الصفحة الرئيسية ملف المناسبة  | أتصلوا بنا

 

الإمام الشيرازي

وعلاقة الفكر والجسد

الكاتب: محمود الموسوي

 بسمِ اللهِ الرّحمَنِ الرّحيم ِ

(يرفعِ اللّهُ الّذينَ ءامَنُوا مِنكُم والّذينَ أُوتوا العِلمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة /11

هوية الكتاب

الكتاب : الإمام الشيرازي وعلاقة الفكر والجسد

المؤلف : محمود الموسوي

الطبعة : الأولى

السنة : نوفمبر  2004م/ شوال 1425هـ

الناشر : جمعية أهل البيت (ع) / مملكة البحرين

 

* الإهداء

* تقديم بقلم سماحة العلامة الشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني

* تقديم

* مشروع الإمام الشيرازي خطوات في الوعي والتفعيل

             ** مبرر الاشتغال الفكري

             ** تنوّع التعاطي

             ** خطوات مقترحة

* المظلومية وذاكرة تروح ا لخلاص

             ** مظلومية الامام الشيرازي

             ** أبعاد في المظلومية

             ** تجلياتها في المجتمع

             ** مفارقة بحاجة الى تأمل

* ملامح المرجعية القيادة عند الامام الشيرازي

             ** من أهم تلك الملامح

 

 الإهداء

 إلى مستقبلي وجوه الآراء

وإلى المتواضعين للحق

والمستقيمين عليه

 

تقديم

بقلم سماحة العلامة الشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وآهل بيته الطاهرين.

وأما بعد..

الرجال المسلمون ثلاثة:

رجل يعيش وينتهي بلا أثر يذكر، ورجل ينتهي بأثر محدود، ورجل ينتهي جسده ويتجاور بآثاره حدود الزمان والمكان.

وهذا الأخير لا يكون إلا ممن انتزع عظمته من عظمة الله تعالى حينما انتهج السنن الإلهية في الحياة فلم ينحرف عن الصراط المستقيم المؤدي إلى الخير والنجاح في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة. فللعظمة إذن شروط لابدية، وهي ما التزمها الراحل الشامخ والمرجع الموسوعي المجدّد سماحة آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (طاب ثراه).

إنه قد رحل عن الدنيا ومؤذياتها بكل ما في الكلمة من معنى، ولكنه الأهم أنه رحل كبيراً وفرض على مخالفيه وجوده الذي أرادوا إلغاءه وكالأنبياء والأئمة من أجداده (ع).

ولعل السؤال الأهم: هل لنيل العظمة منهج يستطيع الآخرون (من المتواضعين) أن يرتفعوا به إلى القمّة كما ارتفع الإمام الشيرازي أم كان ذلك خاصاً به (قدس الله نفسه الزكية)؟

هذا ما سعى في الإجابة عليه كاتب هذا الكتاب القيم سماحة السيد محمود الموسوي البحراني (حفظه الله) والذي نجح في الإجابة كما هو كذلك في كتبه الأخرى التي أثرى بها المكتبة الإسلامية الحديثة، ويؤمل أن ينتفع الشباب منه ومنها لبناء ذواتهم إسلامياً وتوجهاتهم رسالياً ومجتمعاتهم إيمانياً وأمتهم حضارياً.

ومن أجل المساهمة في تحقيق هذا الهدف وإحياءً منها للذكرى الثالثة من رحيل الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) تقوم جمعية أهل البيت (ع) في مملكة البحرين بطباعة ونشر هذا الكتاب النافع بإذن الله.

سائلين من الله عزّ وجلّ أن يتقبل منا ومن المؤلف الجليل هذا العطاء القليل ويبعث سبحانه تعالى بأجره الكثير إلى روح أستاذنا الفقيد إمام المظلومين السيد محمد الشيرازي الكبير، وأن يوفقنا جميعاً لأداء واجب الإصلاح في الأمة، والله هو الهادي وهو المستعان.

عبدالعظيم المهتدي البحراني

رئيس جمعية أهل البيت (ع)

21/ شهر رمضان/ 1425هـ

 تقديم

 تقدّر العظمة بمقدار ما يحققه العظيم من انجازات، وتتوسّع تلك العظمة بتوسّع الإنجازات، لأن قيمة كل أمرء ما يحسنه، تلك هي القيمة الحقيقية التي يقيم بها العظماء، لا من فراغات العاطفة، وشعارات السياسة، فمن هذا المنطلق وبهذا الوثوق جاءت عظمة الإمام الشيرازي، فكانت واضحة كالشمس في رابعة النهار ،  والشمس تتحدّث عن نفسها بإشراقتها المستمرّة على الأحياء والكائنات، فكانت تأليفاته التي فاقت (1350) كتاباً، في شتى الحقول العلمية، وجاب طلابه العالم مبلغين ومجاهدين ومفكرين، وانتشرت مؤسساته في العالم في أكثر من مائة بلد .. تكاثرت الإنجازات حتى لم يستطع أي أحد أن يمنع وصول أشعتها إلى الناس.

  لقد رحل الإمام الشيرازي إلى رحمة ربه تعالى، وقد أدّى رسالته في الحياة وكان عظيماً بها .. أمّا الآن فالتحديات أمامنا أكبر، فقد ألقى علينا حجة أن المجهود الإنساني يستطيع أن يرقى إلى مدارج الكمال، أن يؤثّر في الحياة ويحفر فيها القيم التي دعى الله تعالى إليها ورسوله (ص) والأئمة(ع)، لإنقاذ الإنسان، ونصرة الإسلام.

ومأساة المجتمعات الراكدة والميتة أنها تعوّدت أن تودّع العظماء الذين عاشوا بين يديها من دون أن تكتشفهم ومن دون أن تأخذ منهم المدد الفكري لإصلاح ما فسد من أوضاعها وما مال من أحوالها، فتارة تكون النزعة الأبوية والانجذاب للمألوف سبباً في ذلك، على قاعدة (إنا وجدنا آباءنا على أمة)، وتارة أخرى يكون عدم الوعي بما هو جديد عند أولئك العظماء  وعدم معرفة قيمة ما يبشّر به للإنسانية سببا في ذلك، على قاعدة (لا نفقه كثيراً مما تقول)، وقد تكتشفهم بعدما يغيّب الموت أجسادهم، وكأن هنالك علاقة  تضاد بين وجود الجسد ووجود الفكر واتحادهم الزمني.

والإمام الشيرازي الذي رحل عنا قبل أعوام قليلة بصفته أحد العظماء النوادر والنوابغ في تاريخنا المعاصر بما قدّم من إنتاج علمي، وما قدّم من حركة ثقافية، جهادية على مستوى العالم الإسلامي، بل تعدّته إلى البلاد غير الإسلامية، عندما نضعه أمام تلك المعادلة وهي وأد العظماء وعدم اكتشافهم والاستفادة منهم إلا بعد اختفاء أجسادهم، فما هو المشهد الذي يرتسم أمامنا؟ 

لا نستطيع أن نغض الطرف عن مدى التأثير الذي سببه الإمام الشيرازي في الساحة الإسلامية وغيرها بخصوص تنامي الصحوة الإسلامية والمساهمة في خلق جيل عريض من العلماء والمفكرين والمبلغين، ونشر العديد من المؤسسات في شتى بقاع العالم، إضافة إلى ذلك الكم الهائل من الإنتاج الفكري، مما خلق موجة من الوعي في الوسط الإسلامي وسبّب نقلة نوعية لوعي المجتمعات.. وقد حقق أكثر من واحد من الكتّاب الأثر الذي تسبّب فيه الإمام الشيرازي لمنطقة الخليج والعالم الإسلامي، وتم رصد الكثير من المشاريع التي نمت في بلاد الغرب، بل وقد قام مجموعة من الباحثين بتأليف مجموعة من الكتب والدراسات في فكره السياسي والإقتصادي والإجتماعي والتجديدي، وقد تم التعريف بشخصيته الفذّة في عدّة كتب، مقالات ومحاضرات. 

فبملاحظة هذه التأثيرات لسماحة الإمام الشيرازي حال حياته وبملاحظة مدى التعريف الذي وفق له بعض محبيه ومعجبيه، قد يعتقد أنه كان استثناء من القاعدة التي ذكرناها من عدم اكتشاف وعدم اغتنام مجهود العظماء حال حياتهم، إلا أننا نرى المسألة نسبية لسماحته، فما حدث من فعل لا يقاس بما أنتج من فكر، بل أن إنتاجه وبعد عدّة أعوام من وفاته لم ينته إلى الآن، فهل وجدنا أحداً يستمر إنتاجه الفكري حتى بعد وفاته، ذلك هو الإمام الشيرازي الذي تخطى حاجز الزمن وسبقه في العطاء، فلازالت مؤسسة الرسول الأعظم للتحقيق والنشر، تحقق وتطبع كتبه المخطوطة بمعدل كل عام أربعين كتاباً.. وقد فاجئنا الإمام الشيرازي بعد وفاته بإصدار كتاب ضخم بعنوان (الفقه العولمة) الذي ناقش فيه آخر جدليات الساحة الفكرية وآخر التحولات العالمية المعاصرة، فما أنتج من كتب حول التعريف بفكره (أعلى الله درجاته) وما حصل من تأثير لمشروعه الإسلامي على الواقع، لايقاس بمدى الطموح الذي كان يصبو إليه، ولا يقاس بمدى العطاء الزاخر الذي أنتجه، فالحال هو الحال مع الإمام الشيرازي كعظيم من العظماء وعلاقته بذهنياتنا الوائدة.. فلن نكتشفه حق اكتشافه  لربما إلا بعد فترة من الزمن، فهذه الحال الذي نأمل في التخلص منها والتحرر من ربقتها، لنستفيد من العظماء حال حياتهم.

ولكي نمعن في اكتشاف فكر الإمام الشيرازي، لتستفيد منه الأمة الإسلامية، فإن مراسيم إحياء الذكرى السنوية لا ينبغي أن تقتصر على مجالس العزاء والبعد التأبيناتي وإن كان هذا البعد ذا أهمية لأن ثوابها العظيم ينتقل إلى روحه (قدّس سرّه)  كما أكدت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أن إهداء أعمال الخير للأموات تصل إليهم، ولكن ينبغي الحرص على إثراء البعد الفكري، الدراساتي لتظهير فكر الإمام الشيرازي (رحمة الله عليه) لنرمم ما تزعزع من حال الأمة بهذا الفكر الخلاق، وذلك بإعداد الدراسات الجادة، وعقد المؤتمرات والندوات وإنشاء مراكز البحوث لتأخذ مهمة الاشتغال الفكري، لتظهير الإرث العلمي والفكري الذي ورّثنا إياه، والإمام علي(عليه السلام) يقول:(العلم وراثة كريمة)، فبذلك تتكامل علاقتنا بالإمام الشيرازي القدوة والخلق الرفيع، والإمام الشيرازي الفكر الخلاق والمعالجات الناضجة، وهنالك يتوازن تعاطينا في كلا جانبيه.

محمود الموسوي

بني جمرة / البحرين

www.mosawy.org

[email protected]

 

مشروع الإمام الشيرازي

خطوات في الوعي والتفعيل

 إن العلائم والدلالات التي تثبت أن السيرة الفكرية للإمام الشيرازي، هي مشروع متكامل استوعب أهم المجالات الحياتية التي يحتاجها الإنسان في مسيرته، أوضح من أن يكتب عنها ذلك، لأن مطالعة سريعة جداً على عدد غير مقصود من كتب سماحته، ستثبت للدارس أن هنالك خيطاً جامعاً، وظلاً واحداً، ومقصداً محدداً تسير باتجاهها تلك الأفكار المزدحمة في هذا الكتاب أو ذاك، سواء كان كتاباً علمياً أو اجتماعياً أو سياسياً، فالمسير واحد والاتجاه هو الاتجاه.

ونتاج الإمام الشيرازي الفكري بكله ليس مجرد عمل فكري آني مأسور باللحظة وإملاءاتها، وإن كان هذا العمل يصدر لمعالجة مشكلة آنية ومحدّدة في زمان ومكان ما، إلا أنك تجد الربط واضحاً بين طريقة العرض، ووحدة المكونات الفكرية التي تصنع هذه الفكرة الصغيرة، هي ذاتها التي تصنع تلك الفكرة الكبرى، فعندما يعالج على سبيل المثال قضية قلّة الكتابة عند المسلمين، فإنه ينطلق من الفائدة الشخصية التي تعود على الإنسان الكاتب في الآخرة، مستدلاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)، في الوقت ذاته يمر بالرؤية الثاقبة نحو التأثير المجتمعي والسياسي، فيعرض تأثير الكتاب في محاربة اليهود في القضية الفلسطينية، وتحديات الطغاة للكتاب، وحروب المذهبيين للكتاب، فللوهلة الأولى عندما يأخذ القارئ كاتبه (طاب ثراه) الذي عنونه بـ (الكتاب من لوازم الحياة) يظن أنه سيقف أمام فوائد ذاتية وشخصية تعود على الكاتب من قبيل الثواب، وإن بالغ فإنه سيعتقد أنه سيتناول فائدة المجتمع بالكتاب لكي تعم فيه الفائدة، إلا أنه يفاجئ بانطلاق الكاتب إلى أفق أكثر رحابة ليجيرها في خدمة الأهداف الكبرى، وينقل تفكيره إلى مستويات وطموحات عالية.

إننا نجد أنفسنا أمام مشروع فكري منقطع النظير، وإنجاز علمي يعجز عنه الوصف، فهنا لابد أن نقف وقفة تفكير بحجم ذلك المشروع، ونهتم بمقدار أهمية مضامينه، خصوصاً من قبل خريجي هذه المدرسة المباركة التي خرّجت الكثير من الكفاءات العلمية من المجتهدين والعلماء والكتّاب والخطباء والباحثين، تقصد هذه الوقفة أن يأخذ هذا المشروع الفكري الكبير مجراه، بل وحقه في أوسع مساحة للوعي، التفعيل، وبهذا قد تتشكّل مراكز للبحوث ومؤسسات تهتم بذلك، وتستفيد من الذكرى السنوية التي يحتفل بها الكثيرون من مريدي الإمام الشيرازي في مختلف البلدان، لكي لا تتخذ تلك الذكرى مساراً حزيناً وحسب، ولكي لا تقتصر على الجانب العاطفي والاستئناس بما كان عليه الإمام الشيرازي من عظمة في سلوكه، وإن كان جانب التعاطي العاطفي هو من قبيل الاتعاظ بذلك السلوك، وإهداء للثواب الذي يدخل عليه في قبره، مهماً ومبرّراً، إلا أن الجانب العلمي والفكري الذي تركه قد يدخل عليه الكثير من الثواب، كما في نص الحديث النبوي : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ...)، فجانب الانتفاع له أهمية كبرى وأساسية ليأخذ ذلك الفكر مداه، وبالتالي تأخذ المقاصد الكبرى التي تتخلله مداها في العالم الخارجي .

لأن التعاطي مع ذكرى موت العظماء من العلماء، عندما يفتقر إلى التخطيط ويسلّم قياده للارتجالية والعفوية، لن يحقق ما جاء من أجله أولئك العلماء ولن يدفع باتجاه إكمال المسيرة التي آمنوا بها، عملوا من أجلها وكرّسوا كل جهد من أجل تحقيقها، تفعيلها،  لن يكون ذلك التعاطي مهما بلغ من فائدة بالمستوى الدّقي، المطلوب.

لقد تعودنا على أن نؤبن علماء الدين من دون النظر الجاد في نتاجهم الفكري، ويغلب على تأبيناتنا طابع الحزن وإحياء الذكرى من أجل عدم نسيان ذلك العالم، وفي المقابل نجد أن الأوساط الفكرية العربية وغيرها عندما تريد إحياء مناسبة لأحد المفكرين، فإنها تعقد الندوات المتخصّصة لمناقشة البحوث المتنوعة في نتاج ذلك المفكّر، على الرغم من أن في علماء الدين من هم أكثر إنتاجاً وأعمق مقصداً وأنضج فكراً من أولئك، فلم تكن هنالك عادة إحياء الرجل بإحياء علمه وفكره، فكم من عالم نحرير قد طوته ذاكرة النسيان، وكم من مخطوطات ثمينة لعلماء قد أكلتها دودة الأرض، وأمثلة الاهتمام الفكري كثيرة، منها ما يعقد بمناسبة مرور 100 عام على وفاة عبد الرحمن الكواكبي مثلاً ،فقد عقدت مجموعة ندوات في عدّة بلدان، منها البحرين، يدعى لها جمع من المفكرين المتنوعين، وبرعاية مركز دراسات وبحوث، ليتداولوا كتاباً يعتبر فريد من نوعه رغم قِدَمه وهو (طبائع الاستبداد)، وقد أكّد على هذا البعد الباحث الدكتور محمد جابر الأنصاري عندما أرادت إحدى الجهات الرسمية في البحرين أن تكرّمه على نتاجه الفكري الغزير، أبدى استعداده ،ولكن على أن يتم التكريم بشكل مختلف، وهو أن تعقد ندوتان لمناقشة النتاج الفكري، ويتم دعوة مفكرين وعلماء من مختلف الأقطار ومختلف التوجهات، فكانت مناقشة جادة أطلّت بالأنصاري على الجمهور بصورة المفكر، وأقبل مجموعة من الناس على قراءة نتاجه لمعرفته، هذا فضلاً عن استفادته شخصياً من هذا التداول.

وفي المقابل أذكر مثالاً من البحرين عن العلامة الشيخ حسين العصفور، وهو أحد مراجع التقليد في المنطقة من قبل مائتي عام، وإلى الآن مازال له مقلدون باعتباره يجيز تقليد الميت ابتداء، فقد كانت للعلامة العصفور دورة فقهية استدلالية متميّزة وقد شهد لها بعض الفضلاء بذلك، ولكن مرّت مائتا عام ولم يحرك سكونها أحد، وبقيت ضمن المخطوطات في رف قديم، وفي السنوات الأخيرة حاول جمع من العلماء أن يحققوها ويخرجوها إلى النور، وبالفعل خرج منها سبعة أجزاء بعنوان (الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع)، وتوقفت بعد ذلك بقية الموسوعة، وهكذا الحال مع كثير من العلماء، وبعضهم كانت لهم رؤية متقدّمة سيستفاد منها في عصرنا الحاضر إذا قيّض لها رؤية النور.

إن أحوج ما نحتاج إليه في تعاملنا مع شخصية عظيمة، تميّزت بغزارة العلم، وسعة في الجهاد كالإمام الشيرازي (رحمه الله) هو أن لا نضيّع الفرصة في إبراز الفكر، علينا أن نفكّر في الأسلوب الأمثل والطريق الأنسب الذي يتفق مع روح  وماهية المادة التي نتعامل معها، وإن كانت بأساليب وطرق متعددة، فالمهم أن نتعاطى بقدر العطاء، وأن نمارس التعاطي بقدر الإيمان بأهميته.

 

مبرر الاشتغال الفكري

لقد قال الإمام علي (عليه السلام) : (العلم وراثة كريمة)، وقد كان أكبر عطاء لدى الإمام الشيرازي هو تأليف الكتب، التي صبّ فيها علوماً جمة، وهي الامتداد الذي لا ينقطع عن الدنيا بانقطاع عمل الإنسان عنها، وهو الجهد الذي بذله من أجل الصياغة الجديدة لعالم الرفاه والسلام،  من خاصية الإرث أنه ينتقل إلى الآخرين لكي يدفع بالحياة للاستمرار، وهكذا هو العلم بعد موت العالم، فلابد أن ننتحله بعد أن ننقّب فيه ونتداوله لنكتشفه، ونكتشف الرسالة التي أراد الإمام الشيرازي أن يوصلها للأجيال من بعده.

فلقد كتب الإمام الشيرازي أكثر من (1350) كتاباً دوّن فيها مجموعة فكرية هائلة حتى عدّ نادرة في التأليف، ولقد وقف كثير من الباحثين أمام هذا الكم الكبير من الكتب وقفة تعجّب وذهول، حتى بلغ الوصف إلى حدّ أن يطلق عليه بالعمل (الإعجازي) الذي يفوق قدرة البشر العادية .

 ينقل لنا الكاتب المسيحي أنطوان بارا الذي كانت له ذكريات مع الإمام الشيرازي في الكويت : هذا الإحساس بقوله : (ولا نكون مغالين لو قلنا أن الجهاد الفكري الذي قام به الراحل كان فوق احتمال البشر، فألف كتاب ونيّف ليست نزهة فكرية على مدى خمسين عاماً ،بل معاناة متصلة في الصحو والمنام، فمن لا يعرف صعوبة الكتابة والتأليف لا يعرف حجم ما عاشه الإمام الراحل من مكابدة، فلو جمعنا خمسين مؤلفاً وطلبنا منهم أن يؤلفوا نصف هذه الكتب خلال خمسين سنة لعجزوا عنها، فكيف استطاع العقل الملهم للسيد الشيرازي أن يحيط بكل هذه العلوم والأحكام، أليست هذه العلامة تشير إلى جوهر فكره وروحه الخلاّقة التي أخلصت للروحانيات وارتقت عن مطامع الدنيا فتمكنت بما نفحه الله تعالى من صفاء رؤية وجلاء نظرة أن تصل إلى ما وصلت إليه من إنجاز فكري قل نظيره لا في عصرنا فحسب بل في كل العصور)(1).

أليس هذا الكم الكبير الذي يذهل الكتّاب يكون خير مبرر لكي يولي هذا العلم الجم الأهمية البالغة، القصوى من قِبَل الباحثين.

  

تنوّع التعاطي

لقد تناولت الكتب التي ألفها الإمام الشيرازي وسيرته مجموعة من المحاولات، الإشتغالات  الفكرية وغيرها من عدد ليس قليلا من المفكرين والعلماء والباحثين، في كتب ومجلات وصحف ومواقع على الإنترنت، ومحاضرات وندوات ومؤتمرات، فشكّل هذا  التعاطي مع الإرث العلمي والفكري للإمام الشيرازي، تنوّعاً واسعاً وحيوياً.

ومن تلك الأنواع، البعد الذي تناول الكم الهائل من الكتب، وما يثير ذلك الإنجاز من دلالات العظمة، مثل مطبوعة (نادرة التأليف) وهي إحصاء عددي ورصد لعناوين الكتب التي ألفها الإمام الشيرازي، وككتاب (الكتاب في فكر الإمام الشيرازي) للكاتب حسن آل حمادة الذي تناول فيه دراسة ببلوجرافية عن مؤلفات الإمام الشيرازي ورؤيته حول الكتاب والتأليف، وكذلك الدراسة التي كتبتها في كتيب بعنوان (معالم العظمة) دراسة إحصائية في مؤلفات الإمام الشيرازي.

وهنالك دراسات أخرى هي التي تناولت الفكر بشكل تجزيئي، عبر دراسة بعض المفردات في رؤية الإمام الشيرازي، مثل (الأصالة والحداثة في فكر السيد محمد الشيرازي)(2)، لسماحة  الشيخ فيصل العوامي،  كتاب (مسائل التجديد)(3) لسماحة الشيخ عبد الله اليوسف،  (الحرية في فكر الإمام الشيرازي)(4) لعادل علي عجيان، و(السيد محمد الشيرازي ونظرية اللاعنف المسالمة)(5) للكاتب د. سعد الإمارة،  (ماذا عن العولمة في فكر الإمام الشيرازي؟)(6) لراجي أنور هيفا، أو حول قضايا محدّدة، مثل القضية العراقية والفلسطينية، وفي هذا المجال كتب مختار الهاشمي (القضية العراقية في فكر وكتب الإمام الشيرازي)(7).

ومن الدراسات ما ألقى الضوء على المواصفات العامة والخصائص المشتركة لفكر الإمام الشيرازي، مثل (السيد محمد الشيرازي ملامح الشخصية وسمات الفكر)(8) للشيخ حسن الصفار، (الإمام الشيرازي وآفاق الانفتاح المعاصرة) للدكتور ساعد الجابري،  كتاب (الإمام الشيرازي، فكره،منهجه، مواقفه) لعبد الحليم محمد.

وهنالك تعاط آخر سلّط الضوء على شخصية الإمام الشيرازي وسماته، وسيرته، وتاريخه، وعائلته، وهي أشبه بالترجمات والخواطر، والقصص الوعظية المستلهمة من طريقة تعامل الإمام الشيرازي مع من حوله، وذكريات ومشاعر، مثال ذلك، (كذلك كان وكذلك فلنكن)(9) لآية الله السيد مرتضى الشيرازي،  (وللشمس صور أخرى) للشيخ علي عبد الرضا،  (محطات من الذاكرة .. لله وللتاريخ) لمحمد تقي باقر،  (الإمام الشيرازي .. فقيه الزمان وسلطان المفكرين) لأنطوان بارا، وكتاب (التسقيط) من تأليف سماحة الشيخ عبد العظيم المهتدي البحراني، تناول فيه خطر الفكر التسقيطي والتحديات التي أحاطت سيرةالإمام الشيرازي وحكمته في التعامل مع ذلك.

وكان للبعد الأدبي الشعوري المتمثل في القصة والشعر والخاطرة نصيب في التعاطي مع ذكرى الإمام الشيرازي، وشخصيته وفكره، مثل (كف اليراع)(10) شعر لفريد النمر، و(رحيل أمة)(11) شعر لجاسم الصحيح،  كتاب (مظلومية رجل)(12) لجمال حسين آل إبراهيم، وهو عبارة عن مجموعة قصص قصيرة، وغيرها .

ووجه آخر من أوجه التناول الفكري هو دراسة الآثار والإنجازات الواقعية التي حققها الإمام الشيرازي وخطه الفكري في الأشخاص والمجتمعات والحكومات، مثل كتاب (مرجعية الإمام الشيرازي، عمق التحولات وآثار النهضة) لمحمد العليوات، يهتم بدراسة الآثار الثقافية والاجتماعية والسياسية في منطقة الخليج ، ، (رصد الحركة الفكرية للإمام الشيرازي في البحرين) لحسن الغسرة،  كتاب (معالم مرجعية الإمام الشيرازي في القطيف) لجهاد الخنيزي.

ولقد كان للحوارات والندوات والمؤتمرات دور في تناول المدرسة الفكرية للإمام الشيرازي، مثل الندوة التي عقدت في القطيف بمشاركة الشيخ يوسف المهدي في مسجد الإمام الحسن (ع) في 7/10/1423هـ، وفي نفس التاريخ في منطقة أم الحمام في المنطقة الشرقية من السعودية، عقدت ندوة بمشاركة سماحة الشيخ عبد العظيم المهتدي من البحرين، والأستاذ صالح عاشور النائب في البرلمان الكويتي، ومؤتمر الإمام الشيرازي الأول، والثاني المنعقد في العام 1423هـ، 1424هـ برعاية جمعية الرسالة الإسلامية في البحرين، وبمشاركة العديد من الباحثين والعلماء، والندوة التي شارك فيها الشيخ فيصل العوامي بمنطقة الكويكب بالقطيف تحت عنوان (المدرسة الشيرازية بين الاستمرار والتوقف) بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الإمام الشيرازي والتي تحوّلت إلى كتاب بعد ذلك، وقد كانت هناك حوارت مكتوبة لمجموعة من العلماء، وكذلك انتشرت المهرجانات الخطابية في بلدان كثيرة من العالم احتوت على مجموعة من المحاضرات التي تتناول حياة الإمام الشيرازي، في إيران وسوريا والعراق مؤخراً، وبعض الدول الغربية.

ومن ضمن الاهتمامات التي كانت بارزة هي عرض كتب الإمام الشيرازي والقراءة فيها في الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت للتعريف بها وبمضامينها، مثل (فقه العولمة) كتب حوله عدة من الكتاب مثل عباس الجمري ، وبشير البحراني، وحسن آل حمادة، نشر كل منها على التوالي في صحيفة الوسط البحرانية، ومجلة البصائر الفصلية، ومجلة الكلمة الفصلية، وهكذا بقية الكتب.

  

خطوات مقترحة

  بذلك يعتبر الإمام الشيرازي استثناء في خلق المجال التداولي لفكره، خصوصاً بعد وفاته، وهذا يرجع للنشاط الذي قام به في تأسيس حركة اجتماعية وسياسية  وثقافية واعية في مناطق كثيرة، تخرّج منها مجموعة من العلماء والنشطاء والكتّاب والخطباء، تحمّل كثير منهم مسئولية رد الجميل وتبليغ الرسالة التي آمن بها الإمام الشيرازي، وآمن بها مريدوه، وإننا إذ نثمّن الجهود التي تبذل في هذا المجال ونقر بتميّز كثير منها، خصوصاً تلك التي جاءت على شكل دراسات جادة أو ندوات حوارية ومؤتمرات متخصصة،  إلا أننا لابد أن نولي المزيد من التفكير في خطوات جديدة، من أجل تخطّي تجارب السابقين الفاشلة، لكي لا نكررها في تعاطينا مع هذا الفكر الكبير.

وهنا أضع بعض المقترحات في طريق الوعي بمضامين فكر الإمام الشيرازي والمساهمة في تفعيله في زمن متغيّر، وقد ابتنيت هذه المقترحات على أساس النظر للنتاج الفكري وميزاته العامة والجامعة التي تميز بها والدخول من خصائصه التي قد نستنتجها من قراءتنا للفكر، فلم نر بحثاً في سمات النتاج الفكري، خصائصه، كنتاج لا كمضامين، فهناك دراسات ركّزت على السمات الفكرية للإمام الشيرازي، ويقصد بها المقاصد والآراء التي كان يراها، ولكننا هنا نقصد سمات الإنتاج في الكم والأسلوب وما يرتبط بالزمن وغير ذلك، مما كان للظروف تأثير عليها، أو ما شابه ذلك .

 

ومن تلك المقترحات :

الأول : لقد كان الإمام الشيرازي يسابق الزمن من أجل أن يخرج ما في وسعه إخراجه من آراء ليخدم بها أكبر عدد ممكن من الناس، وليعالج أكثر عدد ممكن من القضايا، وقد كان هذا السباق على حساب فنيات الأسلوب، لما تقتضيه هذه المادة أولتك، وقد عبر الإمام الشيرازي عن هذه المسألة كما نقل لنا ابنه سماحة آية الله  السيد مرتضى الشيرازي بقوله بالمعنى : أنني لا أهتم بالأسلوب (التزويق في الألفاظ كثيراً) فهذا أتركه لكم.. أي أن الإمام الشيرازي يريد أن يعطي علماً وفكراً ومضموناً أكثر من اهتمامه بالأسلوب الذي بدوره يأخذ وقتاً من الكاتب وبالتالي سيكون على حساب عدد الأفكار والرؤى، ومن هنا فإن النتاج الفكري للإمام الشيرازي يحتاج إلى إعادة أسلوب، وبالطبع ليس جميع الكتب، بل تلك التي تتسم بالسرعة أو تلك التي كتبت على هيئة نقاط سريعة لحل مشكلة ما، أو نقل عن محاضرة صوتية لسماجته..ويبقى أن في كتب سماحته ما هي رصينة وراقية.

الثاني :  كثرة التأليف وطول مداه الذي استمر لأكثر من خمسين عاماً، لا شك سبّب في نسيان بعض الكتب القديمة من ذاكرة المجتمع، والتي هي محل ابتلاء أو محل حاجة في عصرنا الحاضر، لأن الإمام الشيرازي كما عرفناه قد تناول الكثير من الأفكار في زمن متقدّم قبل أكثر من ثلاثين عاماً، سبق بها الطروحات الفكرية الأخرى التي جاءت متأخرة عنه، ولكنها محل اهتمام وفائدة، مثل ذلك جدلية الفقيه المثقف التي عالجها في كتاب (المرجعية الإسلامية) عندما كان في كربلاء، وهي جدلية أخذت أقل من عقد من الزمن فقط في تداولها ومازالت، وكذلك كتاب مثل (القواعد الفقهية) الذي كتبه الإمام الشيرازي في كربلاء، باتت الحوزات العلمية الآن بحاجة إلى تدريس هذه المادة العلمية، فقد صدر كتاب جديد بعنوان (دروس تمهيدية في القواعد الفقهية) للشيخ باقر الأيرواني، لاقى رواجاً في بعض الحوزات، يذكر فيه مؤلفه قلّة الكتابة في هذا المجال وذكر أن الفقهاء لم يخصصوا بحثاً بهذا العنوان بل يناقشون القواعد الفقهية ضمن مادة الأصول أو الفقه، وقد أشار لمحاولتين متأخرتين، لم تكن محاولة الإمام الشيرازي التي سبقتهم جميعاً من ضمنها، فاستخراج الكتب النوعية التي كتبت قديماً أمر نحن بحاجة إليه، لتدخل نطاق الفائدة العامة والجديدة، ولتكون متواجدة في الأوساط الثقافية والعلمية.

الثالث : تلك السعة التي كانت بها مؤلفات الإمام الشيرازي من الصعب أن يطلع عليها من يريد أن ينفتح على ذلك الفكر، كما أنه من الصعب الحصول على ذلك الكم الهائل من الكتب، إما لعائق مادي أو لعدم توفرها جميعاً في زمن متقارب، وعليه فإن هناك ضرورة لتلخيص مجمل فكر الإمام الشيرازي في شتى المجالات والأبعاد بأسلوب غير مخل بالمطالب والأبحاث، لتكون مرجعاً عاماً يمكن لمن أراد الإطلاع عليه أن يكتفي به، خصوصاً للآخر الذي لم يطلع من قبل على فكر الإمام الشيرازي، وسيبقى وجود المؤلفات نفسها لمن أراد التوسع.

الرابع : التجارب التي يمكن أن يستلهمها المفكرون والعلماء من تجربة الإمام الشيرازي في مسيرة الاجتهاد والتفكير هي في طريقة تعامله مع الواقع من جهة ومع الفكرة من جهة أخرى، ومعرفة مدى ارتباط الفكرة بالواقع في المؤثرات وتناول الأبعاد والتفريعات وغيرها، فمن البحوث الجديدة التي يمكن أن تقترح في هذا المجال هي دراسة ارتباط الفكرة عند الإمام الشيرازي بالواقع وبالمتغيرات، ودراسة نوعية ذلك الارتباط، ومدى التغيير الذي حدث في الفكرة (إن وجد) وما هي مسبباتها.

الخامس : النظريات لا شك أنها تعبّر عن نفسها، وهكذا عبّرت نظريات الإمام الشيرازي عن نفسها وعن واقعيتها ومصداقيتها في الكثير من الجوانب، إلا أن البحوث المقارنة أو العرض المقارن مع المماثل يعمل على تجلّي النظرية بأفضل صورة، ويتيح المجال للقارئ معرفة مكامن القوة فيها، هنا تنبثق أهمية البحوث المقارنة التي تتناول فكر الإمام الشيرازي مع ما يماثله من نظريات.

السادس : لقد أسس الإمام الشيرازي مدرسة واسعة عبارة عن ثروة بشرية منتشرة في أرجاء مختلفة من العالم، وهي مختلفة في أفهامها بشكل عام، ولا شك أنه سيوجد من يختلف فهمه لنظرية ما أو لرؤية ما عن الآخر، فقد يحدث مثل هذا خصوصاً مع مرور الزمن، وهذا الباعث، إضافة إلى مؤثرات المنطقة التي يعيش فيها اجتماعياً وسياسياً، سيكوّن اختلافاً في فهم فكر الإمام الشيرازي ومفرداته، ولكي تتقارب المسافة بين الأفهام في المدرسة الواحدة ،ينبغي تغذية الجانب التداولي والتركيز على بعد المناقشة والحوار في هذا الفكر، للوصول إلى فهم مشترك يقارب المسافات بين الأفهام .

السابع : من الملاحظ أن طريقة الإمام الشيرازي عادة هي الكتابة الموسوعية في كثير من الكتب، بحيث يجمع جميع المسائل المتعلقة بموضوع ما ولو كان عبادياً، فإنه ينطلق منه لمعالجة مسألة قانونية أو سياسية أو فكرية، كما في كتاب الطهارة من الموسوعة الفقهية في مبحث (كراهة الوضوء بالماء الذي أسخنته الشمس) ينطلق الإمام الشيرازي ليعالج المسألة في الدولة الإسلامية وكيف يمكن سن قانون يحضر أن تكون خزانات المياه معرضة للشمس، ويعالج المسألة مقارنة بالفكر الاشتراكي ..

وعلى ذلك فهناك العديد من البحوث التي يمكن أن نسميها (ضائعة) أو غائبة في ثنايا الكتب الكبيرة، وعلى الأخص في الموسوعة الفقهية، يمكن أن تستخرج هذه البحوث لتطبع مفردة أو بمعية بحوث مشابهة، استظهاراً لها من أجل أن تعم الفائدة، ولتكتمل بعض البحوث التي بحثها الإمام الشيرازي، ونرى إشارات كثيرة من سماحته بخصوص ذلك عندما يبحث بحثاً معيناً، ويريد التفريع فيه يتوقف فيحيل القارئ لبعض كتبه التي يسميها حيناً ويسكت عنها حيناً آخر، كأن يقول (وقد عالجناه في كتبنا)..

الثامن : لكي يستفاد من الكم الكبير جداً لابد من إجراء عمليات تيسّر الوصول للمطلوب، لهذا تحتاج الأفكار والكتب لسماحة الإمام الشيرازي إلى فهرسة متعددة الجوانب، تعمل بعضها ـ مثلاًـ على تقسيم  الأفكار على أساس موضوعي، لمعرفة السعة الشمول الذي تحدث حوله سماحته حول كل موضوع، وما شابه ذلك من فهارس.

وفي الختام .. فنحن أمام نتاج فكري ضخم، وستكون متطلباته في الوعي، التفعيل بمقدار تلك الضخامة، التي ينبغي أن تكثّف فيها البحوث، خصوصاً حول كيفية الاستفادة المثلى من ذلك النتاج، وكيف نقّدمه بصورة مقبولة في الساحة الفكرية والعلمية والاجتماعية.

المظلومية

وذاكرة تروم الخلاص

المظلومية ليست عبارة أو مفهوماً يمكن أن يختلف أو يتفق عليه طرفان، بل هي تعبيراً عن واقع مشحون بمتناقضات، ويتكون من أجزاء شاهدة عليها أو حاضرة فيها، تلك الأجزاء هي: الذين قاموا بالظلم، والذين وقع عليهم فعل الظلم، والمشايعون لكل طرف، والشاهدون على الموقف، الساكت منهم والمنصف.. إنه واقع يتشكّل من عدة أطراف يمثلها الإنسان الذي يمتلك الروح والنفس بمختلف أحوالها الأخلاقية.

لذلك فإننا نجد أن الحديث عن المظلومية عندما تتجسد في رجل أو تيار أو فئة، فإنها لابد أن تخلق واقعاً خلافياً تتضارب فيه الآراء وتتصارع حوله الإرادات، ولا نحتاج إلى دليل على ما نقول إلا استدعاء واقعة تاريخية ما، مثل كربلاء الإمام الحسين (ع) وكيف وقع الظلم عليه وعلى من شايعة، لنرى أن الخلاف بين المنتمين للطرف الذي مارس الظلم، يستدعون كل قوة لديهم لنفيه عمن يوالون رغم وضوح صورة المظلوم، وهكذا هي جميع المشاهد التي لطّختها صفة الظلم في واقع المجتمعات، ويزاد الأمر تعقيداً عندما تكون للظالم بقية باقية وامتداد فكري.

ولا أحد يسوؤه الجهر بالمظلومية إلا من مارس الظلم أو شارك فيه أو كان شاهداً ساكتاً عليه، فإن كان ممن تابوا وأنابوا وبدّلوا مسلكياتهم وتخلّوا عن سلاحهم، فسوف تأخذه العزة بالإثم، ويلجأ للتبرير عن أفعال الماضي، وإن كان ممن لازالوا يحملون سلاح الأمس، فهم يعتبرون أنفسهم الطرف المعني بالحديث، ولا من شك أن أحداً لا يريد أن يكون في موقع التهمة أو الظلم.

ولا شك أن أي عمل يشق طريقه نحو الإنجاز، إنما يحتاج إلى الدوافع من جهة وإلى عدم الموانع والمعوقات من جهة أخرى، ولو قمنا بملاحظة ما أدّاه الإمام الشيرازي وكوادر مدرسته لعرفنا أن هذا الإنجاز إنما هو ضرب من ضروب العظمة، حيث قابل سماحته كل التحديات الداخلية والإجتماعية بصدر رحب، وكان شعاره (ينتظرون منك كل شئ، ولا تنتظر من أحد شيئاً)، (يقولون فيك كل سوء ولا تقل في أحد سوءاً)(13)، فهو يحسن لمن يسيء إليه، ويدعو مريديه إلى التعامل الحسن مع الذين يقفون حجر عثرة في وجه المشاريع الخيرية والثقافية وغيرها، لتوخّي النزاع والتصادم فيما بين أفراد المجتمع الواحد، كما قال تعالى : (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ..

 

مظلومية الإمام الشيرازي

لو نقرأ المعاناة التي ألمّت بالإمام الشيرازي منذ بروزه  في مدينة كربلاء المقدّسة وحتى آخر عشر سنوات تقريباً من عمره، سوف نجد أنه مرّ بعقبات ومعوقات كبيرة من صنع الإنسان تمثلت في مجموعات  جمعهم (الحسد، والجهل) كان اولها عذاباته مع الذين لم يستوعبوا مشاريعه الناهضة بالأمة، وتصديه لآلام الناس والمجتمع، وقد سطرها في مقدّمة كتاب (مباحثات مع الشيوعيين)، والمعاناة التي نقصدها هي تلك التي أفرزها المجتمع عبر مجموعة من رجاله، لا تلك التي ترتبط بالحكومات، فهذا يحتاج إلى مجال آخر لبحثه.

عندما بدأ سماحته بواكير أعماله في كربلاء بإصدار مجلة (أجوبة المسائل الدينية) يقول سماحته (وقد أثارت إصدار هذه المجلة موجة من الشكوك وعلامات الاستفهام، كان ورائها بعض الأغراض)(14)، وكذلك يكرر الجملة في تأسيس مدرسة الإمام الصادق، والجمعية الإسلامية الخيرية وغيرها، ورغم ذلك إلا أن سماحته واصل تقدمه ونجاحه في خدمة الدين وخدمة الناس، وقد لاقى فكره صدى واسعاً في الكثير من بلدان العالم، ولكن المضايقات والاتهامات والتهميش والإلغاء كان يلاحقه ويلاحق مريديه في كل مكان، ولا نريد هنا أن نؤرخ لمسيرة المظلومية وتفاصيلها فإنها تحتاج إلى جهد كبير، ولكننا نناقش هذه الظاهرة وبعض وجوهها وإفرازاتها على الواقع.

لم تقتصر المظلومية على شخص الإمام الشيرازي، بل تعدّته إلى مدرسته وتياره الذي يتمثّل في مقلديه ومريديه والمنتمين إلى دائرة فكره ولو كان من غير مقلّديه، ولأن مساحة تأثير فكر الإمام الشيرازي الذي يعبر عنه بالمدرسة الشيرازية واسعة الإنتشار، وتجد لها في كل بلد موطئ قدم، فإننا نجد أن المظلومية منتشرة معها، ومن هنا تأتي أهمية المصارحة في هذا الأمر بالقدر الميسور اجتماعياً بعيداً عن الشخصنة والإشارة إلى أشخاص أو فئات، لكي نتمكّن من تخطي هذه الحالة، ولكي تسجّل مظلومية أحد عظماء الدين وتياره كما ينبغي، لأن لها مدخلية في إبراز عظمته وتحديه لكافّة المعوقات، وإحقاق حقيقة ومعالجة معظلة إجتماعية تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية، لذا نجد أن القرآن الكريم يقول لنا : (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من مظلم) .. فإن الجهر بالسوء في عملية توصيف الظلم هو أمر مستثنى، وهذه دلالة على أهمية أن ندرس الظلامات، ثم نطهّر مجتمعاتنا وأنفسنا منها، ومن تكرارها على الآخرين.

 

أبعاد في المظلومية 

لقد تمثّلت مظلومية الإمام الشيرازي في عدّة صور، وأخذت عدّت أبعاد، شملته (طاب ثراه) كشخص، وكفكر، وتيار، ومريدين ومشاريع، والغريب في الأمر أنك تجد أن هناك خيطاً جامعاً بين كل تلك الأشكال يتسرب إلى كل دولة يتواجد فيها الفعل الشيرازي، فعلى سبيل المثال، تهمة عدم اجتهاد الإمام الشيرازي نراها استمرت في مدّة معيّنة، وقد شملت كل البلدان، إلى أن انتهت بعد افتضاح أمرها من المزّورين وأصحاب المصالح، والحاقدين، وبعض المتنافسين، وهكذا هي بقية الأشكال، ولعل ذلك راجع إلى أن هنالك اتفاقاً خفياً يحاك من خلف الستار من دون شعور الناس، ولعلّه من دون شعور بعض المشتغلين بتشويه صورة المدرسة الشيرازية.

والأمر الآخر الغريب هو سريّة مجابهة التوجه الشيرازي في مختلف المناطق، وفقدان شجاعة الإعلان، رغم أن بعض السلوك الرافض للتعاون مثلاً مع المدرسة الشيرازية بشكل عام  قد يكون يظاهراً على السطح  إلا أنه عادة ما يتدرّع بأسباب واهية ومشككّة، حتى أن أحداً لم يجرؤ البتة على كتابة كتاب واحد يعرض فيه متبنياته بشكل صريح، ولعلّ ذلك راجع إلى تلبّسهم بالخوف وعدم الثقة.

 تجلّياتها في المجتمع

سادت مظلومية الإمام الشيرازي وتياره في مجتمعات شتّى إلا أنه كما ذكرنا هنالك الكثير من التشابه، فقد تقوم مجموعة منظّمة بنشر إدعاءات كاذبة حول المنتسبين للمدرسة الشيرازي أو التيار الرسالي ،  لكي ينفر منهم الناس، وعادة يقومون بتخويف الناس، أو بتشكيكهم .. وقد يقوم أستاذ في حلقات دراسية بشحن مجموعة من الشباب ضدّ المدرسة الشيرازي لينخرط في عمل تنفيري تحت غطاءات متعددة، أو التوجّه نحو المقلدين بغية العدول والترك، وهكذا يحصل في صلوات الجماعة، وبعض المشاريع العامّة.

وقد تجلّت التحديات في الشئون العلمائية، فقد تجد أن بعضهم يسر لمريديه بحكايات من نسج الخيال، أو أن تقوم الحوزات العلمية بعدم قبول طلاب العلوم الدينية المنتسبين للمدرسة الشيرازية، أو منعهم من الحقوق الشرعية أو ما شابه ذلك، أو تجاهل كفاءاتهم، تهميشهم.

كما أن الكتب التي ألفها الإمام الشيرازي قد شنّّت عليها حرب ضروس، فهي تمنع من المكتبات المسجدية والحوزوية، ويمنع الناس من قراءتها أو الإستماع إلى المحاضرات التي تصدر من المدرسة بشكل عام ..

وحتى الأجواء العلمية والثقافية لم تبرء من هذا الداء، حيث تجد أن بعض المؤلفين يكتب كتاباً عن الفقه الشيعي ويرصد الرسائل العملية للفقهاء، فيستثني رسالة الإمام الشيرازي، وعندما يذكر الموسوعات الشيعية الإستدلالية فإنه يسهب في ذكر الكثير منها ولو كانت من جزئين، إلا أنه لا يعرّف الموسوعة الفقهية الإستلالية للإمام الشيرازي إلا في سطر ونصف، رغم أنها تعد أكبر موسوعة علمية على الإطلاق حيث بلغت أكثر من 150 جزءاً، وهكذا رأينا بعض الذين يتحدثون عن نظريات الحكم عند فقهاء الشيعة، يدير وجهه لنظرية شورى المراجع،  لا يذكرها ولو نقداً، وآخر يرصد اسهامات العلماء الشيعة في الوحدة الإسلامية، ويستثني نظرية الإمام الشيرازي فيها، برغم أنه كتب أكثر ممن ذكر كمّاً، وامتازت رؤيته بشمولية تخدم البحث بشكل كبير!

وهكذا هنالك الكثير من مثل ذلك، إلا أن هناك بعض المنصفين خرجوا مؤخّراً، ليتناولوا نظريات الإمام الشيرازي ورؤاه وفتاواه ضمن تناول النظريات والرؤى المختلفة من دون حواجز نفسية أو سياسية أو غيرها ..

 

 مفارقة بحاجة للتأمل

ظهرت بعض المفارقات التي تحتاج من العقلاء إلى التأمل والوقوف عندها للإستفادة من مدلولاتها، وهي كثيرة، إلا أننا نركز على واحدة منها، وهي المشهد الذي ينبغي أن يرتسم في أذهان الناس بعد الأحداث التي وقعت بعد وفاة الإمام الشيرازي (رحمه الله تعالى)، فقد تبرّع مراجع الدين العظام، والفقهاء والعلماء بمختلف توجهاتهم بإصدار البيانات التي تعبّر عن المواسات مع فقيد العلم والجهاد، حيث اشتملت تلك البيانات على شهادات ومواصفات للإمام الشيرازي كما يراه المراجع والفقهاء، أنه رجل علم واسع العطاء، ومرجع تقليد ومجاهد كبير، وعالم دين  وخادم أهل البيت (ع) بكل شيء(15)، مع اعتقادي أن العظيم تتحدثّ عنه عظمته .. ألا يدعو الكثيرين ممن ساهموا أو عرفوا عن مظلومية الإمام الشيرازي وادعاءات المدّعين، إلى أن يعيدوا حساباتهم ويفكّروا جلياً في معنى ذلك، ألا تعطي هذه المفارقة دلالات يمكن أن يستفيد منها الإنسان لمستقبله ؟

و ماذا بعد ..

يس المقصد من هذا المبحث أن نثير دفائن النفوس، أو التصدّي لمن كان قد أسهم في التعويق والظلم، وإنما لكي نسجل هذه الحقيقة التاريخية، ونصل مرحلة نتخطّاها عبر استذكار ما جلبته للمجتمع من تشتت وفرقة، وما أملته من تأخّر وتراجع للمجهودات التي تنتظرها الأمة الإسلامية في شتّى الميادين، فالذاكرة إنما المطلوب منها أن تعيش حياة جديدة وبنظرة جديدة تتخطّى كل ترسبات الماضي، وهذا ما هو مطلوب من الآخر المختلف مع المدرسة الشيرازية في تبنياتها وفي طريقة معالجتها، لتنتشر ثقافة التعدد في المجتمع الواحد وقبول المختلف وسيادة جو الحوار والتقارب والتعاون في الخيرات..

فهناك ذاكرة تروم الخلاص من آلام الماضي وقسوته، وذاكرة عليها التخلّي عن شوائب الماضي والإنفتاح، والذاكرة الأولى بحاجة  للإنطلاق إلى رحاب الإنجاز، عدم التجمّد في واقع الألم، والذاكرة الثانية تحتاج إلى تصحيح الرؤية والمسار. 

   

ملامح المرجعية القيادية

عند الإمام الشيرازي

 قلّة هم أولئك المراجع الذين يحملون همّ الأمة الإسلامية بما يتشعب ذلك الهم من جوانب ومسئوليات، وقلّة هم أولئك الذين أعطوا رؤية مؤصّلة من الدين لقضايا الأمة الإسلامية التي تعصف بها بين الحين والآخر، ولعل ذلك راجع إلى ما يحتاجه ذلك الجهد من عمق علمي، واستيعاب للحوادث الواقعة (القضايا المعاصرة)، ومقدرة على استنفاذ ذلك العلم في تلك الحوادث، بل ويحتاج إلى الشجاعة وروح التضحية، والاستغراق في الهم الديني.

والأقل منهم أولئك الذين يتصدّون ويتحملون المسئولية الإلهية بأنفسهم وقدراتهم وما يستطيعون من قوة.

وكأمثلة على أولئك (السيد محمد المجاهد، الذي حمل السلاح وقاد الجيوش، للزحف على روسيا القيصرية، عندما بسطت سيطرتها على بعض بلاد إيران.

وهذا هو السيد محمد حسن الشيرازي، الذي حارب الاستعمار البريطاني، وطارده من إيران، عندما كان يتسلل إليها بواسطة احتكاره شركات التبغ .

وذاك الشيخ محمد كاظم الخراساني، الرجل الذي قاد الشعب الإيراني لضرب دكتاتورية الاستبداد الفردي الملكي ..

وذلك الشيخ محمد تقي الشيرازي، الذي فجّر ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني في العراق .. وبعده السيد أبو الحسن الإصفهاني .. والسيد عبد الحسين شرف الدين الذي حارب الاستعمار الفرنسي.. وذلك السيد البروجردي الذي جاهد ضد البهلوي...)(16).

وهذا هو الإمام الخميني الذي قاد الثورة الإيرانية ضد الشاه، وكوّن دولة إسلامية ..

فأولئك هم المراجع القادة التي تجلّت فيهم روايات أهل البيت (عليهم السلام) من مواصفات للفقهاء وعلماء أمة محمد (ص)،  كما في الحديث : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)(17)،  (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(18)، وقول الله عز وجل : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون)(19).

وما من شك أن أوضاع المسلمين التي وصلت في بعض الأزمنة إلى حالة من الضعف والوهن الشديد، لم تنهض إلا بسبب توافر المرجعية القيادية التي تحمّلت عبء المسئولية، سواء في تنمية الوعي لدى الأمة الإسلامية، أو في تحقيق انتصارات سياسية تعيد للمسلمين عزتهم ودورهم في عمليات البناء. ولن تنهض الأمة من محنتها اليوم إلا إذا توافرت تلك القيادة أو القيادات الواعية لشأن الأمة ومتطلباتها.

إن نظام المرجعية تميّز به الفكر الشيعي على الخصوص، وقد أعطى الحركة الشيعية والمجتمع الشيعي طول التاريخ قوة، بما هو مرسوم لها من هيكلية قيادية وضعت العلماء والمراجع في موقع التخصص ورجوع غير العالم إليهم في شئون دينهم، بل قد كان لمسألة اختيار (المكلف) الفرد لمرجعه الذي يأخذ منه الأحكام الدينية أهمية في المبحث الفقهي، ولعل من أوائل الكتب التي أدرجت هذا الجانب في ضمن المسائل التكليفية هو كتاب (العروة الوثقى)  للعلامة الطباطبائي اليزدي، في عدة مسائل ابتدأها بتعريف المجتهد، ومواصفاته، وطرق تحديده، وكيفية اتخاذ الفتوى منه، ثم سار على هذا النهج سائر المجتهدين إلى يومنا هذا،  المواصفات التي عدّوها للمرجع الديني هي الرجولة، والبلوغ، والعقل ،والإيمان، وطهارة المولد، والحياة، وأن يكون حراً وعادلاً،  الأعلمية مع اختلاف الآراء في سعتها وضيقها ـ وتعريفها،  إمكانها.

 ولكن هل هذا كان كافياً لإصلاح شأن الأمة الإسلامية ورفعها من الحضيض إلى مصاف الأمم الأخرى التي تقدّمت في جوانب عديدة.. هنا يأتي دور المواصفات التي أبدع فيها قلة من المجتهدين، ولقد كان الإمام السيد محمد الشيرازي أحد هؤلاء، الذين لم يكتفوا بالبعد التقليدي السائد للتقليد من جهة المكلف، وللمرجعية من جهة المجتهد، بل أضاف شروطاً تكميلية على السائد لكي تنشأ المرجعية القيادية التي تستطيع أن تغيّر الواقع، إذا ما أعطيت الثقة واتبعها الناس، وقد عبّر الكثير من المراجع عن الصفة التي ينبغي أن تتوفر في المرجع المتصدي والقائد بالكفاءة، أمثال الإمام الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية، والمرجع السيد محمد تقي المدرّسي ،  والشهيد السيد محمد باقر الصدر، وكذلك الإمام الشيرازي، الذي يذهب للتفصيل في مواصفات المرجع القيادي، ولكن الكفاءة مفهوم عام ونسبي، هو بحاجة إلى التفصيل، ونستطيع أن نستجليه من خلال المواصفات القيادية التي يطرحها الإمام الشيرازي.

ونحن هنا نستظهر الملامح الهامة التي يؤكد عليها الإمام الشيرازي للمرجعية القيادية، لكي تكون أسساً عامة وواضحة في معرفة المراجع القادة في الأمة، ولكي يتعرّف عليهم الناس من دون لبس، لأن من تتوفّر فيهم هذه المواصفات سيكونون أولى بقيادة الأمة، لما تحتاجه في وقتها كممثلين عنها ورافعي رايتها، حيث يمكن المراهنة على القدرات التي يحملونها تجاه كل التحديات المعاصرة.

وسنستعرض نظرة الإمام  الشيرازي للمرجعية المثلى والقيادية من خلال ما يلي :

1/ (فكره) الذي يتمثل في مؤلفاته العديدة، سواء المؤلفات المباشرة في هذا الموضوع كـ (المرجعية الإسلامية) و(المرجع والأمة)، أو من الكتب الأخرى التي تناولت الموضوع بشكل غير مباشر.

2/ (مسيرته) وتاريخه الذي مارسه من خلاله دور المرجعية، والمهام التي اضطلع بها في حياته الجهادية الطويلة، كشاهد على صدق القول، وإمكانية التطبيق.

يؤسس الإمام الشيرازي مجمل المهام والمواصفات التي يجب أن تتوفر في المرجع الديني على المسألة القيادية، حيث يتولى المرجع الديني مهامها، انطلاقاً من ضرورتها بالنسبة للأمة، ولأصالتها الشرعية والدينية في الفكر الإسلامي، باعتبار أن المراجع هم النوّاب عن المعصوم (عليه السلام) فيقومون بمهام إدارة المسلمين دينياً ودنيوياً، ولابد لغير المجتهدين من إتباعهم والعمل معهم.

ومن أهم تلك الملامح

 1- المرجع المفكر:

إضافة للبعد الاجتهادي التقليدي الذي يؤهل المرجع لمستوى الفتيا، وهو البعد الذي يكتسبه المرجع من خلال دراسته الحوزوية وممارسته للعلوم التي تقود لاستنباط الحكم الشرعي وقواعده من مصادره وأدلته متمثلة في علم أصول الفقه والفقه والحديث والقرآن وغير ذلك، إضافة إلى تلك الملكة الاجتهادية، يدعو الإمام الشيرازي لأن يكون المرجع مفكراً ولديه (القدرة على إنضاج الأفكار والرؤى في مختلف الشئون الفقهية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية، وما إلى ذلك)(20)، وذلك إيماناً منه أن العالم المعاصر إنما يدار عبر الخطط الفكرية في مختلف المجالات، والمواجهات التي يواجهها العالم الإسلامي إنما تقوم على التفكير ورسم الخطط للوصول إلى الأهداف، فينبغي على المرجع أن يداوم على المراقبة وقراءة الواقع المتغير في مختلف مجالاته، ويذكر في ذلك : إن (عالمنا اليوم متلاطم بالأحداث والقضايا، متخم بالتطورات العلمية والسياسية والثقافية) وبالتالي (فمن الضروري أن يكون للمرجع الديني إطلاع كاف حول هذه الأمور والتطورات التي تجري من حوله)(21) ثم لا يحدد سماحته ذلك الاهتمام بالقضايا الإسلامية البحتة، بل يقول (حتى لو لم تصطبغ بالصبغة الإسلامية)(22).

وهذا الاهتمام إنما يكون بداعي إعطاء الرؤية حول ذلك، حيث يذكر متمماً : (ومن ثم يكون للمرجع موقف محدد من هذه التطورات إما سلباً أو إيجاباً، بالتأييد أو الشجب أو ما أشبه ذلك مما يناسب المقام)(23)، ويلخص أسباب اهتمام المرجع بالقضايا المعاصرة في سببين، هما أن التدخل في تلك القضايا جزء من مقام الفقيه لأنه نائب عن المعصوم في الدين والدنيا(24)، ولأن الناس يرتبطون بالمرجع صاحب الرؤى، وخصوصاً المثقفين منهم لأنه يلبي حاجتهم وعندما لا يجدونها لدى المرجع فإنهم سيلجئون لغيره، وهذه الصفة هي أن يكون المرجع مفكراً كانت محط تداول من قبل جمع كبير من المثقفين المعاصرين، مطالبين من الفقيه أن يكون مثقفاً تحت إشكالية (الفقيه المثقف)، ولو لاحظنا تاريخ هذه الإشكالية بهذه الصورة لوجدناها انبثقت في أوائل التسعينات من القرن المنصرم، والإمام الشيرازي سبق تلك التداولات بهذه الملاحظة قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن(25)، ولم يكتف بالتنظير لها، بل مارسها بنفسه من خلال مسيرته المرجعية.

فقد (ألف - قدّس سره الشريف - (110) كتاباً في الشأن الثقافي العام، أي ما نسبته 10.3% من مجمل المؤلفات، تنوّعت في القضايا الثقافية، والمعالجات المعاصرة، والتأكيد على الهمّ الثقافي عند الأمة الإسلامية. ومن أبرز العناوين: (استمرارية المؤسسات)، (ما هو الإسلام)، (في ظل الإسلام)، (الدين والسعادة 6ج)، (الكتاب من لوازم الحياة)، (إلى نهضة ثقافية)، (جهاز التفكير)، (القرن الواحد والعشرون وتجديد الحياة)، (الإصلاح)، (ثقافة التحرير)، (إلى الكتّاب الإسلاميين)، (طريق التقدّم)، (سقوط بعد سقوط)، (كيف يمكن نجاة الغرب)، (فنّ الهداية)، (حول التبليغ في الغرب)...(26)

هذا إضافة لما كتبه في علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والحقوق، ناقش فيها النظريات الحديثة وأعطى رؤى تناسب الحال المعاصر.

 ويشهد له آخر كتبه في هذا المجال، وهو (فقه العولمة دراسة إسلامية معاصرة) الذي صدر بعد وفاته في 398 صفحة من القطع الكبير، عالج فيه أهم ظاهرة يمر بها العالم اليوم، ويلاحظ من خلاله مدى دقة وسعة إطلاع الإمام الشيرازي على القضايا العصرية، ومقدرته الكبيرة على العلاج والنقد.

 2- التصدّي ومواجهة الصراع:

يذهب الإمام الشيرازي إلى أن واجب المسلم يحتّم عليه العمل من أجل إقامة الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها، والمرجع هو الأولى بالتصدّي لهذه المهمة ولِما يتعرض له المسلمون في العالم من تحديات تحتم عليهم الوقوف أمامها، لأن المرجع هو القادر على استنباط الأحكام المعبرة عن الروح الدينية وهو المرجعية التي يرجع إليها الناس، وهو القائد الذي عليه أن يتحمل مسئولية الدفاع وإدارة شؤون الأمة الإسلامية، حيث يؤسس لمسؤولية المرجع بقوله (إدارة شؤون الأمة دينياً ودنيوياً)(27)، خلافاً لبعض الآراء التي تحصر العمل المرجعي في التصدّي للشئون الدينية بالمفهوم الفردي.

ينطلق الإمام الشيرازي في هذه الرؤية الفقهية الحضارية من سنة (الصراع) كواقع حتمي بين الحق والباطل، لأن (الحياة ساحة ابتلاء لمعرفة مدى طاعة الإنسان وإيمانه، وعلى هذا الأساس، فإن المرجع باعتباره نائباً عن الإمام المعصوم (ع)، فهو يتعرّض إلى حملات عدائية من مختلف القوى، فكان عليه أن يصمد في هذا الصراع ويواجه أعداءه بقوة الإيمان والعزيمة)(28).، (يجب على المرجع أن يكون هو الطرف المدافع ابتداءً، فعليه أن لا يبتدئ بالهجوم، لأنه ليس من صفات المؤمنين العدوان)(29).

ويذكر في كتابه (الفقه السياسة) : (فالواجب الشرعي على العالم الديني، كوجوب الصلاة والصيام، أن يهتم لإبعاد الحكام الظلمة عن الساحة الإسلامية، ليقبض زمام الأمة العلماء الراشدون، فيسيرون بالأمة، كما أراد الله سبحانه)(30).

ومن أجل تحقيق ذلك التصدّي فالإمام الشيرازي يدعو المرجع لأن يتخذ احتياطياته لتكون حركته في هذا الاتجاه متناسبة مع مستوى التحدي القائم، منها :

أ/ لابد (للمرجع من جبهة دفاع قوية، إذ أن أعداء الإسلام، نظموا أنفسهم في جبهة واسعة، وأصبحوا يهاجمون الإسلام بصورة منظمة ومركزّة، وإذا لم يشكل المرجع جبهة في المقابل، فإن عمله سينهار في أول مواجهة بينه وبين جبهة الكفر)(31).

ب/ (يجب على المرجع أن يكون شديداً في مواجهة الانحرافات، سواء كانت من قبيل الانحرافات العقدية التي يثيرها الملحدون أو الانحرافات الخلقية التي ينشرها المستهزئون أو الانحرافات الناشئة من عدم الالتزام بالشريعة الإسلامية، سواء على صعيد الدولة أو المجتمع)(32).

ج/ ومن أجل تحقيق ذلك (فلابد للمرجع أولاً أن يكون عالماً بهذه الانحرافات، فالعلم بالمشكلة هو بداية الحل)(33).

د/ على المرجع المتصدّي (أن يضع قائمة أعماله على أساس الأهم ثم المهم، وعلى أساس هذا الترتيب يقوم المرجع بالتصدّي للأعمال الأهم ويترك الأعمال الأخرى التي تقل أهمية إلى أعوانه، مثل : كتابة الرسائل وأجوبة المسائل، وقبض أجرة العبادة وإعطائها إلى أصحابها والزيارات العامة وحضور المجالس المختلفة إلى غير ذلك.

أما الأعمال الأهم فهي من نصيب المرجع وهي إدارة الأمور، والتخطيط للمستقبل، وتوزيع الأعمال، والقرارات المهمة وما أشبه ذلك فيباشرها بنفسه)(34).

نجد الإمام الشيرازي في مسيرته العملية المرجعية أنه كان مثالاً في التصدّي وتحمّل المسؤولية  والجهاد في سبيل الله، وقد خاطبه كثير من الفقهاء بعد موته بهذه الصفة لمعرفتهم بملازمتها له طيلة حياته، فقد كان يحمل همّ الأمة الإسلامية، وقد برز ذلك من خلال التأليف فـ(قد راقب باهتمام بالغ جميع حركات التحرر، وقضايا البلاد الإسلامية السياسية، والسياسات العالمية، فكتب في ذلك مجموعة من الكتب، موجهاً ومعالجاً بل ومتنبئاً.. وكمثال على هذه الكتب: (النازحون من العراق عام1391هـ)، (حوار حول تطبيق الإسلام)، (من عوامل الاستقلال في العراق)، (لنحافظ على استقلال أفغانستان)، (إلى إخواني في الهند، باكستان وأفغانستان)، (هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل؟)، (تدويل البلاد الإسلامية)، (ماذا بعد النفط؟)، (مجموعة البيانات 3ج) وهي مجموعة من البيانات التي كان يصدرها الإمام الشيرازي، حول الأحداث السياسية وغيرها، ومن أبرزها: (بيان حول العصيان المدني في الانتفاضة الشعبانية في العراق)، (بيان حول العدوان على الكويت - تنبأ فيه عن رجوعها إلى أهلها، وضرْب العراق ضربة عسكرية قاسية)(35).

ففي العراق واجه الإمام الشيرازي الحكومات الجائرة المتعاقبة ،ابتداء من  العهد الملكي، حكومة عبد الكريم قاسم مروراً بأحمد حسن البكر وانتهاءً بحزب البعث، فمارس نشاطه وتصديه بوسائل كثيرة منها  في العهد الملكي حيث مارس العمل الإعلامي بتأليف الكتب وتأسيس المجلات التي تتابع أحداث الساعة وتنكر على النظام مواقفه كمجلة (الأخلاق والآداب)، ومن خلال الزيارات للمسئولين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكرها في كتابه (تلك الأيام)، وتصاعدت المواقف مع الحكومات المتتالية إلى أن جاء حزب البعث بأساليبه القاسية، وأراد سجن الإمام الشيرازي وإعدامه، فهاجر إلى الكويت سرياً في عام 1391 للهجرة، بعد ما مر ببيروت.

كما دعم الثورة الإسلامية في إيران، باستقباله الإمام الخميني استقبالاً جماهيرياً حاشداً في كربلاء حتى قيل أنه قد بلغ عدد المستقبلين ثلاثين ألفاً، وتحشيد هذا العدد في ذلك الزمان يكشف عن قوّة الإمام الشيرازي الفكرية والجماهيرية، ثم واصل دعم الحركة الإسلامية فيها حتى الإطاحة بنظام الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية، كما دعم المجاهدين الفلسطينيين وأفتى بوجوب تحرير القدس من أيدي اليهود(36)، وكتب في القضية الفلسطينية مجموعة من الكتب منها (هل سيبقى الصلح بين العرب، إسرائيل) ،كما دعم قضية الأكراد في شمال العراق، وساند المسلمين المضطهدين في روسيا مساندة إعلامية، وفي اندونيسيا، وفي جنوب لبنان، والقضية الأفغانية والكشميرية، فضلاً عن متابعته للقضية العراقية في الانتفاضة الشعبانية وبعدها، بل وأعطى أراءً لمستقبل العراق عندما يزول الطاغية كما في كتب ومحاضرات عديدة مثل (حكومة الأكثرية)، (دعاة التغيير ومستقبل العراق) وغيرها.

 3- القدرة الإدارية :

إن الإدارة في تعريف الإمام الشيرازي هي كالتالي : (الإدارة: 1- تأتي بالقدرة 2- تحفظها 3- تنميها4- تأتي بأفضل النتائج 5ـ في أقصر وقت 6- بأقل قدر من المصاعب)(37).

ولمّا كانت المرجعية هي عملية الحصول على القوة وعلى تنميتها للحصول على نتائج ومقاصد هي مقاصد الدين في الحياة، فإنها قد احتاجت للإدارة، ولمّا كان المرجع هو رأس هذا المشروع، فهو المعني بها أكثر من غيره، يذكر الإمام الشيرازي في كتابه كيف تدير الأمور؟ موضحاً أهمية الإدارة بالنسبة للمرجع الديني ما نصّه : (إن الإمام المجدد الحاج السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي قدس سره قال ذات مرة:  (الرئاسة- ويقصد منها المرجعية الدينية تحتاج إلى مائة جزء: جزء علم وجزء عدالة... وثمانية وتسعون جزء (الإدارة)) .

وهذا الكلام صحيح جدا، فإنا نرى توفر العلم والعدالة، في كثير من الأشخاص، ثم لا نراهم مراجع لإدارة أمور المسلمين، فماذا الذي كان ناقصا فيهم، حتى تأخروا؟. 

إن النقص كان في ناحية الإدارة.

أما قوله: (ثمانية وتسعون جزء) فهذا من قبيل التأكيد على هذه النقطة المهمة.

والاحتياج إلى (الإدارة) ليس خاصا بمرجع التقليد بل هو عام لكل من يناط به أمر، أو يكون في الطريق إلى الإناطة)(38).

ولكي تؤدي  المرجعية القيادية دورها بأفضل طريقة، يدعو الإمام الشيرازي إلى تحسين الهيكل الإداري ولتحقيق هذه الغاية ذلك يذكر مجموعة من البنود الإدارية التي لابد للمرجع أن يضعها في حسبانه هي كالتالي :

أ. التركيز في العمل في الكم والكيف لكي لا يتحول العمل إلى العمل الشكلي.

ب. السماحة شرط أساسي.

ج. تنظيم المرجعية تنظيماً يضمن لها الاستمرار بالنظام المؤسسي،  إنشاء اللجان المساعدة لأعمال المرجع.

د. استثمار الطاقات المعطّلة،  قبول الناس وعدم التشكيك فيهم .

هـ. تكوين الجمعيات في مختلف الشئون.

و. المحاسبة لصدى الأعمال وانعكاساتها، وأن يتخذ الاحتياطيات اللازمة للمستقبل.

ز. أن يكون له موقف مما يدور في الساحة.

ح. أن يلتزم بقواعد عريضة لتحركه كأصول ثابتة.

ط. العمل في كل الأحوال وبلا انقطاع وبلا كلل، وبذل الجهد من أجل الهدف.

ي. التوسع في الأعمال أفقياً وعمودياً، ونبذ الجمود بكل أشكاله.

ك. اغتنام الفرص واستثمار المناسبات.

ل. الإعلام عن المرجعية من أجل إقتداء الناس.

م. التقرير العام للإنجازات لتحفيزه للمزيد، ولمعرفة الناس بمدى الأعمال لكي يساهموا فيها.

أما في الجانب العملي التي جادت به سيرة الإمام الشيرازي في إدارة المرجعية الدينية، فيمكننا أن نقيسها بمقدار التوسع الذي توسعته، وعمق التحولات التي أحدثتها في المجتمع وفي مفاهيمه، فقد كّون الإمام الشيرازي مدرسة مرجعية استظل بهديها الكثير من الناس من بلدان مختلفة، ولاقت إنجازاته وأفكاره النجاح والرواج في مختلف تلك المناطق رغم التحديات التي وقفت أمامها من قبل بعض المناوئين، ومن الضغوطات السياسية المتنوعة، إلا أن الجهود والأفكار التي كان يطرحها الإمام الشيرازي راجت بشكل واسع جداً، وإننا نرى آثارها في الكثير من البلدان، وهذا يدل على القدرة الإدارية والاهتمام بالتخطيط والطموح العالي الذي كان يمتلكه،  يتحدث أحد تلاميذ مدرسته وهو الشيخ حسن الصفار عن تلك الروح بقوله : (كان الإمام الشيرازي محلقاً دائماً في طموحاته وتطلعاته، وقد يراه البعض خيالياً مثالياً فيما يطرح من مشاريع ومقترحات، وخطط وبرامج، لكنه يبرهن على إمكانية تحقيق أطروحاته بالإمكان العقلي، وبالتوجيه الديني، ـ الذي لا يأمر بالمحال ـ وبإنجازات الأمم والعظماء في غابر الزمان وحاضره، كما يقدّم بسيرته العملية وإنجازاته الفعلية دليلاً على إمكانية تحقيق ما كان يُستبعد تحقيقه)(39).

وقد كتب الشيخ محمد العليوات كتاباً بعنوان (مرجعية الإمام الشيرازي عمق التحولات وآثار النهضة )،  البحث عبارة عن دراسة التحولات التي أحدثتها مدرسة الإمام الشيرازي في منطقة الخليج بشكل عام، يقول في كتابه مبيناً حجم الجهود المبذولة : (الذي يلحظ الأعداد المتزايدة من العلماء والخطباء والكتّاب والقيادات الاجتماعية وأصحاب الكفاءات المختلفة التي تنتمي لهذه المدرسة في هذا الوقت، يكبر ويثمن الجهود المتفانية لهذه المدرسة، ويدرك حجم وسعة التأثير لهذه الثقافة والروح التي تقف وراءها. لقد أصبحت المنطقة تنعم بنخبة من الكفاءات في شتى المجالات الحضارية والقيادية، بعد أن كانت فقيرة جداً يعود الفضل في ذلك لهذه الثقافة، وتوفر القابليات البشرية المتميزة في المنطقة)(40).

و(ذلك الكم الهائل من المؤلفات يكشف عن قدرة إدارية هائلة في استيعاب الوقت وتحقيق الإنجازات في أصعب الظروف)(41).

4- الجانب المؤسسي :

إن الاجتهاد جهد فردي، حيث يقوم شخص ما ببذل وسعه من أجل الحصول على ملكة الاجتهاد، ليكون مرجع تقليد يرجع إليه الناس في الفتيا، ومهما كان ذلك الجهد الذي يبذله المرجع كبيراً، فإنه سيبقى مؤطراً في إطار قدرته كفرد، وقد استمر أداء المرجعية بهذا الشكل طيلة قرون، إلا أن التحديات الكبيرة التي ازدادت وتوسعت يحتاج الاضطلاع بها جهداً جمعياً تعاونياً في القوى المادية وفي القدرة الفكرية، ومن المواصفات المهمة التي يراها الإمام الشيرازي للمرجعية القيادية هي الاهتمام بالجانب المؤسسي والانطلاق بالعمل إلى  رحاب واسعة ومستمرة وقوية.

يدعو الإمامُ الشيرازي المرجعَ القياديَ لأن يتحرك في الجانب المؤسسي في اتجاهات ثلاثة :

الأول: اتجاه المرجعية المؤسسية: وذلك من أجل ضمان استمرار المرجعية وجهودها لكي لا تبقى محكومة بالعمر الزمني لشخص المرجع، فيقول : (ينبغي تنظيم المرجعية تنظيماً يضمن لها الاستمرار والبقاء لمدة طويلة من بعده.فإذا أتى المرجع الثاني من بعده استطاع بسهولة تامة إدارة أمور المرجعية، لأنه سيجد وضعاً منظماً لا يكلفه سوى مواصلة الطريق الذي بدأه المرجع الذي سبق)(42).

الثاني: اللجان المساعدة لعمل المرجع: نظراً لتشعب الحياة وخروجها عن البساطة السابقة التي كانت عليها، وبالتالي تعدد احتياجاتها مما يشق على المرجع أداءها بمفرده فإنه يحتاج إلى يد الجماعة والتعاون من أجل الإنجاز (ولمّا كان المرجع هو المسئول عن أمور الناس وحيث أنه يرتبط بمختلف الناس ويؤدي مختلف الأعمال، فإن من الضروري إنشاء لجان لمساعدته وتقوم كل لجنة بإنجاز عمل ما في حقل خاص، وترفع النتائج إلى المرجع)(43).

الثالث: تأسيس المؤسسات في المجتمع: للمجتمع حاجاته الكثيرة والكبيرة، في مجالات مختلفة ،و نظام المؤسسات هو أفضل الأنظمة لأدائه بأفضل طريقة،  (من الأعمال الضرورية التي يجب أن يقوم بها المرجع الديني، إنشاء الجمعيات في مختلف الشؤون والأبعاد)(44).

وفي جانب الممارسة، فإن مرجعية الإمام الشيرازي امتازت بالحركية والحيوية والتنظيم، فبعد وفاته لم تحدث أي مشكلة في أداء أعمالها وخدماتها، كما حدث تأريخياً أن توقفت مرجعيات بعد وفاة المرجع، أو داخلتها المشكلات الإدارية وأدّت بها إلى الزوال، ومرجعية الإمام الشيرازي استمرت وإن جاء بعض المراجع من تلامذته، فإنهم يكملون المسيرة من بعده، مع استمرار طباعة كتبه المخطوطة، وتبني الكثير من المؤسسات التي تروج لفكره، كمؤسسة الإمام الشيرازي العالمية، ومركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث، غيرهما.

وفي مجال التأسيس سواء اللجان والمؤسسات المرتبطة بالمرجعية أو بالنشاط الثقافي والسياسي والتبليغي، فقد (قام الإمام الشيرازي شخصياً وكذلك تلامذته وطلابه وأتباعه ـ بفع منه وتوجيه ـ بتأسيس العديد من المؤسسات وفي مختلف المجالات، وتعتبر مرجعية الإمام الشيرازي من أنشط المرجعيات المعاصرة في تأسيس المؤسسات، بيد أنك أينما توجّهت بوجهك ستجد أن هناك العديد من المؤسسات التابعة لمرجعية الإمام الشيرازي)(45).

ففي كربلاء أسس مدارس حفّاظ القرآن الكريم، ودار القرآن الكريم، ومكتبات عامة، أصدر مجموعة من المجلات مثل (الأخلاق والآداب)،  (القرآن يهدي)، و(نداء الإسلام)،  (صوت المبلغين ) وغيرها، وقد قام ببناء وترميم المساجد والحسينيات، والمدارس والمستوصفات، ولجان الزواج، والنادي الإسلامي، وبعد رحيله للكويت أسّس مدرسة الرسول الأعظم، ومكتبة الرسول الأعظم العامة، ومجموعة من الهيئات العاملة في مجال التبليغ والعمل الإسلامي، وكذلك في إيران له مجموعة من الحوزات والمؤسسات، وفي مختلف البلدان وحتى الغربية منها وفي أمريكا ..  

5- تطوير الحوزات العلمية، تجديد المناهج:

الحوزات العلمية هي التي يتخرّج منها العلماء والفقهاء لكي يتصدوا للمرجعية، وبالتالي فهي تقوم بدور مؤثّر ودقيق، وأداؤها يعتمد على إدارتها من جهة وعلى المناهج التي تعتمدها في الدراسة من جهة أخرى، ولعل أبطئ تطوير يحدث هو ما تلاقيه الحوزات العلمية، حيث تعتمد بعض الكتب التي يعود تأليفها إلى حوالي سبعمائة سنة كشرح التجريد للعلامة الحلي (قد سره) هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن العلوم الحوزوية محدودة، وهي العلوم التقليدية مثل الفقه وأصول الفقه واللغة والحديث والفلسفة، فالحوزات العلمية بحاجة ماسّة للتطوير في الأساليب لتواكب حاجات العصر وتستفيد من معطياته وتقنياته، وتحتاج إلى التجديد في المناهج بلغة جديدة، وإلى مواد علمية جديدة لتساهم في بناء علماء الدين بأفضل صورة.

وأفضل ما يمكن أن يعطي رؤية في هذا المجال هم أهل التخصص في العلوم الحوزوية والذين قطعوا جميع أشواطها، ثم انفتحوا على العالم ودرسوه بوعي ،  وهم المراجع القادة والمتميّزون، والإمام الشيرازي الذي رعى الكثير من الحوزات العلمية في كربلاء والكويت وإيران، يرى هذه الضرورة ونحددها في التالي :

 أ/ تجديد الكتب القديمة، القيّمة والدقيقة في الأسلوب، فالإمام الشيرازي يرى أن هناك كتباً قيّمة ودقيقة متداولة كالكفاية، (لكنها كتبت بأسلوب قديم وباتت طريقة التدريس قديمة غير ملائمة للعصر الحاضر، لذا كان من مسئولية المرجع العمل على تغيير أساليب التدريس وإخراج هذه الكتب بثوب جديد)(46).

 ب/ إدخال العلوم المعاصرة ضمن المنهج الحوزوي، (كالسياسة والاقتصاد، فلابد من إدراج هذه العلوم في مناهج الحوزة حتى لا يتأخر طالب العلم عن ركب الحضارة المعاصرة)(47).

 ج/ (تدريس مادة علوم القرآن الكريم في الحوزات، وجعل تفسير القرآن مادة أساسية في برامج التدريس كالفقه والأصول)(48).

د/ تطوير مادة الفقه حسب المستجدات والمتغيرات التي طرأت، سواء في الأساليب الكتابية أو في المادة والمضمون.

 هـ/ تطوير الرسالة العملية والتي تحوي على الأحكام الشرعية التي يأخذها المكلف من المرجع في أمور العبادات والمعاملات، فيقترح الإمام الشيرازي (أن تتضمن أبواب أخرى من المعارف الإسلامية، فيجب أن تشتمل الرسالة العملية على موضوعات التالية :

1/ أصول الدين. 2/ الأخلاق والآداب. 3/ الواجبات والمحرمات. 4/ المواعظ القصيرة. 5/ تعيين مسؤولية المكلّف إزاء نشر الإسلام ونشر أحكامه ومواجهة عوامل الكفر والضلال. 6/ الاستعانة ببعض الآيات والأحاديث للتشويق والترغيب، ولتوضيح بعض المسائل وللاستدلال لبعض الأحكام)(49).

وفي الجانب العملي للإمام الشيرازي حول تجديد الحوزات والمناهج، فقد (أضاف الإمام الشيرازي إلى الدروس المتعارف عليها في الحوزة مجموعة من الدروس الجديدة مثل : 1/ علوم القرآن الكريم. 2/ التاريخ الإسلامي. 3/ الاقتصاد. 4/ السياسة. 5/ العقائد. 6/ نهج البلاغة. 7/ الثقافة الإسلامية. 8/ تعليم اللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية.

وقد أحدث إدخال هذه الدروس الجديدة والحديثة إلى مناهج الحوزة تغييراً نوعياً في تأهيل الطلاب علمياً وعملياً، مما يمكنهم من التفاعل مع الطبقات المثقفة في المجتمع، والتفاعل مع الثقافة المعاصرة، والإجابة على مختلف الإشكاليات الجديدة التي تطرح في وقتنا المعاصر)(50).

وكذلك يلاحظ التجديد في الفقه الإسلامي في موسوعته الفقهية وهي أكبر موسوعة من نوعها في الفقه الإسلامي الاستدلالي، فقد استحدث سماحته فيها أبواباً جديدة لم تكن معهودة في الفقه بلغت 25 موضوعاً، كان منها (الفقه السياسة)،  (الفقه الحقوق)، و(الفقه الدولة الإسلامية)، (الفقه الاجتماع)، (الفقه البيئة)، و(الفقه المرور) وغيرها.

6- الاهتمام الاجتماعي :

لا يمكن أن يتصور مرجعية قيادية من دون أن تولي الاهتمام بالمجتمع بكافة فئاته وشرائحه، لأن المجتمع هو المقود وهو القاعدة التي ينطلق إليها ومنها المرجع الديني، أما إذا تخلّى المرجع عن الناس وانقطع عنهم وكان في منأى عنهم، فلن يكون له التأثير الإيجابي في الناس، بل تنتفي الأبعاد الرسالية للعلم لأن العلم إنما هو لإقامة الصلاح والخير وقيم الدين في الناس.

ويستعرض الإمام الشيرازي المشكلة التي تحاول أن تغذيها القوى المعادية للدين، وهي مشكلة عزل علماء الدين عن المجتمع، وتكريس هذه الحالة ليبتعد الناس عن العلماء، فيدعوا المراجع والعلماء وطلبة العلوم الدينية لأن ينخرطوا في المجتمع لكي لا تنفصل لغتهم عن لغته، ولكي لا يشعروا بغربة عنهم، ليتمكنوا من المساهمة في بناء المجتمع وإصلاحه(51).

واهتمام المرجع بالمجتمع له عدّة جوانب يؤكد عليها الإمام الشيرازي لتكون صفة للمرجع القائد :

أ/ تلبية حاجات الناس (والمرجع بما أنه مرتبط بدين الناس ودنياهم ترد عليه مختلف الحوائج والمشاكل والقضايا، فاللازم أن يهيئ نفسه لقضاء الحوائج الصغيرة منها والكبيرة . ومن الجدير أن يعين المرجع أشخاصاً متفرغين لهذه الغاية وعلى شكل لجان)(52).

ب/ وضع الرأي العام في الحسبان ويبرّره قائلاً (المرجع يريد قيادة الناس، فإن عليه ملاحظة الرأي العام لأنه نبض الجماهير، ما لم يخالف الشرع.

فيجب على المرجع ملاحظة هذا الأمر في تخفيف عداوة العدو بالأخلاق الحسنة أو بقضاء حاجته إن كانت مالية)(53).

ج/ رعاية أصحاب الحاجات، أمثال المرضى والمساكين وأصحاب العاهات والأرامل والأيتام (فالأفضل للمرجع أن ينشئ لهؤلاء مؤسسات لإيوائهم كدار العجزة ومدرسة للمكفوفين وبيوت للفقراء وما إلى ذلك)(54).

د/ الاهتمام بطاقات الشباب وإنشاء لجان لرعايتهم والاهتمام بهم، فهم يشكلون قوة ضاربة في المجتمع.

هـ/ رقابة الانحرافات الاجتماعية والعمل على حلها ومكافحتها.

و/ معرفة لغة المجتمع وطرق تفكيره واهتماماته.

وفي السيرة العملية للإمام الشيرازي نراه قد اقترب من المجتمع اقتراباً شديداً وأسّس المؤسسات الخيرية التي تقضي حاجاتهم، بل وخصّص له وقتاً لاستقبال الناس من كل الأقطار، وقد مارس الكتابة بأسلوب السهل الممتنع الذي يقترب من فهم الناس، لكي يستوعبوا ما يكتب، وكتب للمجتمع الكثير من الكتب الثقافية والاجتماعية فـ (لقد كتب (قدس سره) للناشئة (67) كتاباً، بأسلوب مبسّط يفهمه الأطفال، ومن يخطون خطواتهم الأولى على طريق الوعي بالإسلام؛ ومنها: (كيف عرفت الله؟)، (هل تحب معرفة الله)، (القصص الحق.. عدّة أجزاء)، (هل تعرف الصلاة)، (ما هو الصيام)، (كيف نجاهد)، (أيّكم يعطي الخمس)، (العقائد الإسلامية)، (الطفل المسلم 4ج)..

كما كتب للشباب والمثقفين الكثير - وهي أكثر كتبه - وقد بلغ ما كتبه في هذا المجال (824) كتاباً؛ لأن أكثر القرّاء، المحتاجين للقراءة هم من هذه الطبقة. يعلل (قدس سره) اختياره في أكثر كتبه لهذا الأسلوب، في كتابه (أنفقوا لكي تتقدّموا) كما يلي: (إني في هذا الكتاب كسائر كتبي التي أكتبها للجماهير أختار الأسلوب البسيط، وأجعل الكتاب كالتكلّم في التفاهم والسلاسة، حتى ينفذ إلى الأعماق، ولعل الله ينفع به.. وقد شجعني على هذا الأسلوب.. الإقبال المنقطع النظير الذي لاقيته على كتبي التي أكتبها للجماهير بالإضافة إلى ما ذُكر في علم النفس من: ضرورة تحريك الجماهير بلغتهم، وقد اقتطفت من هذا الأسلوب، سواء في البيان أو القلم ثماراً طيّبة)(55).

7- الاهتمام العالمي:

انطلاقاً من الرسالة الإسلامية التي جاءت للعالمين هداية ونجاة، فلابد أن تكون رسالة كل متحمّل لها بذلك الوصف، ومراجع الدين باعتبارهم المتصدين لحمل الرسالة الإسلامية، فلا ينبغي أن يكونوا منحصرين في مساحة مكانية صغيرة، بل عليهم أن ينطلقوا للعمل على المستوى العالمي، وخارج البلاد الإسلامية.

الصفة التي يطالب الإمام الشيرازي المرجع القيادي أن تتوفر فيه، هي أن يكون عالمياً ومتوسعاً في اهتماماته وفي نشره للإسلام، ويضع هنا مجموعة من المقترحات:

 أ/ مراقبة التطورات العالمية التي تؤثر على المجتمع الإسلامي عبر تخطيط مجموعة من المؤسسات والدول لذلك، (لو تمعنا .. في العالم الإسلامي لوجدنا أنها ـ الأحداث ـ غير منفصلة عن التأثيرات الغربية، بل هي وليدة أحداث أو قرارات سبق واتخذتها الدول الغربية خارج العالم الإسلامي، لذا كان لابد لمن يريد إصلاح الأوضاع في العالم الإسلامي أن يراقب هذه الأحداث في مناطق نشؤها..)(56).

 ب/ التأثير في مراكز القوة عبر تشجيع الكفاءات من الكتّاب والخطباء وأساتذة إلى الهجرة، والعمل على جمع شمل المسلمين المبعثر في البلدان الغربية للمساهمة في هذا العمل لأن (أنظمة الحكم في البلاد الأجنبية ـ تقوم ـ على توازن مراكز القوة ـ واستناداً لنظرية الاستقطاب، يمكن التأثير في هذه المراكز وبالأخص الموجودة في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها من البلاد الغربية . والتأثير بالطبع يحصل من خلال عمل فكري وعلاقاتي في داخل تلك الدول)(57).

 ج/إرسال المبلغين إلى البلاد غير الإسلامية، فمن (الضروري أن يهتم المرجع بإرسال مبلغين إلى مختلف بلاد العالم، لنشر الإسلام وهداية الناس إليه).

د/ النشر باللغات المختلفة، للكتب ذات المضمون الإسلامي والمسائل الفقهية.

ج/ الاهتمام بالفئات غير المسلمة في البلاد الإسلامية، والعمل على هدايتهم.

وعلى مستوى السيرة العملية للإمام الشيرازي فقد كان يراقب التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية على الساحة العالمية والدولية، وقد شهدت له كتبه بهذه المعرفة الدقيقة  ففي الجانب الفكري (كان واعياً ومراقباً لمتطلبات الواقع فلجأ لنشر الفكر الإسلامي الأصيل، وردّ بجدارة على الفكر المضاد، تماماً كما كان فعل أهل البيت(ع) في مواجهتهم لحروب التشكيك والهجمات الفكرية المنحرفة.. وأصدق برهان على معاصرة الإمام الشيرازي للواقع الفكري، وخوضه في غماره، هو المؤلفات التي ألّفها في هذا المجال والتي بلغت (41) كتاباً، ردّ فيها (قدس سره) على أصول ما تعتمد عليه كل تلك الحركات، مثل: (ماركس ينهزم)، (نقد نظريات فرويد)، (نقد المادية الديالكتيكية)، (القوميات في خمسين سنة)، (مائة سؤال حول الثالوث)، (الغرب يتغيّر)، (كيف ولماذا أسلموا)، (هؤلاء اليهود)، (ماذا في كتب النصارى)، (الصابئة في عقيدتهم وشريعتهم)، (بين الإنسان ودارون)، (وقفة مع الوجوديين)، (مباحثات مع الشيوعيين)، (الإنسان والقرد)، (البابية والبهائية)، (كيف يمكن نجاة الغرب..)(58).

 ويتّضح لمن يمعن القراءة في  كتابه (فقه العولمة) الذي ناقش فيه أحدث التحولات والإشكاليات العالمية  ووضع حلولاً إسلامية لها، أنه شديد المتابعة والاهتمام بالقضايا العالمية، ومثله كتاب (الغرب يتغيّر) الذي أسّس فيه إلى رأي تغيّر مسار اتجاه الغرب مستقبلاً، وضع خطط وبرامج لإحداث التغيير في بلاد الغرب ودعوتهم إلى الإسلام في كتابه (كيف يمكن نجاة الغرب)، وكتب لمريديه المغتربين (إلى أبنائنا في البلاد الأجنبية) وهو عبارة عن إرشادات وخطط عمل لتحركهم في بلاد الغرب.

بل لم يكتف بذلك، فقد دأب على تشجيع ودعوة مريديه وطلابه لتأسيس المراكز والمؤسسات في بلاد الغرب، ليقوموا بالدعوة إلى الدين ولكي يخدموا الجاليات المسلمة، وبالفعل فقد أسست مجموعة كبيرة منها، وهي منتشرة باسم مراكز إسلامية أو مدارس ورياض أطفال ولجان خيرية ومجلات وغيرها، كما نشرت مجموعة من كتبه بلغات مختلفة.

وختاماً فقد أسّست مدرسة الإمام الشيرازي على المستوى النظري وعلى المستوى العملي والتطبيقي، ملامح هامة وضرورية للمرجعية القيادية التي تصلح لهذا العصر، بمختلف احتياجاته ومتطلباته.

 


1- الإمام الشيرازي فقيه الزمان وسلطان المفكرين الأتقياء ، أنطوان بارا ، مجلة النبأ ، العدد 69 ، ص190

2- نشر في مجلة الكلمة ، العدد 34

3- صدر عن مكتبة الرضا بالبحرين ، الطبعة الأولى ، 1423هـ ، 2002م

4- ضمن كتاب (قضايا ساخنة) في الفكر والتشريع والسلوك، عادل علي عجيان ، دار الخليج العربي، لبنان ، بيروت.

5- نشر في مجلة الكلمة ، العدد 34

6- نشر في مجلة النبأ ، العدد 69

7- نشر في مجلة النبأ ، العدد 69

8- نشر في مجلة الكلمة ، العدد34

9- نشر في مجلة النبأ ، العدد 69 ، والمقالات التي تليها .

10- نشر في مجلة النبأ ، العدد 66

11- نشر في مجلة النبأ ، العدد 66

12- صدر عن دار العلوم ، للطباعة والتحقيق والنشر والتوزيع ، في عام 1423هـ ، 2003م.

13- عشت في كربلاء ، الإمام الشيرازي.

14- عشت في كربلاء ، للإمام الشيرازي.

15- يمكن مراجعة بيانات المراجع والعلماء في كتاب (انفجار الحزن) بإشراف سماحة الشيخ حبيب الجمري- البحرين

16- كلمة الإسلام ، الشهيد السيد حسن الشيرازي ، ص 187

17- وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ج 18 ، ص101 ، الحديث9

18- الكافي ، ج1 ، ص26 ، الحديث 29.

19- سورة التوبة ، آية 122

20 - المرجعية الإسلامية ، ص24

21- نفسه ، ص 61

22- نفسه ، ص 61

23- نفسه

24- انظر المرجع والأمة ، للإمام الشيرازي.

25- في كتابه المرجعية الإسلامية ، وغيره.

26- معالم العظمة (دراسة إحصائية في مؤلفات الإمام الشيرازي) ، ص 16 ، محمود الموسوي.

27- المرجع والأمة ، الإمام الشيرازي.

28- المرجعية الإسلامية ، ص 80

29- المرجعية الإسلامية ، ص 80

30- الفقه السياسة ، الإمام الشيرازي ، ج 1 ، ص46

31- المرجعية الإسلامية ، ص42

32- نفسه ، ص 119

33- نفسه .

34- نفسه ، ص 45

35- معالم العظمة ، محمود الموسوي ، ص29

36- أضواء على حياة الإمام الشيرازي ، جماعة من العلماء ، ص 87

37- كيف تدير الأمور ، الإمام الشيرازي

38- كيف تدير الأمور ، الإمام الشيرازي

39- السيد محمد الشيرازي ، ملامح الشخصية وسمات الفكر ، الشيخ حسن الصفار ، مجلة الكلمة ، العدد 34، ص 21

40- مرجعية الإمام الشيرازي ، عمق التحولات وآثار النهضة ، محمد العليوات ، ص31

41- معالم العظمة ، محمود الموسوي ، ص 37

42- المرجعية الإسلامية ، ص 53

43- المرجعية الإسلامية ، ص 60

44- المرجعية الإسلامية ، ص 58.

45- التجديد في فكر السيد محمد الشيرازي ، عبد أحمد اليوسف ، مجلة الكلمة العدد ، 34 ، ص82

46- المرجعية الإسلامية ، الإمام الشيرازي ، ص 92

47- المرجعية الإسلامية ، الإمام الشيرازي ، ص 92

48- المرجعية الإسلامية ، ص 93

49- المرجعية الإسلامية ،  ص 104

50- التجديد في فكر السيد محمد الشيرازي ، عبد أحمد اليوسف  مجلة الكلمة ، العدد 34، ص 112

51 - انظر (المرجعية الاسلامية ) ص 123 (رجال العلم والمجتمع).

52- المرجعية الإسلامية ، ص 109

53- المرجعية الإسلامية ، ص 112

54- المرجعية الإسلامية ، ص 113

55- معالم العظمة ، دراسة احصائية في مؤلفات الإمام  الشيرازي ، محمود الموسوي ، ص 34

56- المرجعية الإسلامية ، ص 131

57- المرجعية الإسلامية ، ص 133

58- معالم العظمة ، ص27

  الصفحة الرئيسية ملف المناسبة  | أتصلوا بنا