الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

ملف عاشوراء

 
عاشورء الحسين 1435 هـ
عاشورء الحسين 1434 هـ
عاشورء الحسين 1433 هـ
عاشورء الحسين 1432 هـ
عاشوراء الحسين 1431هـ
عاشوراء الحسين 1430هـ
عاشوراء الحسين 1430هـ
 عاشوراء الحسين 1429هـ

  عاشوراء الحسين 1428هـ

  عاشوراء الحسين 1427هـ

  عاشوراء الحسين 1426هـ

  من نبض عاشوراء 1425هـ

  من نبض عاشوراء 1424هـ

  عاشوراء في ذاكرة النبأ

 صور عاشوراء

اتصل بنا

 

 

الإمام الحسين (عليه السلام).. التجسيد المتكامل للصلاة

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

أشهد أنك قد أقمت الصلاة

إننا نقرأ كما يقرأ الملايين من الناس، في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْـمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْـمُنْكَرِ، وَأَطَعْتَ اللَهَ وَرَسُولَهُ‏)([1]).

ولكن لابد من التدبر، والتفكر في مغزى هذه الشهادة، ودلالاتها وأبعادها، ولنبدأ بفقرة (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، فإنها تكشف عن العلاقة الجوهرية والتكاملية بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين الصلاة؛ ذلك أن هذه العلاقة هي علاقة بين أسمى معنى مجرّد وهو الصلاة، وبين أسمى مظهر مجسّد وهو الإمام الحسين (عليه السلام).

إنها العلاقة الجوهرية والتكاملية بين سيد الشهداء ـ وهو سيد شباب أهل الجنة، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الْـحَسَنَ وَالْـحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْـجَنَّة)([2])، وسبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وبين الصلاة وهي عمود الدين، ومعراج المؤمن وقربان كل تقي.

فما هي أبعاد هذه العلاقة؟

إنها علاقة سامية إلى أبعد الحدود، يشير إلى بعض أبعادها هذا المقطع الموجود في كثير من الزيارات التي وردت في حق الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث يقول الزائر: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ.. )، فالعلاقة إذن هي في ضلعها الأول علاقة (إقامة الصلاة).

وهناك فرق بين أن يصلي الإنسان ـ إذ ما أكثر المصلين ـ وبين أن يقيم الصلاة، إذ ما أقل (المقيميّ الصلاة) كما سيأتي بإذن الله تعالى.

أقسام الشهادة

لنتوقف قليلاً عند كلمة (أَشْهَدُ)، فهي من الشهادة، والشهادة على أقسام:

القسم الأول: الشهادة العلمية

وهذه بدورها تنقسم إلى مراتب ثلاثة:

المرتبة الأولى: الشهادة التعبدية

وبتعبير آخر الشهادة التقليدية الناشئة من التقليد، وذلك بأن نسمع من أهل الخبرة فنعتمد عليهم، فنشهد بمضمون كلامهم. فان (أَشْهَدُ) تأتي على ضوء قولهم أو خبرتهم، سواءً أ كان ذلك في الدين أم الطب أم غيره.

وبكلمة أخرى: تارة يشهد الإنسان بشيء تعبداً استناداً لقول الغير، فهذه من مراتب وأقسام الشهادة.

المرتبة الثانية: الشهادة العلمية

الناشئة من العلم الحصولي، أو بتعبير آخر: الشهادة الاجتهادية، فان الإنسان ربما يجتهد ويصل إلى الحقيقة بنفسه، فتكون هذه الشهادة العلمية، نابعة من اجتهاده واستكشافه.

المرتبة الثالثة: الشهادة الحضورية

وهنالك مرتبة أعلى، وهي مرتبة الشهادة بالعلم الحضوري، إذ قالوا: ان العلم الحضوري هو حضور المعلوم بنفسه لدى العالم

والمثال على ذلك معلوماتنا نحن البشر، حيث إننا نعلم الأشياء الخارجية كالشجرة مثلاً، فإن العلم بوجود الشجرة الخارجية، هو علم حصولي، لكن العلم بنفس الصورة الذهنية للشجرة الموجودة في الذهن هو علم حضوري، وليس بصورة أخرى عن هذه الشجرة التي في الذهن وإلا لزم التسلسل كما قالوا([3]).

وعندما نخاطب سيد الشهداء (عليه السلام) بـ (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، فأنه تارة يشهد المؤمن الموالي بهذه الشهادة تعبداً وبشكل تقليدي، فيشهد بأن الإمام الحسين (عليه السلام)، قد أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، لكن هذه أدنى درجات الشهادة.

بينما على الإنسان المؤمن أن يسير ليطوي مراحل الكمال، فينتقل من الشهادة التقليدية التعبدية إلى الشهادة الاجتهادية، ليتعرف على الحقيقة بنفسه. فيبحث في التاريخ، يطالع المصادر الأم، ويتعرف على سيد الشهداء (عليه السلام) سبط الرسول، وبصورة مباشرة، وباجتهاد مباشر، وبمعرفة علمية مباشرة، فهذه هي المرتبة الأسمى.

 بعد ذلك ينتقل. أو يحاول الانتقال. إلى العلم الحضوري بذلك، ولكن هل من الممكن أن يحصل المرء مرتبة العلم الحضوري ـ وهو أسمى درجات العلم بالمعصوم ـ أو ببعض درجاته ومراتبه؟.

إن ذلك يستدعي مجالاً آخر من البحث العلمي، أعمق من مستوى هذا البحث([4]).

إذن؛ علينا أن نسير بشكل تكاملي في مرحلة الشهادة في هذا الموضوع، وفي أشباهه.

القسم الثاني: الشهادة للإقتداء

الكثيرون يقرؤون زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) كل يوم مرة وربما أكثر، ويسلمون عليه وعلى آل البيت (عليهم السلام) مرة أو أكثر، بدءاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وختماً بالإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، الإمام المنتظر المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

لكن لماذا هذا التكرار وهذا الإصرار؟.

والجواب يتلخص بكلمة: وهو أننا نكرر هذه الشهادة، ليس فقط لنتكامل في المعرفة، بل لنتخذ المعصوم أسوة وقدوة أيضاً، فالعلم طريق العمل، والإيحاء المتكرر والتلقين المستمر لهما أبلغ الأثر.

 يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (العلم يهتف بالعمل، فان أجابه وإلا ارتحل). فنحن نكرر (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، لكي نتعلم منه إقامة الصلاة، والسعي الجاد لذلك، وهكذا نقرأ ونكرر بقية فقرات الزيارة: (وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْـمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْـمُنْكَرِ، وَأَطَعْتَ اللَهَ وَرَسُولَهُ...)، فالشهادة هي أيضاً للإتباع والاقتداء والتأسي.

القسم الثالث: الشهادة للشكر

إن شكر المُنعم واجب عقلاً، فإذا أنعم عليك شخص بنعمة، فالوجدان يدعوك لأن تشكره، كما يحكم العقل بذلك، وسيرة العقلاء على ذلك.

فلولا الإمام الحسين (عليه السلام)، لما كان للصلاة على وجه الكرة الأرضية وجود، وهذا من وجوه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ)([5]).

تأسيساً على ذلك كله، فإننا عندما نقول: أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ... يا أبا عبد الله الحسين... فإن علينا أن ننتقل بالمعرفة، من التقليدية التعبدية إلى المعرفة الاجتهادية، ثم إلى المعرفة الشهودية، وإلى العلم الحضوري، ومراتب عين اليقين بإذن الله سبحانه وتعالى.

كما علينا أن نتخذ هذه الشهادة طريقاً، لكي نقتدي ونتأسى بسيد الشهداء (عليه السلام)، ولكي نتذكر عظيم فضله علينا فنشكره ليل نهار، كما نشكر آباءه وأبناءه (عليهم الصلاة والسلام)، وجده المصطفى (صلى الله عليه وآله) على هذه النعمة، بأن أقاموا لنا الصلاة، وهدونا إلى الصراط المستقيم.

وإذا عرفنا أن العلاقة بين سيد الشهداء (عليه السلام) وبين الصلاة، هي علاقة تكاملية وجوهرية، فإننا عندئذ كلما ازددنا حباً للحسين (عليه السلام) وتمسكاً به، ازددنا حباً للصلاة، وازددنا التزاماً بحضور القلب فيها، وإقامتها على مستوى البسيطة.

وكذلك العكس فكلما توجهنا إلى المسجد، أو تحدثنا عن الصلاة، تذكرنا نهضة سيد شباب أهل الجنة، وقوله: (وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي‏...)([6])، وسائر كلماته الخالدة.

نهضة سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) وإقامة الصلاة

علينا أن نعرف بأن هذا الدور ـ إقامة الصلاة ـ كان امتداداً لدور الأنبياء والمرسلين على مر التاريخ، وهو دور استراتيجي إلى أبعد الحدود.

وهنا لابد أن نفرق بين إقامة الصلاة، وبين أداء الصلاة؛ لأن مهمة الأنبياء ـ أي إحدى أهم مهامهم ـ هي إقامة الصلاة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْـخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([7]).

ونقرأ في الآية الشريفة عن الذين يصلون إلى السلطة الظاهرية: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ)([8])، بمعنى إن إقامة الصلاة، كما هي مسؤولية الأنبياء والمرسلين على مر التاريخ، فإنها موجهة لذوي السلطة والنفوذ والمُكنة أيضاً.

ومن جهة أخرى هناك أية أخرى تقول: (وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)([9])، وفي أية أخرى ورد: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)([10]).

و(أقيموا الدين) غير تدينوا، كذلك أن يصلي الإنسان شيء، وأن يقيم الصلاة شيء آخر. ومن هنا تتجلى لنا أهمية وضرورة تحليل معنى إقامة الصلاة وتفسيرها.

معاني إقامة الصلاة

المعنى الأول: إقامة الصلاة بحدودها

إن إقامة الصلاة بحدودها من أصعب المصاعب، ومن أشق المشاق، التي لا يقوى عليها إلا صفوة الصفوة، والأولياء العظام، والمرسلون والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام)؛ وذلك أن هنالك أربعة آلاف حداً للصلاة، فإذا أقام الإنسان الصلاة بحدودها الأربع آلاف، فذلك هو الذي أقام الصلاة حقاً.

فمن حدود الصلاة مثلاً: حضور القلب في جميع اللحظات والسكنات، وفي جميع الحركات، والأقوال، والأذكار، والحالات المختلفة في الصلاة، بحيث لا يشط ولا يشرد ذهن الإنسان، ولا يزيغ قلبه أو بصره أو بصيرته، حتى لحظة أو ثانية واحدة.

على أن حضور القلب يبدأ من أول لحظة من لحظات الوضوء، ويمتد إلى آخر الصلاة، بل إلى تعقيبات الصلاة أيضاً.

من هنا، فإن أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، ومن قبلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، كانوا هم النموذج الأسمى الذين تجسدت فيهم (إقامة الصلاة)، أي أنهم أقاموا الصلاة بحدودها حقاً وصدقاً، وبحدودها الأربعة آلاف جميعاً.

فإن ما يذكره عدد من المحققين في تفسير هذه العبارة: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْـخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ)([11])، أو (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْـمَعْرُوفِ)، هو هذا المعنى الحساس والخطير، وهو إقامة الصلاة بحدودها.

المعنى الثاني: إقامة حقيقة الصلاة في المجتمع

سبق أن هنالك فرقاً بين (أن أقيموا الدين) و(تدينوا)، فقد يكون الإنسان متديناً بما للتدين من معنى، لكن التدين الأسمى هو إقامة الدين، فإن إقامة الدين له معنى آخر متعدي، بينما التدين معناه لازم، كما لدينا فعل لازم وفعل متعدٍ.

فمرةً تقول: (أشهد أنك صليت)، ومرة تقول: (أشهد أنك أقمت الصلاة)، فهذه الإقامة تعني إحياء الصلاة على مستوى المجتمع الإنساني، والمحافظة عليها من الاندثار.

وعلى ضوء ذلك لابد أن نفسر (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، فلقد نشر الإمام الحسين (عليه السلام) ثقافة الصلاة ورسالتها الجوهرية، وفلسفتها ومعانيها الحقيقية في المجتمع، ولولاه لاندثرت الصلاة بشكل كامل في المجتمع، ولم تكن سوى مجرد قشور ومظاهر، بل لعلها لم تكن تبقى حتى بمظاهرها وقشورها أبداً، كما أن القرآن كان لا يبقى منه سوى المظهر.

كما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، وَمِنَ الإسلام إِلَّا اسْمُهُ)([12])، لذا أقام الإمام الحسين (عليه السلام الصلاة) الصلاة بالحفاظ على فلسفتها ومغزاها، وما تتضمنه من قيم ورسالات.

الخضوع المطلق لله هو جوهر الصلاة

إن المغزى الرئيسي والهدف النهائي لإقامة الصلاة، هو تحقيق الخضوع المطلق للباري عزَّ وجل لا غير. إذ تقول: (إياك نعبد).. وتقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر، ولم تقل: (نعبدك)؛ لأن (نعبدك) لا تفيد بما هي هي، البشرط لائية عن عبادة الغير، بينما (إياك نعبد) تفيد بشرط لا، أي نعبدك حصراً ولا نعبد غيرك، وعدم عبادة الغير هي مقوّم للعبادة المقبولة للرب جل اسمه. إذن العبادة لله وحده، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى وحده([13]).

فقد نشر الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الثقافة بجهاده، وبصموده وبطولاته. وفي يوم عاشوراء ضحى (عليه السلام) بنفسه، وأفراد أسرته، وسائر الشهداء من أحفاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأصحابه الأبرار.

ويمكن القول: لولا الإمام الحسين (عليه السلام)، لكانت العبودية تخرج من كونها لله تعالى على مستوى البشرية جمعاء، إلى عبودية الطواغيت فقط.

فلولا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، لكان يُمحى المغزى الحقيقي من الصلاة بالكامل، وهو تفويض الأمر إلى الله والتسليم له وإطاعته، وكانت الطاعة والولاء تتحول بشكل كامل، وعلى مختلف المستويات والشعوب والجماعات إلى الطغاة والمستبدين والدكتاتوريين على مر التاريخ.

وفي يوم عاشوراء هنالك نجد التجسيد الأكبر لتفويض الأمر إلى الله، والتوكل عليه، والتسليم له، والعبودية له، وعدم الاستعانة بغيره، ما دام في التسليم المطلق لما قدره الله تعالى رضا الله سبحانه.

مغزى رفض الإمام لمعونة أربعة آلاف ملك

فقد وردت روايات عديدة([14]) تصرّح وتؤكد، أن أربعة آلاف ملك من الملائكة هبطوا من السماء، وعرضوا نصرتهم للإمام الحسين (عليه السلام)، وكذلك فعلت الجن، لكن الإمام (عليه السلام) رفض كل هذه العروض؛ لأنه لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، إذ (شاء الله أن يراني قتيلاً ويراهن سبايا)([15]).

فلأنها مشيئة الله تعالى فكل شيء يهون، وكل شيء يقدم إلى الرب في طبق الإخلاص، وبذلك اتخذ ذات القرار الذي اتخذه إبراهيم خليل الرحمن (عليه وعلى نبينا وآله السلام). فعندما قُذف الخليل بالمنجنيق إلى وسط النيران، هبط عليه جبرائيل (عليه السلام) وعرض عليه المعونة، فكان رده أن قال: (حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي‏)([16]).

إن ذلك يكشف عن أعلى مراتب سمو النفس، والتوكل على الله تعالى لدى الإمام الحسين (عليه السلام)، حين جاءته الملائكة تعرض عليه خدمتها ونصرتها، لكنه رفض لماذا؟.

لأنه المظهر الأسمى للعبودية لله وحده، وللخضوع له، ولما يحبه ويختاره لعبده. فما بالك بنا ونحن نستعين ببعض القوى الاستعمارية، أو بالطغاة والظلمة!!

فهل نحن نصلّي حقاً...؟!

وهل نؤمن بـ(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)([17]) صدقاً؟.

إن هنالك الكثير ممن يلجأ إلى أو يتكئ على القوى الاستعمارية، أو الظلمة، أو الطغاة، سواء في الحقل السياسي أم الاقتصادي أم العلمي أم غير ذلك.

ألا يعني ذلك طمساً حقيقياً لمعنى الصلاة ومغزاها، والتي تجلت في تلك الثورة المدوية على امتداد التاريخ، والتي انطلق منها ذاك الشعاع الذي فجر الكثير من الثورات، وتعلّم منها قادة العالم مثل "غاندي"([18])، حيث قال: (تعلمت من الحسين كيف أن أكون مظلوماً فأنتصر).

إن عبارة "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ"، هي شهادة كبرى بأنه (عليه السلام) كان يجسد الجوهر الحقيقي للصلاة، وهو العبودية لله سبحانه وتعالى وحده والاستعانة به لا بغيره.

ولذلك فإننا نقول ونكرر ولا نمل، بل نسعد بهذا التكرار والإيحاء المستمر، الذي يعلمنا أن نسير على هذا الدرب: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ).

المعنى الثالث: إقامة الصلاة إقامةٌ للدين

وهو معنى دقيق، وهو أن (أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، أي أقمت الصلاة ضمن منظومة الدين كله، أي بتكامليتها مع سائر تعاليم وقواعد وأسس الإسلام؛ ذلك أن الإسلام منظومة متكاملة، وكل لا يتجزأ، ولا يصح أن يؤمن الإنسان ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر، أو يعمل ببعض دون بعض.

فقد أقام الإمام الحسين (عليه السلام) الصلاة، لكن لا بمعنى الصلاة المنفصلة عن سائر قيم وتعاليم الدين، بل أقام الصلاة ضمن إقامة منظومة الدين بأكمله، أي أنه أقام الصلاة التي هي عمود الدين حقاً، أقامها كركن يتكفل تكامليتها مع سائر الأسس وأصول الدين وفروعه، والقواعد والمسائل الشرعية.

مثالٌ على ذلك: قلب الإنسان، فإنه إذا تعرض لعلّة ما، فإن الطبيب الحاذق لن يقتصر في الفحص والتشخيص على القلب وحده، بل عليه متابعة وضع المعدة والمخ أيضاً؛ لأن القلب والمخ مترابطان، فإذا لم يصل الأوكسجين إلى المخ بشكل جيد، فقد يؤثر ذلك على عمل القلب، وهكذا سائر أعضاء الإنسان.

فالقلب السليم هو الذي يتفاعل، مع سائر الأعضاء بسلاسة، ويأخذ ويعطي بشكل سليم.

إن الصلاة هنا بمنزلة القلب، فهي عمود الدين، وإقامة هذا العمود الحقيقية يلزم أن يكون متكاملاً مع سائر أعمدة الخيمة، ومع سائر زوايا الخيمة، ومع مجمل الخيمة بشكل عام.

إن الإقامة الحقيقية للصلاة، تعني الإقامة الحقيقية للإسلام كله، والالتزام بتعاليمه كلها، وهذا ما يسمى بالاصطلاح الأصولي: بـ (الأقل الأكثر الارتباطي)([19])، فإن الصلاة مع سائر عناصر الدين، هي كالأقل الأكثر ارتباطي، فالإنسان الذي يصلي ولا يصوم، أو الذي يصلي ولا يحج، يُقال له: (فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً)([20]).

كما أن من أركان الإسلام (الأخوة)، فقد أقام الإمام الحسين (عليه السلام) الصلاة كما أقام الأخوة الإسلامية، كما شيد دعائم الحرية، كما رفع راية الثورة ضد الطغيان والاستبداد، أ ليس إذن هو الذي أقام الصلاة حقاً؟.

كان (جون) مولى أبي ذر، مع الإمام الحسين (عليه السلام)، وكان رجلاً اسود، وعبداً رقاً، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) تعامل معه كما تعامل مع ابنه علي الأكبر.

فعندما وقع (رضوان الله تعالى عليه) صريعاً على أرض المعركة، وضع الإمام الحسين (عليه السلام) خده على خد جون، كما وضع خده على خد ابنه علي الأكبر، وهو الذي كان أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً بجده رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وبكلمة واحدة إن الإمام الحسين (عليه السلام)، كان ذلك الذي أقام الصلاة بكل أبعادها، وبكل ترابطاتها مع سائر أسس الإسلام الحنيف، ومع كل القواعد والمسائل وأصول الدين وفروعه، ولذلك نحن نقول ونكرر: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ).

ولذا يلزم علينا أن نستحضر في عقولنا وقلوبنا ـ وعلى مستوى جوارحنا ـ هذه المعاني كلها جميعاً.

ماذا يعني قتل الإمام الحسين (عليه السلام)؟

إن الإمام الحسين (عليه السلام)،هو الذي أقام الصلاة، كما ورد في زيارته (سلام الله عليه): (أَشْهَدُ أَنَّكَ ـ يا أبا عبد الله الحسين ـ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، لذلك فإن الذي قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وسبى حريمه، فإنه في الواقع وبنظرة شمولية أوسع قتل ذلك المظهر المتجسد للصلاة، ذلك المظهر الأسمى في عصره الذي حافظ على الصلاة وأقامها، وواصل مهمة الأنبياء والمرسلين على مر التاريخ.

بل إنه في الحقيقة قتل التجسيد الأكمل للدين، والوريث العظيم لكل أنبياء الله العظام، إذ كان حقاً وارث آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، ومحمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، كما نقرأ ذلك في (زيارة وارث) وبذلك نكتشف سراً من أسرار كونه (عليه السلام) ثار الله وابن ثأره.

* فصل من كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

................................................

 ([1]) مصباح المتهجد: ص720-721 دعاء الموقف لعلي بن الحسين (عليه السلام).

([2]) من لا يحضره الفقيه: ج4 ص179 باب الوصية من لدن آدم (عليه السلام) ح5404، من لا يحضره الفقيه: ج4 ص420 ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5920.

([3]) فصلنا القول الحق في حقيقة علمنا في "المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول" إذ ناقشنا هنالك في العلم الحضوري فراجع واما الأمر في الله تعالى فان الحق هو إن كيفية علمه تعالى بالأشياء مجهولة لنا، وقد فصلنا ذلك في "المبادئ التصورية والتصديقية" أيضاً.

([4]) وقد فصلناه في كتاب "الحجة، معانيها ومصاديقها".

([5]) بحار الأنوار: ج43 ص271-270 ب‏12 ح35، بحار الأنوار: ج‏45 ص‏314 ب‏46 ضمن ح‏14.

([6]) بحار الأنوار: ج44 ص329 ب‏37.

([7]) سورة الأنبياء: 73.

([8]) سورة الحج: 41.

([9]) سورة الأنعام: 92.

([10]) سورة الشورى: 13.

([11]) سورة الأنبياء: 73.

([12]) الكافي: ج8 ص308-307 كتاب الروضة، حديث الفقهاء والعلماء ح479، وهذا عند عامة الناس، ولولا نهضة سيد الشهداء لما بقي لديهم حتى اسمه ورسمه.

([13]) وكل من عداه، هو في طول الاستعانة به تعالى لا في عرضها.

([14]) راجع وسائل الشيعة: ج14 ص428-427 ب37 ح19523، بحار الأنوار: ج44 ص3330-331 ب‏37.

([15]) راجع بحار الأنوار: ج44 ص364 ب‏37.

([16]) راجع بحار الأنوار: ج68 ص156-155 ب‏63 ح70.

([17]) سورة الفاتحة: 5.

([18]) موهنداس كرامشاند غاندي: فيلسوف ومجاهد وزعيم سياسي وروحي هندي. وُلد في بور بندر عام 1869م. اشتهر بلقب «المهاتما» أي النفس السامية، نادى باللا عنف والمقاومة السلبية، ودعا إلى تحرير الهند من الاستعمار البريطاني بالطرق السلمية، والمقاومة السلبية بعيداً عن العنف، فدعي (مهندس الاستقلال الهندي). أدت جهوده إلى استقلال الهند عام 1947م. دعا إلى إزالة الحواجز بين الطبقات الاجتماعية، وإلى الوحدة بين الهندوس والمسلمين والسيخ. اغتاله هندوسي متعصب، فقتله في 30 كانون الثاني 1948م. يعد من أبرز دعاة السلام. أشهر آثاره سيرته الذاتية التي دعاها "قصة تجاربي مع الحقيقة" عام 1927م.

([19]) أي من حيث القبول، بل من حيث الصحة في الجملة.

([20]) مستدرك الوسائل: ج8 ص19 ب6 ح8957.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/تشرين الثاني/2014 - 26/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م

[email protected]