عودة إلى صفحة عاشوراء >>

شارك معنا

أرشيف الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 
 

المعرفة الولائية الحسينية

من الوعي المشتت إلى المنهجة الثقافية

محمود الموسوي

تمهيد وتوطئة

إن معرفة الولاية هي جوهر المعارف الإسلامية وأسماها شأناً ، فهي المعرفة التي تستوعب في خطاباتها أحوال المعصومين ومقاماتهم العلّية ، وترجع هذه الأهمية إلى أنها التعبير الصادق لحركة التوحيد في حياة المجتمعات ، والامتداد الإلهي للمقاصد الربانية في خلق الكون والحياة ، التي نبصر تجليّاتها في معاني الرحمة الإلهية على العباد ، إذ بعث الله تعالى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، وبعده أصطفى الأئمة (عليهم السلام) رحمة لعباده ، ليترجموا مقاصد الحق جل شأنه ، في خلقه ، ولينطقوا ويصدعوا بآيات الحق في أفئدة الناس .

يقول الإمام أبا جعفر (ع) في بيان مكانة الولاية لآل البيت (ع) ، والمعرفة الولائية : (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه ، وباب الأشياء ، ورضا الرحمن تبارك وتعالى ، الطاعة للإمام بعد معرفته) ، وقد نادت الروايات وتوالت التأكيدات على الولاية ، حتى جاء في الحديث :( لم يناد بشيء ما نودي بالولاية) .

والمعرفة الحسينية تندرج ضمن معرفة الولاية ، بل هي الصبغة العامة لمفرداتها ومقاصدها وحركتها ، وهي المحرك الأبرز لوعي الإنسان وتشكيل سلوكه الولائي ، وقد احتلّت مساحة واسعة من صفحات كتب الرواة وأخبار المحدّثين ، نقلاً وتواتراً عن الرسول (ص) وآل بيته الطاهرين (ع)، تعبيراً وتكويناً للأهمية التي تحتلها المعرفة الحسينية بجميع مميزاتها وخصائصها الولائية التي لا يوجد كثير منها في معارف ولائية أخرى .

فقد اهتمّت العناية الربّانية بالمعرفة الحسينية حيث قلّبتها في مناهج ومسارات الساجدين من الأولين والآخرين من الملائكة والأنبياء والرسل ، وكذلك لدى رسولنا الكريم والأئمة الطاهرين وجميع عباد الله الصالحين ، وإلى ما بعد الممات في الحياة الأخرى و أبديتها .

انطلاقاً من أهمية المعرفة الولائية بوجه عام ، وديمومة المعرفة الحسينية وتأججها في قلوب المؤمنين بوجه خاص ، والذي جاء عنها في الحديث ما مضمونه : أن لمصيبة الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تنطفئ أبداً ، فانطلاقاً من هذه المسئولية العظيمة ، توجّهنا بالدراسة والتحليل والمعالجة والتقويم للمعرفة الحسينية المختمرة في وعي المجتمع الإسلامي ، لتكون في أفضل حلّة وأقوم طريقة.

 

توصيف وتقييم

بالملاحظة العلمية والمراقبة الدقيقة للإطروحات في المعرفة الحسينية الولائية ، والحوارات والتساؤلات والقناعات التي تزدحم بها ساحات العطاء الثقافي في المواسم الولائية لإحياء أمر أهل البيت (ع) في العالم الإسلامي ، وبملاحظة الأفكار المتداولة بين أفهام الناس في المجتمع الإسلامي حول المسألة الحسينية ، نستكشف واقعاً يعاني من التفكك والشتات وعدم التناسق في الوحدة الفكرية والسياق الثقافي لمجمل المعرفة الحسينية في ذهنية عامة الناس، بمعنى أن معرفة المجتمع ـ وأقصد به الشريحة الأوسع من الناس ـ تتركّز حول بعض القضايا دون قضايا أخرى ، وكذا يصعب الربط والتنسيق بين ما يؤمن به الفرد من أفكار متعددة حول القضية الحسينية، فتراه يحكّم قوّة العقل حيناً، ويتمسّك بتراث الأجداد دون وعي حيناً آخر، وقد يأخذ تحقيقات العلماء والمحققين منهجاً في تبني بعض الأفكار، ويضرب بتلك التحقيقات عرض الحائط في وقائع وأفكار أخرى، بل قد تكون المعرفة مستوعبة لمجمل المعارف الحسينية ، إلا أن هنالك هوّة واسعة وحجاباً متيناً يمنع من التأثير السلوكي لتك المعارف خارج نطاق العقل ووعيه .

ويصل الأمر من الضعف في الوعي الاجتماعي لأن يؤمن الفرد ويقتنع بمسألة ما ، ويرفض مسألة أخرى قد تطابقها في المناط وتتحد معها في المقصد ، إلا أن بعض التأثيرات الخارجية فكرية أو نفسية ، قد يكون لها الدور في ذلك الرفض وعدم القبول .

هذا ما نجده ماثلاً أمامنا عند ملاحظتنا للوعي الاجتماعي في المسألة الحسينية ، واستخلاصاً من هذه الحركة التفكيرية ، نوصّف وعي المجتمع بأنه مصاب بالشتات والتيه في المسألة الولائية بوجه عام ، وفي عمقها الحسيني بوجه خاص .

 

هواجس ومخاوف

هذه الحالة الفكرية التي تختلج في وعي المجتمع وتصبغ رؤاه ومواقفه، لهي حالة تفرز من النفس الهواجس ، وتخلق في قلوب الحريصين على المعارف الإلهية والدينية الخوف والوجل على مستقبل المجتمع الإسلامي، إذ أن هذه الحالة لا تخلّف انطباعاً حسناً عن ما سيئول إليه وعي المجتمع، والوعي هو الذي يضع المجتمعات في رتبهم في حركة الحضارات وتنافسها على الريادة ، فأهمية الوعي من أهمية الأهداف التي تسعى في اتجاهها أي حضارة ، والحضارة الإسلامية إنما تسعى لإصلاح الإنسان وإصلاح حياته من أجل رضا الخالق عز وجل ، وعن طريق تحمّله لأعباء الرسالة واتخاذها آلية للإصلاح ، لضمانتها من الإنحراف والتجاوز ، لأنها ذات مصدر إلهي قويم ، يقول تعالى : ( إنا عرضا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ...) .

ويزداد الخوف خوفاً عند إدراكنا للخطط التي يرمي إليها أعداء الدين ممن يعملون جاهدين بتخطيط ودراسة لإضعاف الدين ويتربصون به الدوائر ، لقتله في نفوس الناس وتوهينه في وعيهم ، لكي لا يؤتي أكله كل حين .

مآل هذا الشتات الثقافي إذا أهمل من علماء الدين والمفكرين الإسلاميين ، إلى ذوبان المجتمع الإسلامي في التيارات الإعلامية الغربية والانصياع لها في ما تروّج له من أفكار وآراء ، تجهد نفسها نحو سلب وشاح الصبغة الدينية عن مجتمعنا وانتزاع سور الاستقلالية الفكرية عن وعيه ، تحقيقاً لإرادة الهيمنة ، الوقود الذي تتكئ عليه المنظومة الغربية ..

فالجهود الهائلة تبذل من أجل خلخلة المجتمعات لزعزعة وعيهم الديني ، وفصم هويتهم الثقافية ، فكما دلّت الدراسات أن أكبر صناعة لدى الولايات المتحدة منفردة لديها ليست الطائرات أو الحواسيب أو السيارات ، بل هي الترفيه والإعلام الثقافي ، والسلع الثقافية ، ذات السمة الغربية ، حيث بلغ قيمة عائد السلع الثقافية إلى 200 بليون دولارا ، وهي مستمرة بالنمو ،كما و أن الترفيه في جانب الأفلام الهوليودية فقط بلغت 30 بليون دولاراً على نطاق العالم عام 1997م ، وهي في نمو سريع ومستمر ..

فهم يعمدون لاختراق ثقافي يزلزل الوعي الديني الذي يميّز حركة المجتمع المسلم عن غيره ، يميّزه بارتباطه الإلهي وانتمائه الرباني لله تعالى ،البعد الذي تمثّله الثقافة الولائية في عمقها وتترجمه إلى واقع عملي صادق.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، سؤل الإمام أبا جعفر عن هذه الآية المباركة ، فقال (ع) :(إيانا عني) .. فهنالك ارتباط بين تقوى الله تعالى وكوننا منتمين ثقافياً مع أهل البيت (ع) الصادقين ، الذين لهم الولاية الحقّة من عند الله تعالى .

فيتعيّن علينا الحرص التامّ على ثقافتنا الولائية وتنقيحها وتنقيتها من الشوائب الدعائية ، و الأغراض الدنيوية الزائلة ، لأنها السبيل القويم إلى الله تعالى ، فقد جاء عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : ( أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب ، فجعل لكل شيء سبباً وجعل لكل سبب شرحاً وجعل لكل شرح علماً وجعل لكل علم باباً ناطقاً ، عرفه من عرفه وجهله من جهله ، ذاك رسول الله ( ص) ونحن ) .

 

معالجة وتقويم

أهم ما يحتاجه الشتات المعرفي والوعي المشتت عند إرادة المعالجة والتقويم ، هو بعد (المنهجة) في جمع تلك المعارف الولائية ، فإننا قد سلّطنا الضوء على إشاكلية الوعي الولائي والحسيني ثقافياً ، و نظرنا للملمح الثقافي في المجتمع ، فما يحتاج إليه هو العلاج من سنخ الجنس وذات التوجه ، ليقوم أوده بطريقة معرفية هي المنهجة للأفكار ، ليتحوّل الوعي المشتت إلى ثقافة ممنهجة محكمة .

والهدف الاجتماعي من هذه الوصفة ، ليكون المجتمع في ثبات واستقرار ثقافي فيما يختص بالولاية وما يختص بالمسألة الحسينية،(فالثقافة ـ أي ثقافة ـ إنتاجاً ووعياً ـ إنما ـ هي وليدة المنهج الذي يضبط إيقاع حركة الفكر ، يربطها بالمنشأ والمبدأ ، ويحفظ سيرها نحو الهدف ) .

والمنهجة للوعي والأفكار هي الاستيعاب العام لمجمل المعارف وربطها ببعضها ربطاً موضوعياً في حالة تناسقية ، منسجمة مع بعضها البعض ، وبالتالي تسبب وضوح الرؤية للفرد ، فلا تلتبس عليه الأمور، ولا يخترقه الفكر الغريب عن مضمون ثقافته .

 

معان وآفاق

المنهجة هي أن نجعل الشيء ذا نهج ، والنهج في اللغة بمعنى البيّن الواضح ، ويقال انتهج الطريق أي : استبانه وسلكه .

وفي الجانب الاصطلاحي الذي يتداوله المفكرون ( للمنهجية) أنها اصطلاح يعني ( إفادته من الطريقة التي يستخدمها نظام فكري أو علمي ما في جمع مادّة معرفية ـ أو معلوماتية ـ واستخدامه لها ) .

والبصائر القرآنية في موضوع المنهجة تغنينا وتزوّدنا بآفاق أخرى موضحة مقاصد المنهجة في عمقها المجتمعي من أجل الحفاظ على الثقافة الإلهية من تموجات الزمان وأهواء البشر ..

يقول الله تعالى : ( وأنزل إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) .

إن الله تعالى أنزل (الكتاب بالحق) فهو الذي يمثّل ثقافة الحق من الحق عز وجل ، وهي بهذه الصفة لها الهيمنة على سائر الثقافات البشرية التي ما أنزل الله بها من سلطان ، فإن الله جل وعلا جعل لكل دين سماوي شريعة تمثّل القوانين والنظم و المعارف ، ومنهاجاً يمثّل عملية التطبيق وضمان سيرها في الاتجاه الصحيح .

ومن المعاني للشرعة والمنهاج في الآية نقل صاحب تفسير التبيان في تفسير القرآن ، عن المبرّد قوله : (الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر) ، فالمنهاج بهذه المعاني المتوافقة يضمن وضوح الرؤية واستمرارها ضمن تطلّعات الإنسان ومعتقداته لا ينفكّ عنها ، وقد أشارت الآية المباركة إلى بعد هام ، يشير إلى أهمية أن يكون للإنسان منهج واضح في معارفه ودينه، وهو ضمانة استقلالية الفكر والمعتقد ، وضمانة عدم إتباع العقل للأهواء البشرية التي تتربص بالدين ، وذلك في قوله تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) .

وهذا بالضبط ما نهدف الوصول إلية (عدم التأثّر بأهواء البشر وما تروّج له من دعايات توهن ثقتنا ووعينا بالمسألة الحسينية الولائية) عن طريق منهجة الأفكار بالاستدلال عليها وربطها بكليات مقاصد الشريعة ومضامينها.