرهاب السياس: أدونيس العكرة، ص151.

(11) المصدر السابق، ص131.

(12) المصدر السابق، ص135.

(13) ظاهرة العنف السياسي: ص287.

(14) ظاهرة التطرف: محمد بيومي، ص147.

(15) المصدر السابق، ص167.

(16) ظاهرة العنف السياسي: ص225.

(17) مجلة عالم الفكر: المجلد الخامس/ العدد الثالث، ص149.

(18) المصدر السابق، ص147.

(19) ظاهرة العنف السياسي: ص41.

(20) الإرهاب السياسي: ص60.

(21) المصدر السابق، ص77.

(22) الصياغة الجديدة: الإمام الشيرازي، ص364.

(23) المصدر السابق، ص367.

(24) المصدر السابق، ص349.

(25) المصدر السابق، ص353.

(26) المصدر السابق، ص394.

(27) المصدر السابق، ص365.

(28) المصدر السابق، ص595.

(29) بحار الانوار: المجلد 67، ص310.

(30) المصدر السابق، ص365.

(31) السبيل إلى إنهاض المسلمين: الإمام الشيرازي، ص153.

(32) الصياغة الجديدة: الإمام الشيرازي، ص389.

(33) الفقه القانون: الإمام الشيرازي، ص221.

(34) الإرهاب السياسي: ص164.

إتصلوا بنا

أعداد سابقة

العددين 21-22

الصفحة الرئيسية