الصفحة الرئيسية التاريخ يصنعه العظماء  | أتصلوا بنا

 

تسعة صور للزهد تجتمع في رجل واحد

 

ليس فخراً أن يزهد الإنسان في الدنيا وهو لا يملكها..

وليس فخرا أن يلبس ثوب الزهد وهو مجبرٌ عليه..

إنما الفخر أن يمتلك الإنسان الدنيا ويقبض على أزمتها، ويتركها طوعاً واختياراً.

كما أن الزهد لا يعني الانعزال وترك الحياة خوفاً من الوقوع في ملذاتها وزخارفها، وإنما الزهد الدخول في معترك الحياة ومعاشرة الناس عن قرب، لمواساة ضعفائهم، وإصلاح أغنيائهم، وصياغة الأنموذج الأسمى للزاهدين، والقدوة الفضلى للراغبين بالسير على المنهج القويم.

فالزاهد – كما يصفه الإمام الصادق (ع) - هو الذي يختار الآخرة على الدنيا، والذل على العز، والجهد على الراحة، ، على الشبع، وعاقبة الآجل على محبّة العاجل، والذكر على الغفلة، ويكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة(1)

هذه الأطر والمواصفات التي رسمها الإمام الصادق (ع) للزاهد الواقعي، قد يراها البعض موزعة عند هذا أو ذاك، ولكن وجودها مجتمعة في شخص واحد وفي ظروف غير عادية، قد تكون غير مألوفة أو متعارفة، فالأشخاص الذين نالوا شرف (الزهد) في بعض حقب التاريخ البعيد أو القريب، لو دققنا في حياة بعضهم لرأيناها في الغالب لا تحمل إلا بعداً واحداً من أبعاد الزهد المتعارفة..

 أما فقيدنا السعيد المرجع الأعلى آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية)، فقد كان مثال الزهد والتواضع في كل شيء، وفي كل بعد تراه مقدما على أقرانه، ولا يرى في ذلك فخراً، ولا عجزاً عن حياة الراحة والرفاهية، فقد عاش في أجواء وظروف لو عاشها غيره لعجز عن الوصول للدرجات الدنيا التي وصلها فقيدنا الراحل.

 كان (عطّر الله ثراه) لا يرى في الزهد تربية للنفس وارتقاء للروح فقط، وإنما كان ينظر إليه باعتباره عنصر المواساة الأول مع الفقراء والضعفاء، كان ينظر إليهم أولاً قبل نفسه، وربما كان لا ينظر إلى نفسه بقدر ما ينظر إلى صورة أولئك الذين يئنون من الجوع ولا يجدون ما يسد رمقهم، وكان دائماً يتمثل بقول أمير المؤمنين (ع): (هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى) (2)، أأقنع من نفسي بأن يقال هذا مرجع المسلمين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.. الآخر الفقير.. الآخر الضعيف.. الآخر المسكين.. الآخر المستضعف.. هو أول ما يفكر به عند كل خطوة يخطوها أو حركة يقوم بها، يرى في احترام الإنسان الضعيف وحفظ كرامته والدفاع عنه وأخذ حقوقه المعيار في الحكم على الأشخاص الذين يدّعون الزهد والتواضع، وعندما يكون المعيار الغير والآخر الجمعي تضمحل قيمة الأنا وتموت نوازع الغرور والكبرياء، ويرتقي الإنسان إلى مصاف الأولياء والأنبياء.

 الدنيا بزخرفها وزبرجها أتت طائعة لفقيدنا الراحل في بعض السنين، ولكنه أبى إلا أن يكون كجدّه أمير المؤمنين (ع) الذي امتلك السلطتين الدينية والزمنية، ومع ذلك كان يبيت جائعاً طاوياً، ولا يجد شيئاً يوقد به النار للضياء، ويستحي من مرقع مدرعته لكثرة ما رقعها.

 نعم.. قضيت عشرين عاماً قريباً منه، لم أره يوماً غيّر عباءته، رغم الثقوب الكبيرة التي احتوتها والتغيرات اللونية التي طرأت عليها، تمسك بها بقوة واعتاد عليها على الرغم من إصرار المقربين وهدايا المقلدين الداعية إلى تبديلها. والمسألة غير محصورة في هذا البعد الضيّق، وإنما تتعدّاه إلى كل الأمور التي ترتبط به من قريب أو بعيد.

ولعلّ الشيء المتميز في فقيدنا الراحل، هو حرصه الشديد على تتبع أحوال الماضين من الزهاد، وخصوصاً أولئك الذين يرتبطون بالشجرة الطيبة من آل الشيرازي، أمثال الميرزا الكبير، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد مهدي الشيرازي (قدس الله أسرارهم)، فطبّق كل ما سمع عنهم، وكان لا يأخذ إلا الصعب المستصعب الذي فيه تقويم للنفس ورقي للروح، لذلك أقول وبفخر إن زهد فقيدنا يمثل خلاصة زهد الماضين من شجرته.

 واليوم بعد غياب الجسد عنا، قد تكون القصص والوقائع التي عشتها وعايشتها عن قرب(3) خير ما يعطي الصورة الواقعية عن زهد شمولي غطى مختلف الأبعاد، ورسم واقعاً مغايراً لما ألفه الناس عن الزهد، فهذا مرجعنا الراحل، والصور الأخرى للزهد..

 

الصورة الأولى:

 يقوم الإمام الشيرازي (قده) من مكانه، يستقبل ضيفه القادم بإجلال ووقار، يليق بمكانة الأستاذ الأول للحوزة العلمية في قم المشرفة، إنه آية الله المرحوم الشيخ الباياني(قده)، جاء لزيارة الإمام الشيرازي في بيته رداً على الزيارة التي قام بها آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) له عند رجوعه من مدينة أردبيل موطنه الأصلي. 

أجلسه الإمام الشيرازي إلى جنبه، وبعد أن رحّب به طويلاً، قال له: ما هي أخبار أردبيل؟ قال المرحوم الباياني: لوهله ظننت أن الحوزة انتقلت إلى أردبيل، فقال له الإمام: وكيف ؟ قال: أغلب العلماء والمدرّسين رأيتهم في أردبيل، ولكثرة مشاغلي وارتباطاتي لم أتمكن من زيارة الكل، غير عدد ضئيل لا يتجاوز الـ 55 شخص، فسأله الإمام: ماذا يجري في أردبيل، هل هناك مؤتمر استدعى حضور هذا العدد الضخم من العلماء؟ فقال المرحوم الباياني: إنهم جاءوا للاصطياف والاستجمام!! ثم التفت إلى الإمام وقال له: لي في أردبيل بيت وسيع ولأقربائي عدة بيوت، إذا أحببتم قضاء بعض الوقت والراحة فأنا في خدمتكم، فقال له الإمام: لم أفكر يوماً بالإقدام على هكذا خطوة، فالدنيا جد وعمل، والراحة والنوم الطويل ينتظرنا في القبر.

وبدون أية مقدمات أو فاصلة عن الكلام السابق قال الإمام مخاطباً ضيفه: هل سمعتم بالمجزرة التي ذهب ضحيتها عدة مئات من مسلمي البوسنة والهرسك في مدينة (سربنيستا)، لا تتصوروا أن المسؤولية لا تطالنا، نحن مقصرون بالنسب التي نستطيع العمل بها ولم نعمل، والعلماء يأتون في المقدمة، وكذلك وسائل الإعلام تحمل قسطاً وافراً من التقصير؛ فهي لم تتعامل مع هذا الحدث الكبير بالنسبة المطلوبة والعناية المرادة..

هكذا استطاع (قدس الله نفسه الزكية) أن ينقل المستمعين من أجواء الاستجمام إلى أهمية الاهتمام بالحدث العام.

وبعد أن ودع الإمام الشيرازي ضيفه وعاد إلى مكانه ثانية، التفت أحد الجالسين إليه قائلاً: سيدنا ما كنا نحب التحدث بحضور الأستاذ الباياني، فقد يكون محقاً في بعض كلامه، فالسفر في الوقت الحاضر نافع لكم، ومناخ مدينة قم الملتهب، وما أصابكم من فقر في الدم، وآلام ركبتكم تستدعي أخذ قسط وفير من الراحة.

وهنا التفت الإمام إلينا وخاطبنا بحرقة المهموم المحزون على ما يجري في العالم الإسلامي فقال: أنا لم اعبر إلا عما بداخلي بحضور الشيخ، وأقولها إليكم ثانية: إننا لم نخلق للراحة، وإنما للعمل والكدح، وما يجري من مآسٍ في عالمنا يفرض علينا التوجه الجدي لما يحدث، والمسارعة في التحرك قبل فوات الأوان. ثم ماذا أقول لفقراء قم لو سألوني، هل فكرت بنا يا سيد محمد، فنحن مثلك نعاني من الحر وشح المياه وتلوثها؟ عليّ البقاء هنا لكي أواسي الفقراء في هذه المدينة والمدن الأخرى فيما يعانونه. 

ومع اشتداد الأمراض عليه (قده)، وعلى المتعلقين به لم أشاهده يوماً خارجاً من بيته سراً أو علناً، طلباً للراحة أو شوقا للعزلة.

 

الصورة الثانية:

كنت جالسا في مكتب الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية)، وإذا بالهاتف يقدم إليّ للتحدث مع شخص يريدني، رفعت السماعة وإذا بي أسمع صوتاً أعرفه يطالبني بالحضور فوراً لأمر هام؛ وبعد أن وصلت إليه مسرعاً، قال لي: أرجو منك خدمة وهي أن تسرع في إيصال هذا السمك المشوي إلى سماحة الإمام الشيرازي. 

قلت له: طلبك مرفوض، ليس مني وإنما من سماحته الذي يرفض هكذا أكلات ويراها من الترف والبذخ، وأنا لا أستطيع الذهاب به وعندي العلم الكامل برفضه من قبل الإمام، فإن كنت مصراً على إيصاله فأرجو منك إعفائي من المهمة.

فقال: لا بأس أنا أتكفّل بإيصاله لسماحته. 

وصل صاحب السمك – وهو من المقلدين المخلصين لسماحة الإمام – للمكتب مسرعاً، ودخل مباشرة على الإمام الذي كان جالساً مع بعض الناس ووضع أمامه صحناً كبيراً فيه سمكتان مشويتان، وطلب من سماحته التفضل بالأكل قبل أن يبرد السمك. 

وهنا رفع الإمام الغطاء الموضوع على السمك وقال للذي جاء به: ارفع هذه السمكه – وأشار إلى إحدى السمكتين – وقدمها للناس المتواجدين في المكتب، وخذ الثانية للعاملين في المكتب. فقال صاحب السمك: سيدنا جئت بهذا لك، والناس الذين في الخارج ربما أكلوا السمك كثيراً، وأنا سمعت بأن سماحتكم لم تأكلوا السمك منذ سنوات وأحببت أن تأكل من يدي، ثم أردف: سيدنا تفضلوا بالأكل من هذا، وأنا الآن ذاهب إلى السوق لأبتاع السمك للجالسين والعاملين في المكتب.

 فقال له الإمام: أنا أشكرك كثيراً على شعورك، ولكن لي إليك طلب وهو أن لا تكرر هذا الأمر ثانية، أتعرف لماذا؟ لهذه الأسباب: 

أولاً: إن أسعار السمك غالية جداً، ولا يستطيع كل أصناف المجتمع التفكير به، وأنا لا يمكنني شراؤه أو أكله قبل أن يأكله الفقراء. 

ثانياً: ماذا سيقول الناس الذين يدخلون المكتب أو يمرون بجنبه وهم يشمون رائحة السمك طاغية في كل مكان من المكتب؟ أتعلم ماذا سيقولون؟!!.

 ثالثاً: إن الإنسان يستطيع أن يحشو أمعاءه بشيء رخيص وبسيط، أما هذه الأمور – وأشار إلى السمك المشوي - فلا تزيده إلا بعداً عن الدار الآخرة وإقبالاً على ملذات الدنيا الزائلة.

عند هذه النقطة أخذ صاحب السمك يقدم اعتذاره الشديد، وإنه كان جاهلاً سبب عدم أكل سماحته للسمك، وإنه لن يكرر ذلك ثانية.. 

عندها طلب الإمام من أحد المقربين بأن يضع شيئاً من العطور أو البخور في المكتب ومتعلقاته، لكي تطغى رائحته على رائحة السمك ولا يبقى أثر لذلك.

 

الصورة الثالثة:

 مشهد يومي يتكرر أمامي كلما حضرت صباحاً إلى بيت سماحة الإمام الشيرازي (قده)، حيث كنت أشاهد خادم المكتب (الحاج أبو عباس) يقدم ورقة صغيرة تتضمن مشتريات المكتب اليومية والبيت الخاص لسماحته، من مواد الطعام والمتطلبات الأخرى إلى سماحة الإمام، ليقبض ثمنها، وكثيراً ما أرى سماحته يسأل الخادم عن سعر هذه البضاعة أو جودة تلك المواد ولماذا ارتفعت بهذا المقدار؟!. 

وكثيراً ما كنت أسأل نفسي، ترى لماذا يعمل الخادم بهذه الطريقة المملة يومياً؟ أليس من الأفضل أن يقوم بشراء احتياجات المكتب والبيت شهرياً لما لها من فائدة على وقته وقيمة البضاعة، باعتبار أن أسعار الجملة فيها فارق كبير عن أسعار المفرد؟. ولماذا يدقق سماحته مع الخادم بهذه الدقة ويستفسر عن كل الأمور التي جلبها واشتراها؟. 

وفي أحد الأيام سألت الخادم عما يدور في خلدي، وأكدت بأن المسألة فيها منفعة مادية ربما سماحته لم يلتفت إليها، وقلت له لماذا لا تعرض هذا الرأي على سماحته أو أحد المتعلقين به، ربما يستحسنوه وترتاح أنت لبعض الوقت؟ فأجابني قائلاً: المسألة لا ترتبط بي، وإنما هي تأكيدات سماحته بالرجوع إليه في هكذا موارد، وأنا بدوري ألححت عليه سابقاً على ما ذكرتم وأكدت على الارتفاع اليومي الفاحش للأسعار، ولكنه رفض الأسباب وطلب مواصلة العمل يومياً، وأضاف: إذا أحببت معرفة المزيد اذهب وتحسس الأسباب بنفسك. 

الجملة الأخيرة للخادم جعلتني أتحين أقرب فرصة للقاء سماحته ومعرفة الأسباب منه شخصياً، وبعد يومين سنحت لي الفرصة بالجلوس قرب الإمام وسؤاله عن الأسباب، فقلت لسماحته: سيدنا لماذا لا تسمحون للخادم بشراء مواد الطعام واحتياجات المكتب مرة في الشهر لما لها فائدة في الوقت والمال؟ ثم لماذا لا تحولون هذه المهمة لشخص آخر باعتبارها أمراً ثانوياً لا يجب أن يأخذ من وقتكم الثمين؟. 

فقال لي سماحته: استفسارك قد أجبت عليه اليوم لأحد المقربين، وأقول لك كما قلت له: إنني جليس الدار، وهذا يمنعني من معرفة الكثير من الأمور التي تحدث في الخارج، وهذا الشيء الذي يقوم به الخادم يجعلني على ارتباط دائم مع الشارع العام وما يدور فيه وخصوصاً المسائل المتعلقة بالوضع الاقتصادي وتأثيراته السلبية على الوضع المعاشي والاجتماعي، وأنا من خلال هذه الواسطة – الخادم – أتعرّف يومياً على أسعار السوق ومعدلات التضخم ومسائل التوزيع ونوعية المادة أو البضاعة، وما يهمني أكثر معرفة نسب ارتفاع الأسعار وتأثيراتها على الفقراء والضعفاء، وكيف يتسنى لهم مماشاة الارتفاعات العالية والمستمرة للأسعار يومياً. 

فقلت لسماحته: سيدنا كلامكم صحيح وأنا أتفهم احساساتكم ومواساتكم للضعفاء، ولكن الناحية الأمنية يجب أن لا نغفل عنها، الحيطة والحذر مطلوبة في هذه الظروف ودائماً، وهذا الشيء يستدعي الشراء شهرياً وعدم الاقتصار على تاجر معين، وخصوصاً أن الخادم معروف عند الكل وربما يقدم البعض على أذيتكم بواسطة المواد التي يجلبها هذا الخادم يومياً.

أجابني: ربما يكون إشكالك صحيح من بعض الوجوه، ولكنني لا آخذ به، أتعرف لماذا ؟ قلت: كلي آذان صاغية لمعرفة السبب..

قال: أنت تعلم كم يزورني يومياً من الناس على اختلاف أصنافهم وأوضاعهم، فماذا أقول للفقير منهم لو سألني عن علمي بارتفاعات الأسعار وبما يعانون من أزمات وضغوط لتلبية احتياجات عوائلهم؟، هل أقول لهم لا علم لي بما تعانون منه؟ وهل أقدم لهم المساعدة المادية فقط ولا أنظر للمسائل المتعلقة بمعيشتهم؟ أليس من واجب مرجع التقليد أن يكون أول العارفين بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتأثيراتها على أوضاع الفقراء والمحتاجين؟ و...

وهنا قلت لسماحته: أنا اطلب المعذرة على تطفلي...

 

الصورة الرابعة:

الأمراض البسيطة لم تثن يوماً الإمام الشيرازي قدس الله نفسه الزكية من تأدية مهامه بأكمل وجه وأفضل صورة، ولعلّ أغلب الذين عاشروه أو حضروا درسه التفتوا جيدا إلى هذه النقطة وكيف أنه يقوم بالتدريس أو الحضور لملاقاة الناس وهو مصاب بالزكام أو وجع الرأس أو آلام الركبة، أما الأمور الأخرى التي يقوم بها داخل البيت من كتابة ومطالعة وعبادة وتفكير فلم تنقطع وإن تكالبت عليه الأمراض مرة واحدة. 

ولكن عندما اشتد عليه ألم الركبة، ولم تعد هناك فائدة من جميع الأدوية الجديدة لعلاجها أو تسكينها، اضطر إلى إجراء عملية – فصد – في مكان محدد من الركبة، حيث تقتضي العملية شق اللحم بسكين حاد جداً في مكان معين قريب من منطقة الألم وبدون استعمال أية مادة مخدرة، لإخراج الدم المتجمع في تلك المنطقة. 

جيء برجل مسن من أطراف مدينة ساوه – مدينة إيرانية قرب قم المشرفة – لمعاينة ركبة الإمام، وبعد أن عاينها وفحصها جيداً، حدّد مكان الفصد وقال: يجب عليكم أن تمسكوا برجل السيد من الطرفين فالضربة ستكون قوية وعميقة وبدون أية مواد مخدرة. 

استعد الإمام للعملية، وقام الرجل بفصد المكان المعين فخرج الدم وأخذ يتدفق بقوة، وبعد انقضاء فترة قصيرة يعرفها الرجل من خلال تجاربه الكثيرة، قال: هذا يكفي، لنشد الجرح بهذا الرباط، عند هذه المرحلة سقط الإمام مغشياً عليه والرجل ما زال واقفاً، فقال: عليكم بالسوائل والأكلات المقوية للتعويض عن الدم المفقود، وخرج مودّعاً بعد أن دعا له بالعافية.

ولكن الدقائق مرت سريعاً والإمام لم يفق من غيبوبته، لذلك أسرع أحد الحاضرين بالذهاب إلى أحد الأطباء ودعاه لمعاينة السيد المرجع، وأسرع الطبيب بعد مجيئه لفحص الإمام فقال: إن ضغط السيد منخفض جداً بالإضافة إلى أن سماحته مصاب بفقر دم مزمن وهذا ما يجعل الضعف يشتد على سماحته، لذلك سارع الدكتور بإيصال المغذي إلى أحد أوردته، وبعد لحظات أفاق الإمام من غيبوبته، وهنا استغل الطبيب الوضع ليكرر ما قاله سابقاً إلى سماحته – حيث أوصاه في زيارات سابقة بالعناية بغذائه والتركيز على ما يقوي الجسم - فقال: سيدنا وضعكم الصحي يزداد سوءاً وإذا لم تركزوا على المشويات من اللحوم وغيرها، وعصير الفواكه فربما تصابون بأمراض لايمكن شفاؤها بسهولة، ثم أوصى بعض المقربين بالعناية بالسيد وعدم التساهل في تقديم كل ما يساعد على تقويته.

وعندما خرج الطبيب كرّر بعض الحاضرين ما أكد عليه، وقال بعضهم: الضرورة وحاجة المسلمين إلى سماحتكم، تستدعي عدم التفريط بصحتكم والإقبال على تناول الأطعمة التي أوصى بها الطبيب. 

فقال الإمام: كلام الطبيب لغيري، أما أنا فلا أعمل بوصاياه لأن الأمور التي ذكرها تميت القلب وتبعد الإنسان عن العباد ورب العباد، ثم إن الإنسان لا يعلم متى يفارق الدنيا، فماذا أقول لربي لو مت وأنا مقبل على هذه الملذات؟ وهل كل الذين يصابون بمرضي لا يعالجون إلا بهذه الطريقة؟، والفقير الذي ليس لدية مال لشراء هكذا أمور ماذا يعمل لكي يشفى من مرضه

ربما يسأل البعض: إذاً ماذا يأكل سماحته

أقول - وهذا ما يؤيده أغلب الذين عايشوه وجلسوا على مائدته-: إن طعامه المفضل ماء المرق العادي - الذي يصنع من الماء وبعض الزيت وشيء من معجون الطماطم – مع بعض الخبز اليابس المقطع(4).

أما الأمور الأخرى فلا يقربها غالباً، وحتى الولائم التي يقيمها لضيوفه أو التي يُدعى لها تراه لا يقترب إلا من نوع واحد من الأكل، وبالتأكيد هذا النوع يكون أقل الأنواع بساطة وتكلفة، وأنا شخصياً جلست على مائدته كثيراً ولم أره يأكل غير بعض المرق وكسرة صغيرة من الخبز. والحلويات هي الأخرى لا يميل إليها على الرغم من مرور عشرات العلب أمامه يومياً، تلك التي يجلبها العرسان الجدد معهم عند إجراء عقود الزواج في بيت سماحته(5).

 

الصورة الخامسة: 

هناك شيء لم يلفت نظري، غير أن أحد الأشخاص ممن يواظبون على الحضور في مكتب الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) لفتني إليه، ففي أحد الأيام سألت هذا الشخص وقلت له: لماذا أراك تتسابق إلى حضور غرفة الإمام كلما فتحت لعامة الناس – هناك جلسات خاصة مع بعض الشخصيات الزائرة لا يسمح لأحد الاشتراك فيها – فقال: تريد الواقع؟ قلت له: نعم، قال: في الحقيقة أنا أرغب في الحصول على الهدايا من سماحة الإمام، قلت له: وهل هناك مناسبة لتقديم الهدايا؟ قال: لا، ولكن الهدايا التي يأتي بها الناس للإمام يقدمها للحاضرين في غرفته، وأنا خلال العام الماضي حصلت على أكثر من هدية.. وأتوقع الحصول على المزيد كلما حضرت في غرفته. 

قلت في نفسي لماذا لم أتوجه إلى هذه النقطة – لا لغرض الحصول على الهدايا وإنما لتدوين ذلك – ففي جلسات سابقة رأيت هذه الحالة أمامي مرات ومرات ولكنني لم أتوقف عندها، واليوم هذا الشخص يوجهني إليها وكأنه وعاها قبلي، فراجعت بعض الصور التي مازالت مرسومة في ذهني، فشاهدت أن والدي في إحدى زياراته قد حصل على قطعة قماش راقية جداً، وأخي الدكتور كان نصيبه علبة من العطور الغالية، والسيد.. قماش أسود من الذي يلف على الرأس كعمامة، إنه ديدن سماحته لا يحب أن يفرح بالهدايا قبل أن يفرح الآخرون بها.

بعد ذلك أخذت أراقب الوضع في كل مرة يؤتى بالهدايا لسماحته، وخصوصاً الزائرين القادمين من دول الخليج فبعضهم اعتاد على حمل بعض الهدايا لسماحته، فكان حقا المصداق الأمثل للآية الشريفة (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (6)

فهو لا يفرح بما يقدم إليه، ويسارع بتحويله إلى من حضر لديه.. ولم يحزن على ما فاته، وإن كان كبيراً في نظر البعض.. 

كما لم يتردد في الإقدام ثانية على كل فكرة أو مشروع أفشله الآخرون أو صادروه في المرات السابقة، والقصص في هذا المجال كثيرة جداً، وهناك أكثر من حادثة لمصادرة الحقوق الشرعية والأموال الخاصة من وكلائه ومقلديه، ناهيك عن قرارات الحجز على الأشياء المرسلة والواصلة إليه، أما أساليب المنع والإغلاق والنهب والاحتلال لمؤسساته ومدارسه، فهي الأخرى غدت حالة طبيعية لديه لكثرتها وتكررها بين الحين والآخر. 

ولعلّ المشروع الإسكاني الذي أراد بناءه في مدينة قم المشرفة، يعد من أبرز المشاريع التي تم القضاء عليها بصورة غريبة بحيث صودر كل شيء يتعلق بالمشروع، واعتقل كل من له ارتباط وصلة قريبة أو بعيدة بالمشروع، حتى سائقي الشاحنات الذين جلبوا الحديد من مدينة بندر عباس الإيرانية لم يسلموا من قرارات الاعتقال والإهانة.

فقد قامت السلطات بمصادرة الأرض – والتي هي الآن مكان تجمع الباصات في مدينة قم (التيرمينال) – والحديد المرسل من دولة الكويت، ومصادرة كل الأموال المخصصة للمشروع والتي كانت موضوعة في حساب خاص في أحد البنوك والمقدرة بـ 200 مليون تومان.

وعندما سئل الإمام – بعد الحادثة مباشرة – عن خططه المستقبلية في إيران، هل يستمر عليها أم يوقفها؟ قال: إن الواجب علينا أن نعمل بجد ومثابرة وأن لا نتراجع أو نركع أمام هذه التصرفات، والعاملون للهدف الكبير ربما يلاقون أكبر من ذلك، وما عليهم إلا الصمود والتحمل والاستمرار في تأدية مهامهم وأعمالهم، واختتم كلامه بهذه الآية الكريمة: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)(7).

 

الصورة السادسة: 

في صبح أحد الأيام كنت جالساً مع حجة الإسلام والمسلمين السيد حسين الشيرازي ابن المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله الوارف) في الغرفة المجاورة لغرفة الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية)، وإذا بنا نسمع صوت الجرس – وهو العلامة التي بواسطتها يطلب الإمام شخصاً أو شيئاً ما – وبما أن الوقت مازال مبكراً وخادم المكتب لم يأت بعد، لذلك قمنا أنا والسيد حسين بفتح الغرفة المخصصة لسماحته لمعرفة ماذا يريد الإمام في الصباح الباكر. 

وعندما دخلنا الغرفة شاهدنا سماحته يجمع البطانيات الجديدة الموضوعة على الأرض وهو يكرر القول أين ذهبت البطانيات القديمة؟ من رفعها من مكانها؟ لماذا غيّرت؟ ألم أقل لكم لا تغيروا شيئاً في غرفتي؟ فقال له السيد حسين: (حاج آقا) – وهي عبارة احترام ينطق بها المقربون من سماحته عندما يخاطبونه – صحيح أن البطانيات القديمة وسخة وبالية إلا أننا لم نغيرها إلا بعد إلحاح أحد مقلديكم الذي جاءنا يوم أمس حاملاً معه البطانيات الجديدة، حيث فرشها بنفسه.

فقال سماحته مخاطباً السيد حسين: أنت أكثر الناس علماً بحاجة الناس الذين يأتون إلينا يومياً – فقد كان السيد حسين هو المشرف على شؤون المكتب إثر سفر آية الله السيد رضا الشيرازي (دام ظله) إلى الكويت، وسفر حجة الإسلام والمسلمين السيد جعفر الشيرازي (دام عزه) إلى سوريا، واعتقال آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) – فالكل يأتي وهو يحمل طلبات عالية لا نستطيع تلبيتها جميعاً، والبعض يقدر الحالة ويشاهد الظروف بعينه وكثيراً ما يعذروننا ويقبلون باليسير، وأنتم بعملكم هذا – فرش البطانيات الجديدة – ستفتحون ألسنة الناس علينا، وإذا أردنا أن نعتذر إليهم بقلة الإمكانات وضعف اليد لا يصدقون ذلك وهم يرون الجديد والتغيير أمامهم، وربما قال أحدهم: كيف لا تستطيعون مساعدتي وأنتم يومياً تشترون حاجة جديدة. إن صاحب الحاجة يريد قضاء حاجته فقط، ولا يرى مهما غيّر ذلك، ونحن ليس من مهامنا إخبار الناس بأن هذه الأشياء الجديدة مهداة، وحتى إذا أخبرناهم إنها مهداة ربما لا يصدقنا البعض ويقول لماذا لا يهدي الناس إلينا نحن المحتاجين؟!. 

أسرعنا أنا والسيد حسين بجلب البطانيات القديمة من أحد غرف المكتب، وأعدنا فرشها وترتيبها من جديد في غرفة سماحته، فجلس عليها وهو مرتاح. 

ونفس الحالة رأيتها من سماحته عندما شاهد التغيرات التي أجريت على الجدار الخارجي للمكتب، وكذلك عندما رأى أحد الصباغين وهو يهم بصبغ جدران المكتب، فمنعه وطلب من الكل عدم تغيير أي شيء في المكتب بناءاً أو صبغاً.

والى أن توفي (رضوان الله تعالى عليه) لم يقدم أحد على تغيير أي شيء في المكتب، وبقيت جدرانه كما هي مملوءة بالثقوب والشقوق لا تقي الجالسين فيها من لسعات برد الشتاء القارص.

 

  الصورة السابعة:

الذي يجلس عند سماحة الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية) لا يخرج إلا وهو محمّل بالقصص الهادفة والعظات الصالحة، فسماحته إذا لم يذكر قصة مؤثرة لا يترك موعظة حسنة وهو الخبير باستغلال كل شيء لصالح الفكرة التي يريد إيصالها للآخرين.

ففي أحد الأيام كنا جالسين عند سماحته وإذا بمجموعة من التجار الطهرانيين يتقدمهم المرحوم الحاج هادي الكتبي يدخلون على سماحته للسلام عليه، و بعد أن جلسوا بدأ الإمام بالسؤال عن أحوالهم واحداً تلو الآخر.

فقال أحد التجار الطهرانيين: في الأسبوع الماضي كنت في مشهد الإمام الرضا(ع) وقد وفقنا للدعاء لسماحتكم، فقال له الإمام: كيف سافرت إلى مشهد؟، قال: بالطائرة، تركه سماحة الإمام و توجه إلى الحاج هادي الكتبي وقال له: سمعت أنكم أنتم كذلك كنتم في مشهد، كيف سافرتم؟ فقال الحاج هادي: سيدنا بالسيارة.

فقال الإمام: ما الفرق بين ثمن السيارة و ثمن الطائرة؟.

فقال أحد التجار الطهرانيين: 20 ألف تومان. 

فقال الإمام: ربما يرى الإنسان أنه غني و يستطيع أن يستغل ماله للركوب في أية وسيلة، ولكن هذا ليس فخراً، الفخر أن يعرف كيف يحافظ على المال الذي حصل عليه بصعوبة، و كيف تنظر إليه الناس، وهل السفر في الطائرة أو السيارة يؤثر على رأي الناس فيه سلباً أو إيجاباً؟. 

ثم إن الحديث الشريف يقول: (خير الأمور أحمزها) أي أشدها عناءً، ومن يريد زيارة الإمام الرضا (ع) عليه أن يختار الأمور التي تصب عليه الخير العميم، وأنا أرى أن السفر بالطائرة والمبيت في فندق خمس نجوم والجلوس على موائد الطعام المفضلة، تبعد الإنسان عن الهدف الواقعي وتقسّي القلب وتبعده من الرحمة والرأفة. 

والآية الكريمة تقول: (إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى) (8) والمال غالباً ما يكون وبالاً على صاحبه، يجره نحو الطغيان و التكبر، اليوم سفر بالطائرة وغداً بطائرة خاصة وبعد غد سفرة حول العالم، وهكذا يدور الإنسان بدوامة لا تنتهي أبداً.. والطغيان لا يأتي فجأة أو من فراغ، إنه يأتي تدريجياً، شيئاً فشيئاً يصبح الإنسان طاغياً لا يكفيه كل ما بحوزته فيطلب المزيد و المزيد، فيستغل كل شئ للمزيد، و يقوم بأي شئ لطلب المزيد. 

أما لو استطاع الإنسان أن يسيطر على تصرفاته، ويتقيد بمنهاج الزاهدين وسلوك الخائفين، و يراعي ظروف الآخرين، سيكون محبوباً من الخالق ومن المخلوقين، ويبقى ذكره على ألسنة العالمين إلى قيام يوم الدين. 

أحد التجار الطهرانيين لم يستطع رفع رأسه إلى الأعلى خجلاً، فظل مطرقاً برأسه نحو الأرض وهو يبكي، وعندما انتهى الإمام من كلامه، قال هذا التاجر وهو مازال مطرقاً برأسه: أعاهدك سيدي وأعاهد الله جل وعلا أنني لن أسافر إلى مشهد الإمام الرضا (ع) إلا بالسيارة فقط. 

فقال له الإمام: المسألة غير محصورة في الذهاب إلى مشهد بهذه الوسيلة أو تلك، وإنما على الإنسان أن يجعل الزهد منهجه في الحياة، وعليه أن لا يخطو أية خطوة إلا بعد التفكير بها جيداً، هل هي مرضية من الحق تعالى أم لا؟ كما إن المال يجب أن يصرف في الموارد الضرورية والمستحبة والمفيدة للصالح العام، وفي الحديث الوارد عنهم عليهم الصلاة والسلام: (يسأل الإنسان عن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه).

 

الصورة الثامنة:

قيل: (من الصغائر تعرف الكبائر

ونحن إذا أردنا أن نعرف شخصاً ما، نعرفه من تصرفاته في الأمور الجزئية، من طريقة أكله للطعام.. شربه للسوائل.. أسلوبه في الكتابة.. استغلاله للوسائل.. استفادته من الوقت.. تعلقه ببعض الأشياء.. 

وإذا أردنا أن نطبّق هذه القاعدة على السيرة الذاتية لسماحة الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) لرأيناها تنسحب خجلاً من الواقع الذي عاشه الإمام في مختلف ظروف حياته.. 

منها: عندما يريد أن يشرب كأساً من الشاي، فإنه لا يضع في الشاي إلا مكعب صغير من السكر، وإذا أراد أن يحركه، فيحركه بهدوء كي لا يسقط بعضه في الصحن، وإذا سقط شيء من الشاي في الصحن فلا يتركه بل يقوم بشربه أولاً، ولم أره مرة أرجع الشاي لبرودته أو رداءته..

ومنها: الرسائل الواردة إليه بعضها يوضع في أرشيفه الخاص إذا كان مهماً، والبعض الآخر الذي ليس فيه فائدة يحاول أن لا يترك الصفحات والقطع البيضاء الموجودة فيها دون الاستفادة منها، وكذلك الرسائل التي يرسلها فإنه لا يترك فيها بياضاً، وإذا وجد فيقوم بقطعه من الرسالة للاستفادة منه في مطالب أخرى.. 

ومنها: الوقت عنده ثمين جداً، والدقائق على قلتها لا يتركها تذهب سدى، كيف يجعلها تفلت منه وهو الباحث عن المزيد من الوقت للمطالعة والتأليف؟ وربما تكفي الواقعة التالية لمعرفة مدى حرص الإمام على الوقت: 

في أحد الأيام جاءني صديق يعمل في مكتب سماحته وقال لي: اليوم بعد الظهر سيأتي أحد الصحفيين لإجراء مقابلة مع سماحة الإمام ومن الضروري أن تكون حاضراً عند إجرائها. فحضرت في الموعد المحدد، وجاء الصحفي ونصب أدواته استعداداً للقاء، وجاء سماحة الإمام وجلس في مكانه المخصص قائلاً: تفضلوا بطرح الأسئلة، وقبل طرح السؤال الأول أدار الصحفي جهاز التسجيل لإجراء الحوار، وإذا بالجهاز لا يعمل، وتبين أن الجهاز غير موصول بالكهرباء وإن السلك الرابط بين الجهاز والكهرباء قد نسيه الصحفي في مكان غير معلوم، فاعتذر لسماحة الإمام وقال سأبعث شخصاً ليشتري لي بطاريات من السوق، ولن نتأخر إلا عشر دقائق. 

وعندما سمع الإمام بالدقائق العشرة نهض ودخل إلى البيت، ورجع وهو يحمل كراساً صغيراً، وجلس في مكانه وبدأ يقرأ بالكراس وهو يقول لنا: هذا الكراس تكفي الدقائق العشرة لمطالعته، ولم تمض أكثر من عشرة دقائق إلا والإمام قد أنهى مطالعته للكراس والصحفي بدا جاهزاً لطرح السؤال الأول. 

ومنها: قد لا يمر يوم دون أن تُهدى إلى سماحته مجموعة من الكتب على اختلاف أنواعها وقيمها، فكان (قده) يطلبني قبل أن يدخل إلى بيته ويقول لي خذ هذه المجموعة من الكتب وأوقفها في مكتبة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، أو مكتبة الإمام الجواد (ع)، وهذه البقية ستبقى عندي بعض الوقت للمطالعة وبعدها سأحولها لك لتقدمها للمكتبة، فلم تكن لديه مكتبة خاصة، وما يطلبه من كتب وخصوصاً تلك التي يحتاجها في تأليفاته أحضرها بنفسي له من بعض المكتبات العامة أو الخاصة..

ومنها: إنه (قده) لم يشتر مسكناً ولم يمتلك أرضاً أو عقاراً، ليس هو فحسب بل كل المتعلقين به من إخوانه وأولاده، فتراهم يتنقلون من مسكن إلى مسكن بين الحين والآخر، وعندما ألحّ بعض التجار عليه وعلى أخيه آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) بشراء مسكنين لهما اعترضا على ذلك بشدة وقالا للتجار: إذا كان ولابد فاشتروا بالأموال التي خصصتموها لشراء مساكن لنا بعض المراكز الإسلامية أو بعض الحسينيات في الخارج. وبهذه الطريقة استطاعا أن يخرجا من ضغوطات التجار، وأن يقيما بعض المؤسسات في الخارج..

وأعتقد أن هذه الأمثلة والقصص كافية للحكم على شخص كان الزهد يسري بعروقه مسرى الدم.

 

الصورة التاسعة:

يعتقد المسؤولون في بعض الدول أن الناس كلهم من قماش واحد، وإن كانوا من الفقهاء أو المراجع، فالذي لا يبارك خطواتهم، ويعترض على تصرفاتهم، يمكنهم قص لسانه ببعض المال أو بعض الامتيازات الآنية من حطام الدنيا، التي ربما كانت غاية بعض المعترضين.

غير أن هذا الأسلوب (الأموي) لم يعط أية ثمار عندما اصطدم بواقع صلب مقاوم، بأناس نذروا أنفسهم للدفاع عن الحق والعدالة، وعن الحرية والكرامة، وعن الإسلام الواقعي الاصيل، ويأتي في مقدمة أولئك الذين وقفوا وتصدوا بحزم للمخالفات الشرعية المتكررة، فقيدنا الراحل الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية)، الذي غدت قصصه ومواقفه البطوليه أمام الجائرين والمستبدين دروساً وعبراً يترنم بها كل من أراد أن يسلك طرق المقاومة والتحدي.

والأساليب التي اتبعها إمامنا الراحل في مواجهة التعديات على قوانين السماء وتعاليم الأنبياء والأوصياء تختلف من قضية إلى أخرى، فبعض المسائل كان يعالجها (قده) من خلال النصيحة المباشرة وغير المباشرة، بالرسائل الشفوية والكتابية، بالدروس والمحاضرات، باللقاءات الخاصة والعامة، من خلال الكراسات والكتب التي ينشرها ويوزعها يومياً، ومن خلال تحريكه للخطوط والفاعليات المؤثرة في القرارات المختلفة و.. 

وكانت هذه الأساليب المتنوعة في المواجهة تحيّر السلطات، وهي التوّاقة إلى طمس معالم كل الأصوات المعترضة والمخالفة..

ومن الألاعيب التي حيكت بعناية لإسكات سماحة الإمام وجرّه نحو زمرة المصفقين والمتملقين، إرسال الوسطاء والشخصيات وبعض القيادات للقاء سماحته وعرض ما حصلوا عليه، والمتوقع ما يحصل عليه من مزايا ومكاسب إن هو صفق وبايع مثلهم، حتى إن أحد الوفود المهمة التي دخلت على خط الوساطة نقل كلاماً عن أحد المسؤولين الكبار يفيد بأنه حاضر لتقديم كل ما يجعل السيد الشيرازي يعيش بنعيم لا يبور، ولإبداء حسن النية من جانبه فإنه سيرسل مجموعة من سيارات (المرسيدس) للبيت والعائلة، وسيحول 300 مليون تومان لرفع شهرية سماحته في الحوزة، وإنه سيوصي المسؤولين في الإذاعة والتلفزيون على تخصيص أوقات كافية للتبليغ عن مرجعية السيد الشيرازي وأفكاره، وأنه... وأنه...

فقال لهم الإمام: والمقابل؟!!. 

قال أحدهم بصراحة: السكوت.. والمبايعة.. 

فقال لهم: كما تعلمون لو كنت طالباً للدنيا لاستكثرت من المال والجاه وأنا في العراق، ولو كنت أطلب الراحة والرفاهية لما تركت الكويت، والآن أقول لكم أنا لست من أولئك الذين يتكالبون على حطام الدنيا وزبرجها، ويسكتون عن الأخطاء لكي لا تقطع مصادر أموالهم.

في الوقت الحاضر وفي أي وقت أرى انتهاكاً للقيم والتعاليم السماوية، فإنه لا يحق لي السكوت أو الانزواء جانباً وإن أدى ذلك لمصادرة مؤسساتي واعتقال أبنائي..

بماذا أخاطب المظلومين لو أرادوا مني التدخل لرفع الحيف عنهم، هل تعلمون كم الشكاوي التي تصلني يومياً وتطالبني بالمساعدة والمعونة من جرّاء اضطهادهم وظلمهم؟.

لماذا يصر المسؤولون على تكميم الأفواه؟ هل فكروا بعواقب ذلك؟ ولماذا يرفضون الرأي الآخر؟ أين التعددية التي يتكلمون عنها أحياناً؟.

وأخذ الإمام يتكلم ويتكلم، والوفد يستمع باستغراب، لأنه حديث جديد عليهم، لم يعهدوه من أحد قبلاً، فمهماتهم مع الآخرين جميعها تكللت بالنجاح والفوز، واليوم يرون أنفسهم قد اُكلوا بعد أن كانوا هم الآكلين.

وبعد ساعة تقريباً توقف الإمام عن الكلام، فقال أحد أعضاء الوفد: والنتيجة ماذا نقول للمسؤول الكبير عندما نرجع؟ فقال لهم: انقلوا إليه ما سمعتم، قال أحدهم: لا يمكننا ذلك، فقال: هذه مشكلتكم..

 

ومن هذا الموقف ومواقف أخرى مثيلة، تيقن المسؤولون أن الإمام ليس راغباً في الدنيا وما فيها، وهو لا يمكن أن يأتي معهم بطرق الترغيب، فتحول المسار بعد ذلك إلى الطَّرق بعنف بكل أساليب التهديد والمضايقة والمصادرة والاعتقال والمطاردة وبالأوزان المختلفة..

 فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 


(1) مصباح الشريعة ص 137.

(2) نهج البلاغة الكتاب 45.

(3) هناك قصص أخرى من زهد مرجعنا الراحل لم أتكلم عنها عايشها الآخرون وسمعتها عنهم وربما يوفقهم الله في المستقبل القريب لتدوينها لينتفع بها الناس، لذلك اكتفيت بما شاهدت وعايشت.

(4) يطلق على هذه الأكلة في بعض المدن العراقية بـ (المثرودة) أو (المحروق إصبعه) و عند الإيرانيين بـ(اشكنه).

(5) يفضل الإمام الشيرازي (قده) أن يجري عقود الزواج بنفسه، والسبب كما عرفت أنه كان يستغل هذه المناسبة لتذكير الزوجين والحضور المرتبط بهما بأهمية الزواج وطريقة التعامل بين الزوج وزوجته.

(6) سورة الحديد: 23.

(7) سورة محمد: 7.

(8) سورة العلق: 6 و 7.

  الصفحة الرئيسية التاريخ يصنعه العظماء  | أتصلوا بنا