الامام علي (ع) رائد علم التحقيق الجنائي

علاء الخطيب

وودت أن أرويـــــك محض رواية ٍ * للناس لا صورٌ ولا تلوين

ولأ نت أجمل ما تكون مجردا ً * ولقــــد يضرُ برائــع ٍ تثمين

 

نطل ُ على عليٍ ويُطل علينا في رحاب ذكراه من نافذة ِ كلمة ٍ قالها رسولنا الكريم بحقه ((عليٌ أقضاكم)، وترجمها أمير المؤمنين في علم كان هو رائده الأول في الاسلام وهو علم التحقيق الجنائي، ذلك العلم الذي يبحث في الادلة الجنائية للوصول الى مرتكب الجريمة من أجل العدل والحق الذي هو أغلى قيمة إنسانية، لذا قال النبي (ص) علي مع الحق والحق مع علي، فلو إطلعنا على نص ٍ من نصوص عهد الامام الى مالك الاشتر وهو يقول له (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ‏ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ... وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ).

هذا النص العلوي يأخذنا الى طريقة التحقيق الجنائي المعتمدة اليوم وهي أن تنتزع الادلة من الجاني ضمن قواعد علمية في التحقيق وفي التثبت من الأدلة ودقتها بالاعتماد على المنطق العقلاني مع عدم استعمال العنف والشدة، وذلك بالامور التالية وهي:

 1- التثبت من وقوع الجريمة والتحقق من وصفها فلربما تكون الجريمة ملفقه او كيدية فيقول الامام في هذا الباب ((فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه)). فعلى المحقق ان لا يكتفي بالادله التي تقدم له وعليه ان يتحرى بأقصى جهد كما يقول امير المؤمنين ((وأن لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه))، ولعل اوضح مثال على ذلك قصة السكارى الأربعة الذين تطاعنوا بالسكاكين وأخذ الدم ينزف منهم فجيء بهم الى الامام فأوقفهم الامام كأجراء إحتياطي حتى يفيقوا من سكرهم, فمات إثنان منهم وقد طالبت عشائرهم بقتل الاثنين الباقيين بدعوى إنها قتلا صاحبيهما فأجابهم الامام : وما علمكم بذلك فلعل كل واحد منهم قتل صاحبه؟ فقالوا لا ندري فاحكم في هذه القضية كما علمك الله : فقال دية المقتول على القبائل الأربعة بعد دفع دية جراح الاثنين الباقيين، وهنا انتزع الامام الحكم من وصفه الشرعي باعتبار أن القتل ليس قتل عمد بل هو قتل خطأ وهو بمصطلح اليوم (الضرب المفضي الى الموت) فعلي عليه السلام تأكد من أن التخاصم بين الاربعة لم يكن عن قصد بل هو عمل دون وعي لذا لا يمكن أن يحكم بالقتل لأن هؤلاء كانوا في حالة سكر وفاقدان للوعي فلم يكن العمل مقصودا ً.

 2- معرفة الجاني: فهل الجاني فرد واحد أم أكثر فالاقوال قد تكون متضاربة وغير دقيقة وعندها لا يكون الحكم دقيقا فعلى المحقق أن يكون ذو ذكاء وقدرة على معرفة الجاني وعلى جانب من المعرفة بالحوار وعلم النفس حتى يتمكن من انتزاع الدليل دون اللجوء الى الشدة والعنف.

3- كيفية حصول الجريمة والوسيلة التي تم بها الفعل.

 4- سبب ارتكاب الجريمة أ ي الدافع لأرتكابها ولعل من الجميل أن نذكر هنا واقعة حدثت في الكوفة وهي شكوى قدمها شاب الى شريح بن الحارث (شريح القاضي) يدعي فيها أن أبوه سافر مع شركاء له ولم يعود فأتهم الشاب هؤلاء بقتل أبيه، فحكم شريح للشركاء بحجة أن لا بينة للشاب على هؤلاء، فحمل الشاب شكواه الى أمير المؤمنين فقام الامام علي بالتحقيق فعزل التجار الثلاثة واستجوبهم على انفراد وهو إجراء استعمل لأول مرة على يدِ علي (ع) وبعد عملية استنطاق ذكية عرف من خلالها أن والد الشاب ذو مال كثير حمله معه أثناء خروجه وهو بصحة جيدة ولم يذكروا هؤلاء أن الرجل أصابته علة، فكيف مات، فقد ظهر ان هؤلاء قد قتلوه واستولوا على ماله وبانت تفاصيل الحادث الأجرامي، فقال الامام (ينبغي على شريح أن يستقصي في خبر الرجل ولا يقتصر على طلب البينة).

 يتبين مما تقدم أن الاجراءات التي قام بها أمير المؤمنين هي نوعين :

 الاول : هي عملية جمع الأدلة سواء كانت لصالح المتهم أم ضده وكان يركز الامام على مدى مصداقية الادلة ومطابقتها للواقع.

 الثاني : إجراءات إحتياطية تتخذ من أجل الحفاظ على معالم الجريمة والغرض منها الوصول الى الحق وعد إفلات الجاني من يد العدالة.

 وإما إجراءات جمع الأدلة هي :

 1- معاينة مسرح الجريمة اي الكشف عن مكان الحادث.

 2- الاستجواب وما يرتسم على وجه الجاني من إمارات فيقول الامام في هذا الشأن (ماأضمر أحد شيئا ً إلا وظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه).

 3- الشهادة من خلال الاستماع للشهود كل ٌ على إنفراد وهو الاسلوب الذي اتبعه الامام وقدأعتمده العالم اليوم, وفيها أمور : أن تكون عينية لا لسانية أي شاهد عيان لأن الامام علي يقول في هذا الصدد (بين الحق والباطل أربعة أصابع)

 4- تدوين هوية الشاهد وتفاصيله الشخصية، للسؤال والتحري عنه وهي طرق متبعة اليوم.

 5- عند رجوع الشاهد عن شهادته فأن أقواله وشهادته الثانية لا تقبل ويؤخذ بالأولى، فيقول في هذا الصدد عن رسول الله (ص) (من شهد عندنا ثم غيَّر أخذناه بالأولى وطرحنا الأخيرة) وهناك تفاصيل أخرى في قضائه عليه السلام سوف نتطرق لها في الحلقة الثانية من هذا البحث.

* كاتب وإعلامي

 جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/أيلول/2009 - 21/رمضان/1430

[email protected]