الصفحة الرئيسية التاريخ يصنعه العظماء  | أتصلوا بنا

 

الحوار والاعتراف بالآخر

في فكر آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي

بقلم نبيل فوزات نوفل *

مقدمة:

يظن كثير من الدارسين اليوم، أن الحوار والاعتراف بالآخر، فكرة غريبة عن الإسلام والمسلمين وإنها فكرة غربية وردت إلينا لتخليصنا من حالة الجمود والتقوقع والانغلاق التي يحياها البعض من أبناء أمتنا، وينسى هؤلاء أو يتناسون أن ديننا الحنيف، وقرآننا الكريم هو الذي دعا له الاعتراف بالآخر والحوار، وقد جسد ذلك الكثيرون من المفكرين في أمتنا وعلماؤها من الأئمة الأخيار وفي مقدمة هؤلاء السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) من خلال ما كتبه وما قام به في حياته من أعمال ولقاءات، وسنحاول إلقاء الضوء على بعض من هذه الآثار والأعمال، وبعض ما ورد في قرآننا الكريم وسنة الرسول الأعظم لنبين حقيقة الحوار والاعتراف بالآخر من خلال فكر أحد علماء المسلمين الكبار في القرن العشرين ألا وهو السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).

إن آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه كان يقتدي بالنبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام في هذا المجال حيث كان له في بعض جوانب حياته (قدس سره) حوارات ومناقشات مع غير المسلمين من معتنقي الأديان الأخرى كالمسيحية وكذلك مع الماركسية والشيوعية، ويذكر أنه حاور بعض الشيوعية المتعصبين وبعد نقاش طويل ومحاججات كثيرة اقتنعوا ورجعوا إلى الإيمان بالله بعدما أنكروا فطرتهم وتنكروا لها وهذا مما يدل على عمق رؤية الإمام الراحل ونظرته الشمولية التي ينظر بها للإنسانية بأنها هي الأساس في التعامل بين الأفراد وأنها سمة عظيمة يتحلى بها ذوو الألباب، بحيث أنه كان ينتهج مسلك أهل البيت عليهم السلام في التعامل مع الآخرين حيث كانوا صلوات الله وسلامه عليهم يحترمون الطرف الآخر بغض النظر عن المعتقد الذي يدين به والطقوس التي يؤديها لأنهم هم الذين يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وأنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وهم المثل الأعلى والدعوة الحسنى وحجج الله على أهل الدنيا والآخر والإمام في ذلك يسير على هدى الرسول الأعظم (ص) ولقد نقل التاريخ جملة من الحوارات الفكرية التي حصلت في زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي زمن الأئمة الطاهرين، بل روى لنا جملة من المحاورات الهامة التي أجراها أهل البيت عليهم السلام مع علماء الأديان والمذاهب المختلفة كما نراها جلية في مثل كتاب الاحتجاج للطبرسي وهذا خير دليل على إيمان الإسلام بالحرية الفكرية وتأكيده على أسلوب الحوار والمناظرة في نقد الأفكار والدعوة إلى التوحيد بأسلوب حر ومفتوح كما نرى أن الإمام الصادق عليه السلام يعالج الشبهات حيث كان الملحدون والزنادقة يسعون لنشر أفكارهم التشكيكية حتى في الأماكن المقدسة للمسلمين كالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، لكن الإمام عليه السلام لم يعالج ذلك بالتشنج والانفعال بل أتبع أسلوب الاحترام والحوار في مناقشته لهم والرد على إشكالاتهم وآرائهم المنحرفة بل كان يتحاور معهم في جو من الحرية والانفتاح حتى اعترف له أقطابهم بالتفوق والتميز الأخلاقي الرفيع.

والإمام علي بن موسى الرضا حيث عقد مجلس مهيب للمناظرة والحوار بينه وبين قادة الأديان والمبادئ وشارك فيه الجاثلين كبير النصارى ورأس الجالوت زعيم اليهود والهربز الأكبر ممثل الزرداشتيه وعمران الصابي قطب الصابئة والفيلسوف قسطاس الروحي وجمع من المتكلمين وكان المتصدي لمحاورتهم ومناظرتهم وقد أنعقد هذا المحفل خلال الثلاث سنوات الأولى من القرن الثالث الهجري في عاصمة الخلافة آنذاك، وذلك الحوار يمثل وثيقة تاريخية وفكرية عظيمة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام الحوارية كما أنه حوار يعكس الحرية والانفتاح والعلم والأدب وغيرها من الصفات التي تحلى بها الأئمة عليهم السلام ويقول الإمام الشيرازي (قدس سره) في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين):

منهج الحكم الإسلامي المرتقب لألف مليون مسلم قوامه، الحرية في العقيدة وفي إبداء الرأي وفي العمل، إذ ليس الإسلام ديكتاتوراً، وهذا تأكيد لقوله سبحانه وتعالى في كتابه المبين (لا إكراه في الدين) البقرة 256)

و(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125)

ويرى الإمام الشيرازي (قدس سره) أنه من أهم أسباب الأزمة التي نعانيها تتلخص في انعدام الحوار على اعتبار أنه إحدى أهم مسؤولياتنا هي قراءة واقع الأمة والمجتمع ووضع الخطط اللازمة لنقلها إلى حالات التطور والتقدم ولا يأتي ذلك إلا عبر المزيد من الحوار والنقاش الهادئ بين مختلف الأطراف والتيارات الواعية ومن يمثلها حيث أن الاستبداد الفكري قرين الاستبداد السياسي وهما معاً من نتائج التخلف ومن أسبابه حقاً فلا بد من فتح باب الحوار الفكري مع الثقافات الأخرى على أساس من الشعور بالعزة والاستقلال وأن يتم هذا الحوار في جو من الحرية المتكافئة لكي يملك العقل زمام المبادرة ويستطيع الانتقاد والاختيار وإلا فإن الحوار سيتحول إلى مجرد شعار يخفي تحته أبشع أنواع الخداع والتغرير فالدعوة إلى الحوار والنقاش ليس معناها التنازل عن المبادئ الإسلامية استمالة لجهة من الجهات فإن هذا مرفوض ويعتبر من المداهنة المنهي عنها، كما أن الحوار ليس معناه الدخول فيه لمجرد الحوار دون هدف يعاني مضار ذلك كثيرة.

ويؤكد الإمام محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) بأنه كل إنسان يتعامل مع نفسه من خلال تعامله مع الآخرين، مهما حاول التظاهر بغير ذلك، ويكشف هذه الحقيقة بوضوح أنه لا يشعر بالتناقض بين نفسه وبين الآخرين إلا ويبتعد عنهم استعداداً للهجوم عليهم والثأر منهم وأنه لا يشعر بأن عدواً من أعدائه التاريخيين يساعده مع تأمين شيء من هدفه وإلا ويقلب الصفحة معه ويتعلق به وكأنه ولي حميم، ويرى أن الفكرة توجه الإنسان وتقوّم منه/ ولكن للمصلحة فعاليتها.. وإذا تصارعت الفكرة والمصلحة فالأقوى منها يقرر مصير الإنسان الذي تصارعتا عليه فمن كانت إرادته قوية، يشجع الفكرة على الانتصار ومن كانت إرادته ضعيفة تنتصر فيه المصلحة على الفكرة.

ويرى الإمام الشيرازي (قدس سره) إن الإنسان أما أن ينغلق وإما أن ينفتح ومن يغمض إحدى عينيه لا يستوعب ما حوله بالأخرى وحدها والذي يضع على عينه نظارة سوداء لا يرى بقية الألوان. وهو هنا يطلب أن يدقق الإنسان في كل أمر يعرض عليه ويدقق فيه من كافة جوانبه ابتغاءً للدقة والعدل.

إنه يحث على الحوار، ويرى أن في غلق باب الحوار نوعاً من إخضاع المقود، وسلب بعض صلاحياته الإنسانية كمخلوق زوده الله بالعقل ليحركه في تفهم مصالحه وبالتالي يؤدي هذا النوع من الانقياد القيادي إلى إشعار المقود بأنه شبه بالآلة المسيرة منه إلى الإنسان المخير..

ويؤكد (قدس سره) على عدم الاستبداد بالرأي واحترام الرأي الآخر ولعل هذا المحور من أمهات المحاور التي استقطبت اهتمامه فإذا أريد للأمة أن تعيش حالة من الاستقرار الدائم والعيش المطمئن عليها أن توجد وتزرع مسألة الاعتراف بالآخر بحق وحقيقة في قلب كل فرد مسلم وإلا فلنتوقع دوامة العنف بكل تداعياتها تسحق بين الحين والآخر شرعية من الأمة بحجة أنها لا توافق تلك في رأيها أو تعارض هذا في فكره أو برامجه. ويمكن إيجاز أبسط الحوار وفق رؤية الإمام الشيرازي بالآتي:

1- الحرية الفكرية المطلقة المتحررة من أي ضغط أو إكراه وهذا ما يؤكد عليه عز وجل بقوله: (لا إكراه في الدين) و(لست عليهم بمسيطر)

2- الرفق واللين في الحوار. وهذا ما ينسجم مع قوله تعالى: (لو كنت فظاً غليظ القلب لانفظوا من حولك).

3- الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال عز وجل (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)

4- التزام الحوار العلمي بعيداً عن الجدل بالباطل: وهذا ما دعانا عز وجل إليه بقوله: (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم)

5- عدم تعالي كل طرف على الآخر خلال الحوار، فلعل لدى الآخر حقاً يكتشف أثناء الحوار.

6- ليس من اللازم أن يكون الهدف من الحوار انتقال أحد الطرفين المتحاورين إلى موقع الطرف الآخر بالتسليم له بكل منطلقاته بل لعل الأسلم في كثير من الأحيان أن يكون هدف الحوار التقاء الأطراف المتحاورة على ما يكشفه الحوار الصادق من النقاط المشتركة بين هذه الأطراف ولعل هذا أقرب إلى التحقيق وأدعى إلى التعايش على أساس هذه المشتركات وخاصة بين الأديان. قال تعالى:

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً).

هذه بعض الأسس التي أرساها الإسلام للحوار والتي يؤكد عليها الإمام الشيرازي والتي ينبغي لكل من طرفي الحوار أن يعيها في فكره وسلوكه لكي يكون الحوار حسياً ومثمراً، خاصة بين أبناء الأمة الإسلامية بكافة مذاهبها، لأن المسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى حوار داخلي فيما بينهم، يعيد للإسلام رونقه وللمسلمين وحدتهم واعتزازهم بدينهم وتمثيله تمثيلاً صحيحاً سليماً في كافة المحافل الدولية.

وختاماً لا بد من القول:

إن الإمام الشيرازي رجل حمل في قلبه طهر الأولياء ونقاوة الصالحين فهو لم يكن عالماً وأديباً وشاعراً وفقيهاً فحسب بل كان مجاهداً وثائراً ضد الظلم والطغيان لقد جاء ليوقظ في عقولنا معنى الشجاعة والبطولة في كل ميادين الحياة فكراً وعملاً وما هذه الأفكار التي أشرنا إليها إلا زهرة فاح عبيرها أقتطفتها من خميلته.

قليلون هم الرجال الذين يفكرون ويخططون استراتيجية والمفكر الإسلامية آية الله السيد الشيرازي واحد من هؤلاء القلة في أمتنا الإسلامية الذين يفكرون استراتيجياً فهو كان يفكر في نتاج ثابتة لا يهتز إزاء التحديات والعواصف وكان يؤسس للزمن القادم وليس للحظات والساعات التي كان يعيشها ولم يكن يستعجل النتائج لأنه كان أبعد ما يكون من حب الزعامة وحب الظهور والرياء والسمعة وكما يقول الإمام علي عليه السلام:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها              إلا التي كان قبل الموت بانيها

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

* عضو اتحاد الكتاب العرب/ دمشق

  الصفحة الرئيسية التاريخ يصنعه العظماء  | أتصلوا بنا