رمضان ووحدة وذكرى عمّانية

زياد جيوسي

 رمضان كريم.. منذ صلاة الفجر وبعد قراءة القرآن الكريم، أقف لنافذتي أنتظر كالعادة شروق الشمس، لكن هذه المرة بدون كوب الشاي أو فنجان القهوة، هدوء المدينة يأسرني، لا يقطع الصمت إلا هديل الحمائم الجميل، وصوت زقزقة العصافير الموسيقي، أتنشق رائحة الريحان مختلطة بعبق النعناع، أرنو للشرق حيث الأسرة والأبناء، رمضان العاشر بتعداد السنوات الذي أصومه وحدي بعيداً عن جو الأسرة، وبعيداً عن الفرحة بقدوم رمضان وطقوسه والصفاء الروحي فيه، إلا أنه يعيد لروحي دوماً الشعور بالوحدة والاغتراب، فلعل من جماليات رمضان هو الجو الأسري الجميل، وتجمع الأسرة بانتظار الإفطار، وها هي السنوات تمر وأنا أحيا بعيداً وحدي، الابنة تزوجت وأصبح لها بيتها، والابن الكبير ذهب ليعمل ويشق طريقه، ولم يتبقى في البيت إلا الزوجة الصابرة والابنين الأصغر بالسن، فأشعر بشعورهم وهم يفتقدون الجو الأسري الشامل، كما أشعر كم هم يشعرون بألمي في البعد عنهم.

   تعيدني الذاكرة إلى فترات زمنية قديمة في طفولتي، كنا نسكن عمّان عاصمة الأردن التي تسكن مني الروح والقلب، حيث كان لرمضان طعم آخر جميل، كنا أطفالاً لم ندخل المدرسة بعد، ننتظر رمضان بشوق ومحبة، فرمضان كان بالنسبة لنا حالة خاصة وتغيير كبير في حياتنا، فمائدة الإفطار كانت متنوعة تعوض لنا ما نفتقده طوال العام، فالحياة كانت صعبة والظروف المعيشية أصعب، فلم نكن نحظى بهذا التنوع في الأطعمة وتذوق الحلويات إلا في رمضان، رغم اقتصار الحلوى على قطايف رمضان والشعيرية بالسكر، إلا أن ذلك كان شيء عظيماً ورائعاً، إضافة لتكرار الفرصة لتناول اللحوم والدواجن، فنخرج من إطار الأطعمة المتكررة طوال العام، لا تقطع برنامجها إلا الأعياد ورمضان، لذا كان لرمضان محبة خاصة في أرواحنا الغضة.

   لم أكن أبلغ سن الصيام بعد، ولكنا كنا نصر على الصوم تقليداً للكبار، لذا ابتكر لنا الأهل صياماً خاصاً بنا، كانوا يسمونه صيام "العصفورة"، فنصوم حتى الظهر أو العصر، ثم نتناول شيئاً خفيفاً حتى يتاح لنا أن نأكل مع الكبار في موعد الإفطار، وكنا نلح دوماً على الأهل أن ينهضونا من النوم في موعد السحور، وعادة كان الأهل يتناسون ذلك رحمة بطفولتنا، لكن الحس الطفولي وجلبة إعداد السحور كانت تنهضنا من النوم، فيتاح للواحد منا أن يأكل نصف بيضة مسلوقة، وهذا كان بالنسبة لنا إنجاز كبير، فالحصول على نصف بيضة أو بيضة كاملة في بعض الحالات، يعطينا فرحة كبيرة ونشوة عظيمة، فكنا نتباهى في الحارة مع أقران الطفولة بهذا المكسب الكبير.

   الأجمل هو التجمع بوقت الإفطار، فكانت الأسرة تتجمع حول المائدة، مضافاً لها الأقارب القريبون في الحي، وأحيانا الجيران الذين يتشاركون كل بما يحضره معه بمائدة الإفطار، فيزيد هذا من فرحتنا الطفولية، وما أن ننتهي من الإفطار إلا ونخرج للحارة نلعب ونلهو إلى ما بعد صلاة العشاء، نجول ونلهو ونلعب في الأزقة والدروب المظلمة، فلم نكن نعرف الكهرباء بفترتها في البيوت ولا في الشوارع، وكانت "لمبة الجاز" هي أداة الإضاءة الوحيدة، إضافة للفوانيس الجميلة التي ما زلت أحتفظ بأحدها وأعلقه على جدار صومعتي، أما من كانت ظروفهم المادية أفضل فكانوا يشعلون "لوكس الشنبر"، الذي كان يعطي إضاءة كبيرة جميلة، ورائحة متعبة أقل، لذا كان تواجدنا في البيوت من مغيب الشمس مسألة لا بد منها، إلا في رمضان فكان يسمح لنا باللعب واللهو حتى انتهاء صلاة التراويح.

   كان انتظار رمضان متعة كبيرة، وليلة الإعلان عنه نخرج للشوارع ونغني وننشد فرحين بقدومه، نتجمع كل أطفال الحارة بفرحنا الطفولي، ولم يكن أحد منا يقر أنه غير صائم، وكلنا كنا نصر أننا صائمون رغم صغرنا بالسن، فقد كنا نشعر بالعيب أن نكون مفطرين، رغم صيام "العصفورة" الذي كنا نعتبره كافياً لاعلان الصيام كالكبار، ولو أخطأ أحد الأطفال وتناول شيئاً أمامنا، فكنا نزفه ونحن نلتف حوله وننشد له هازئين: "يا مفطر رمضان يا قليل دينك، كلبتنا السمرا تقطع مصارينك".

   هي الذاكرة تستعيد نفسها والذكريات، وأنا أجول بعض من شوارع رام الله في هذا الهدوء الجميل والصباح المبكر، فلا باعة يحتلون الزوايا ولا مطاعم تفتح أبوابها، أمر من رام الله التحتا فأتذكر شاباً لم يكمل السادسة عشرة من عمره، أطلقت عليه قوات الاحتلال النار في فجر الرابع من رمضان، فسقط شهيداً وهو يقاوم الاقتحام بالحجارة، وشهداء آخرين في مناطق مختلفة من الوطن، وكأن الاحتلال يجدد في رمضان متعته الكبيرة بالقتل والاجتياح والأسر وهدم المنازل، والتشديد على الحواجز لإزعاج الصائمين وتأخيرهم عن بيوتهم وموعد الإفطار، ومنع المصلين من الوصول للقدس الشريف للصلاة، وزرع الحزن في النفوس الفرحة بالشهر الفضيل، ونحن لا نسمع سوى قرقعة ولا نرى طحنا، عن تقدم وتسهيلات ناتجة عن المفاوضات واللقاءات السياسية بين قيادة السُلطة وسُلطات الاحتلال.

   رمضان آخر وذكريات وذكريات، اليومين الأولين أفطرت في بيت أخي مستعيضاً عن الوحدة بلقاؤهم، وفي اليوم الثالث كنت قد تمكنت من الوصول لبير زيت في ضواحي رام الله بعد سنوات من الحصار، فأفطرت في بيت صديقي الطيب عيسى خريس، وتلاه إفطار جميل في بيت صاحب "دوثان" صديقي الشاعر الجميل عبد السلام العطاري، لأقضي الوقت بمشاكسة أطفاله الذين تركوا أثار أظافرهم على جلدي، متمتعاً بعصبيته حين ألقى طفله نور فنجان القهوة على وجهه وملابسه، لأعود وأحضر الفطور بنفسي في صومعتي، احتفاءً بعودة صديقي التوأم هاني من سفره الذي طال، لنستعيد ككل رمضان منذ سنوات، الإفطار سوياً ومع من يأتي ليشاركنا الإفطار من أصدقاء الصومعة.

   صباح آخر وشوق كبير يجتاحني، يقابله ألم أكبر عما آلت إليه الأمور في وطني بعد صراع دموي مخجل، وبعد استيلاء غير مقبول على قطاع غزة، فمهما كانت المبررات فلا شيء يغفر لأحد إسالة الدماء لأبناء شعبي، من أجل مصالح فئوية وحزبية ضيقة وذاتية، وأستعيد ذكريات مؤلمة من تاريخنا فمنذ أيام مرت ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، وذكريات صراع دموي في أيلول عام 1970،  فأتمزق بين الذكرى والشوق والألم والحنين..

   فتردني إلى واقعي نسمات صباح رام الله وذكريات عمّان وذكرى طيفي البعيد القريب وشدو فيروز:

"عمان في القلب أنت الجمر والجاه ببالي عودي مري مثلما الآه، لو تعرفين وهل إلاك عارفة هموم قلبي بمن بروا وما باهوا، من السيوف أنا أهوى بنفسجة خفيفة الطول يوم الشعر تياه، سكنت عينيك يا عمان فالتفتت إلي من عطش الصحراء أمواه، وكأس ماء أوان الحر ما فتئت ألذ من قُبلٍ تاهت بمن تاهوا".

صباحكم أجمل..

* رام الله المحتلة 19\9\2007

© جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 23 أيلول/2007 -10/رمضان/1428

[email protected]