مقومات القرن الواحد والعشرين وآليات البديل الحقيقي

هل سندخل القرن الواحد والعشرين؟

متى؟ وكيف؟

صادق محمد علي

الغرب دخله في العقد الماضي، لأنه يسبق بخططه وبرامجه ووسائله عادة - الزمن، أما الشرق فانقسم على نفسه، فبين من لازال لم يدخل بعد القرن العشرين - الذي شارف على الانتهاء- وبين من لم يقرر بعد التفكير بدخول القرن الجديد، لأنه لم يستوعب بعد خصوصيات القرن الحالي، وبين من قد يقرر دخول القرن الواحد والعشرين ولكن في وقت متأخر عن الآخرين، لأن الشرق عادة متأخر عن الزمن الذي يعيشه بعقود.

وفي كل الحالات، يجب أن ندخل القرن الجديد، كوننا تيار نهضوي يسعى بأفكاره التجديدية وأساليبه العصرية انتشال الأمة من واقع متخلف إلى مستقبل أفضل.

والسؤال:  متى وكيف سندخل القرن الواحد والعشرين؟

في البدء يجب أن نتذكر أن كل قرن جديد ليس صالة انتظار بإمكاننا أن ندخلها لحظة نشاء، كما أنه ليس بيت جديد أو سيارة فارهة بمواصفات جديدة، يمكننا أن نسكنه أو نمتطيها بمجرد أن نحصل على المال اللازم لشرائه أو شرائها، كلا فكل قرن جديد ليس كذلك، بل إنه عصر بمواصفات جديدة، وفهم جديد، وأساليب جديدة، لا يمكننا دخوله إلاّ إذا أخذنا بالأسباب اللازمة، المادية منها والمعنوية، فالوسائل هي تأشيرة الدخول الحقيقية التي يلزم أن يحصل عليها من أراد دخول القرن الجديد، والتي من أبرز بنودها ما يلي:

أولاً:  اعتماد نظرية المؤسسات في مشاريع العمل، والسعي لتقليص الهيمنة الفردية لحساب هيمنة الجماعة، وإلغاء العقل الآحادي لحساب العقل الجمعي من خلال:

1- توزيع فرص العمل والإمكانات على المجموع مع الأخذ بنظر الاعتبار قيم الكفاءة والقدرة والحماس والانسجام ونحوها، وإن العنصر الذي يمتلك قدرة أكبر على أدار الدور وعلى استيعابه للفرص المتاحة سيحظى بمجالات أكبر وأفضل.

2 - تشجيع المبادرة والإبداع الخلاّق وصناعة الفرص الجديدة، وإلغاء سياسة وأد الفكرة لمجرد أنها جديدة، وتضعيف المبادرة كونها أتت من غيري، وتشويه صور الإبداع وقتل الفرص لمجرد عجزي عن استثمارها والاستفادة منها.

3 - اعتماد معايير جديدة في التصدي للمسؤوليات والمواقع الإدارية والقيادية، والسعي بجدية وحرص لإلغاء معيار (الولاء للشخص)  ليحل محله المعيار القرآني الرائع الذي يحدد(الكفاءة)  و (الأمانة)  كصفتين لازمتين للتصدي كما ورد في قول الله عز وجل:]إن خير من استأجرت القوي الأمين[.

كما يلزم إلغاء معايير المحاباة والعلاقات الشخصية، لتحل محلها معايير الحق والاجتهاد والحماسة والنشاط والحرية في الحوار والنقاش والنقد والتشخيص ليبقى الهدف تحقيق الغاية وتطبيق الأفكار والبرامج حسب سلم الأولويات، وليكن شعارنا في تحقيق كل ذلك قول الإمام أمير المؤمنين(ع)  في عهده لمالك الأشتر عندما ولاه مصر:«ثمّ ليكن أثرهم عندك، الوزراء والبطانة والمستشارون والخاصة، أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع؛ وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهُم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة»، وقوله(ع):«ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء»، لأن التصدي في عرف الإمام(ع)  مسؤولية شرعية أولاً وإنسانية وأخلاقية ثانياً وإن إفساح المجال لغير أهلها للتصدي ينتهي إلى الفشل آجلاً أو عاجلاً وتفريط بالجهود وربما يعد استخفافاً بالعمل ولا مبالاة بالمسؤولية والموقع.

4 - الإنصاف في مراقبة المتصدين (قادة ومدراء، أو موظفين وعاملين)  وعدم التساوي بين المحسن والمسيء، الناجح والفاشل، القادر والعاجز، المتقدم والمتأخر، ليتسنى لنا مكافأة الناجح وترشيد الفاشل، وتشجيع المقتدر وتحفيز العاجز، لنخلق حالة إيجابية وصحيحة من سياسة التنافس الحر والتي تعتبر في حقيقتها وعمق فلسفتها من أسرار التقدم والنجاح والتطور، أما التساوي بين المتناقضين فربما يؤخر العمل ويلغي المبادرة في نفوس العاملين، ويحرمهم من فرص التطور، كما قد يحرم العمل من فرص النجاح، كما قد ينفي في نفوس العاملين الإحساس بالكفاءة والتمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ وإلى ذلك يشير الإمام أمير المؤمنين(ع)  بقوله في عهده إلى مالك الأشتر:«ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كلاً منهم ما ألزم نفسه».

5 - مشاركة المعنيين في صناعة القرار وصياغة الاستراتيجية ورسم البرامج، فإن الشورى من لزوميات عملية (مأسسة)  العمل والمشاريع، وإن العقل الجمعي في التخطيط يكرس المؤسسات ويحجم الفردية، ومعلوم أن طريقة صناعة القرار يعد من أبرز الفروق الجوهرية بين العمل الجمعي والعمل الفردي فإذا كان الأول يعتمد الشورى والمشاركة بالطريقة المناسبة والواقعية ويوزع الأدوار بشكل متناسب فيه فإن الثاني يعتمد الفردية والانحصار في رأي واحد واتجاه واحد وفي هذا من الأضرار والخسائر ما يغني عن البيان.

يتصور البعض أن الشورى ليست من الضروريات وأن نتائجها غير ملزمة وإنما هي أسلوب لتطييب الخواطر ليس إلاّ، ويستشهد البعض بالآية الكريمة:]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين[، نقول مع التسليم جدلاً لما يذكر، حتى لو كانت الشورى لتطييب الخواطر، أوليس ذلك يدعو إلى الالتزام برأي أكثرية المستشارين لتطييب خواطرهم، حتى يظلوا في إطار العمل ولا يتركوه، ويصمموا على تنفيذ الخطة التي شاركوا في صياغتها من دون رميها جانباً، أو تجاوزها بخواطر منكسرة وقلوب مليئة ونفوس محتقنة؟

إن الشورى ومبدأ المشاركة، آلية عمل ومنهجية قرار، يلزم الأخذ بهما بشكل عملي من خلال البحث الجدي والحقيقي في آليات فعلية تحولها إلى ممارسة عملية ويومية ليساهم الجميع في (مأسسة)  العمل، وإلاّ فسنظل نمارس العمل الفردي من دون أن ننجح في بناء العمل على ركائز متينة تنسجم مع الفكر والطموح.

ثانياً:  لقد أطلق البعض على القرن القادم مصطلح (عصر المعلومة)،  وهذا يعني أن العالم (دول، مؤسسات، شركات، جمعيات، وغير ذلك)  سيتنافس فيما بينه بالمعلومة، فبمقدار ما تمتلك دولة من الدول أو مؤسسة من المؤسسات معلومات أكثر وبسرعة أكبر سواء بالحصول عليها أو في تحليلها والاستفادة منها وإدخالها ضمن حساباتها وخططها ومشاريعها كلما ستتمكن وتنجح في منافسة الدول أو المؤسسات الأخرى بشكل أفضل، والعكس هو الصحيح كذلك، فإذا عجزت شركة من الشركات في الحصول على معلومة ما، أو فشلت في الاستفادة منها في برامجها، أو تأخرت عن تسويقها، قد ينتهي إلى تراجعها عن المنافسة مع مثيلاتها في العالم.

المعلومة إذن، هي رأس مال مهم في القرن الواحد والعشرين، وإن على من يفكر الدخول في حلبة المنافسة عليه أن يرتب أجهزته ومؤسساته بطريق تكفل له سرعة الحصول على المعلومة الدقيقة والصحيحة من جانب، والقابلية على تحليلها ومن ثم إدخالها في الحسابات الخاصة بالسرعة القصوى من جانب ثان، والقدرة على استثمارها بطريقة ذكية تدر له بالمصلحة والربح بما يحقق إنجاز المنافسة من جانب ثالث، وكل ذلك بحاجة إلى الخطوات التالية:

1 - الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة والمتطورة للحصول على المعلومة.  لقد بات الحصول على المعلومة عن طريق المخبرين مثلاً أو عبر وسائل الإعلام المحلية أو من بطون الكتب والمصادر بمختلف أشكالها وألوانها، أسلوباً قديماً إذ غزت العالم اليوم شبكات الكومبيوتر والأنترنت ومحطات التلفزة العالمية (الفضائية)  التي راحت تقدم للمشترك آخر المعلومات في اللحظة التي يضغط فيها على زر الجهاز ليقرأ ويشاهد ويختار ما يحتاجه من المعلومات والوثائق والإحصائيات وما إلى ذلك.  يلزم إذن أن نتجاوز الوسائل الكلاسيكية للوسائل الحديثة في الحصول على المعلومة.

2 - إذا حصلنا على المعلومة المطلوبة، نكون قد تجاوزنا الخطوة الأولى، فكيف نخطو الخطوة الثانية القاضية بتحليل المعلومة والاستفادة منها لإدخالها في الخطة التي نريد رسمها أو المشروع الذي نريد إنجازه ؟.

هنا، نحن بحاجة إلى ما يمكن أن نسميه بـ(مطبخ المعلومات)  والذي تتلخص مهمته بالدراسة والتحليل والتفسير والتدقيق في المعلومات الواردة، أولاً حتى نميز الغث من السمين من بين الكم الهائل من المعلومات التي يحصل عليها المطبخ، وثانياً من أجل فهرسة وتصنيف المعلومات الواردة كلاً حسب الحاجة إليها وموقعها من تفاصيل الخطة أو المشروع، بالإضافة إلى محاولات تستهدف قراءة ما وراء سطور المعلومة والتي تساهم في أحيان كثيرة في اكتشاف معلومات جديدة هي في الحقيقة وليدة المعلومة الأم.

ومن أجل مطبخ معلومات دقيق ذي قدرة فائقة على الإستفادة الأكثر من المعلومة، يجب الاستفادة من طاقات ذات خبرة مركزة في هذا المجال، ويستحسن أن تكون في ذات الوقت ذات تجربة وعقلية مدبر قادرة على أن تخترق حجب المعلومة إلى الجانب الآخر من دون استغفال أو غفلة أو استهانة أو تضخيم بأية معلومة يمكن أن تنفع في مجالها المناسب في القرن الواحد والعشرين، ولأنه عصر المعلومة كما أطلق عليه البعض قد نشهد حرب المعلومة بين الدول والشركات والمؤسسات ولعلنا سنشهد مثلاً سقوط حكومة بسبب معلومة أو نجاح شركة على أخواتها بسبب معلومة، أو إفلاس مؤسسة بسبب معلومة كذلك، وبكلمة فإن المعلومة ستكون عاملاً مهماً لنجاح أو فشل الكثير من الدول والمؤسسات والشركات وما إلى ذلك.

ومن أجل الاستفادة من المعلومة بشكل مناسب وصحيح، يلزمنا التحلي والتسلح بأدوات (العلمية والأكاديمية)  في التعامل مع المعلومة، فمن جانب لابد من التحقق من مصدر المعلومة، ثم التعامل معها بادىء ذي بدء بحيادية قبل أن نقبلها أو نرفضها، ثم التعاطي معها كما هي من دون استصغار أو تضخيم وتهويل، وكذلك يجب التعامل مع المعلومة سواء كان مصدرها الصديق أو العدو بدراسة وتمحيص.

إن المعلومة نواة أي قرار أو خطة أو مشروع، ولذلك يلزمنا أن نتعامل معها بواقعية وحذر وعلمية وحرص، ومن الخطأ الفاحش استيعاب أية معلومة على علاتها أو بمادتها الخام، كما أن من الخطأ كذلك رميها في سلة المهملات قبل التدقيق فيها ولأي سبب كان.  فكم من خطط فشلت لأنها اعتمدت على معلومة خطأ، وكم من مشروع لم نفكر به لأننا تجاهلنا معلومة كان يمكن أن يساعدنا التعامل معها بإيجابية على تحقيق الكثير من الإنجازات.

ثالثاً:  إعادة ترتيب الأولويات، وتحديد الهدفية بشكل أدق مما كنا عليه في السابق، فإذا كنا نعمل في الإطار المرجعي، يلزمنا تحديد الهدف بشكل دقيق واضح مستند على أسس متينة، وإذا كنا نعمل في الإطار الحركي، يلزمنا كذلك تحديد الهدفية بشكل أفضل سواء على صعيد النهوض الحضاري أو العمل السياسي أو النشاط الإعلامي أو ما أشبه.

ولعلنا بحاجة إلى إعادة النظر في بعض (الثوابت)  بالاستفادة من تجربة الماضي ومن خلال قراءة متأنية للحاضر والمستقبل، وبالاعتماد على الهدفية التي سنحدد نقطة ارتكازها بشكل دقيق، وكل ذلك بحاجة إلى التسلح بالصبر والشجاعة والوعي اللازم لتجربة الماضي، والدقة المتناهية في قراءة الحاضر، وشفافية لازمة لاستشراف المستقبل.

ومن أجل أن يتكامل ذلك، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في رسم بعض التحالفات سواء على صعيد الطريقة أو النوعية، كما نحتاج أيضاً إلى رسم معالم الفتوحات المستقبلية وتحديد آلياتها من أجل تحقيق المزيد من الحصانة والمزيد من الإنتاج وعلى مختلف الأصعدة.

رابعاً:  وأخيراً، نحن بحاجة إلى بلورة أكثر وضوحاً للمنهجية التي نعتمدها عادةً لتحقيق الأهداف من خلال تنفيذ البرامج والمشاريع والاستراتيجيات.

إن الثقافة الناجحة والأفكار الصائبة، هي تلك الثقافة والأفكار القادرة على تقديم الإجابات الناجعة لحاجات الأمة ومشاكل الساحة، أما تلك التي تظل تسبح في فضاءات التنظير والشعارات البراقة والكلام المعسول، تلك التي تظل -في الغالب- نظريات مجردة لا تقوى على الصمود أمام رياح الواقع، ولا تتمكن من التبلور في قوالب وآليات عملية لتتحول بمرور الزمن إلى مشاريع عمل تمشي على الأرض، وربما لا نتمكن أن ننعتها بالصواب لأنها تظل تعيش وادياً غير الذي تعيشه الأمة التي تبحث دائماً عن الفكرة الصحيحة والواقعية في آن والقادرة على انتشالها من واقع سيء إلى آخر حسن وجيد.

إن العالم اليوم بمؤسساته وتركيباته المختلفة يعيش زحمة الثقافات والأفكار، ولكل من يتبناه ويدافع عنه ويحاول أن يبلوره كمشاريع عمل يقدمها للساحة، فلا يعقل أن نتنافس مع كل ذلك بنظريات مجردة تسبح في الهواء الطلق من دون وسائل وآليات مناسبة للبرمجة، خاصة ونحن نسعى لنقدم للأمة بديلاً حضارياً عن الذي موجود في الساحة فمن المؤكد أن التنظير ينهزم عادة أمام البرمجة، والنظريات المجردة لا تقوى على الصمود أمام الواقع، أليس كذلك؟