نبض الإنسانية الخالد..

كتب عاشوراء

 صفحة عاشوراء

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

   

 العودة الى فهرس الكتاب

 

الثقافة الحسينية/ الفصل الثالث: رؤية تاريخية.. انفعالات الثقافة في المسيرة الحسينية

الإمام الحسين في ساحة الثقافة

 

الثورة الحسينية نمط آخر من الثورات، فقد أسّست واقعاً مختلفاً وفكراً وأدباً خاصاً ومتميزاً، إنها ثورة في كل جوانبها إضاءات، ولذلك نقرأ فيها فكراً حسينياً وأدباً كربلائياً. ولكل ذلك أسباب، والأسباب عديدة، نلقي الضوء في بحثنا هذا على دور الثقافة في المسيرة الحسينية ومشاهد انفعال الثقافة فيها، فلم تكن الثورة ذات جانب سياسي فحسب كما يحلو للبعض، ولم تكن ساحة عسكرية، بل هي قبل ذلك صراع القيم، وثورة القيم، وقد استوعبت الكثير من الجوانب التي تتصل بالإنسان، لأنها ثورة من أجل الإنسان بمنطلقاتها الإلهية.

نؤكد في البدء أن للإمام المعصوم في العقيدة الإسلامية دوراً واسعاً في حركة المجتمع، ومنه أنه يهتم بالشأن الثقافي ويمارس العمل في ميدان الثقافة، التي هي المعارف المحركة للمجتمع والمتحكمة في دينامكيته، والإمام الحسين(ع) بصفته أحد المعصومين سار على ذات المنهاج، وقد تميّز بأنه (ع) كان ربيب رسول الله (ص) في طفولته، وربيب السيدة فاطمة الزهراء (ع) في صغره، وربيب أبيه الإمام علي في شبابه، ومصاحباً لأخيه الإمام الحسن في كهولته.

وقد ورد في الحديث (كان الحسن والحسين يغران العلم غرا) وقال حبر الأمة عبد الله بن عباس : (الحسن من بيت النبوة وهم ورثة العلم)[1].

فمن الأسباب التي أدّت إلى تكوين الانفعال الثقافي بعد الثورة الحسينية بهذه السعة وهذا العمق هو انفعال الثقافة والفكر في حياة الإمام (ع) منذ الصغر، فقد كان (ع) مستوعباً وممارساً للمعارف الإلهية منذ صغره، والحوادث التاريخية تشهد بذلك بكل وضوح.

وقد غرس في قلبه أبوه الإمام أمير المؤمنين (ع)، بصائر الحق ونور العلم بالوصايا التي كان يوصيه بها في صغره، ومما قاله (عليه السلام) لأبنه الحسين : (" يا بني أوصيك بتقوى الله عز و جل في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصديق والعدو والعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله تعالى في الشدة والرخاء .

يا بني ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعد النار بخير، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية ..

اعلم يا بني أن من أبصر عيب نفسه شغل عن غيره، ومن رضى بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن كابد الامور عطب، ومن اقتحم البحر غرق، ومن أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه عليهم شتم، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن خالط الانذال حقر، ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخف به، ومن اعتزل سلم، ومن ترك الشهوات كان حرا، ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس)[2].

ومنها أنه عندما ارتقى المنبر أحد الرجال غير المؤهلين ، وقف الإمام الحسين وهو طفل صغير وقد دعاه أمام الحاضرين للنزول عن المنبر وقال هذا منبر أبي، لأنه كان يؤمن بأن ولاية الإمام علي (ع) من الله ولا يحق لأحد أن يتقمّص الخلافة وقد قال له الرجل مستغرباً علمه بذلك: (فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي من علّمك هذا أبوك علي بن أبي طالب؟

 فقال له الحسين (ع): إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه لهاد و أنا مهتد به و له في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله نزل بها جبرئيل من عند الله تعالى لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب قد عرفها الناس بقلوبهم و أنكروها بألسنتهم و ويل للمنكرين حقنا أهل البيت ما ذا يلقاهم به محمد رسول الله (ص) من إدامة الغضب و شدة العذاب...)[3].

وكذلك في القصة الشهيرة التي كان مع أخيه الإمام الحسن وهما صبيان صغيران وقد علّما الرجل الكبير الوضوء، فقد نم ذلك عن حكمة وعلم، ووضع لنا الإمام (ع) منهاجاً تربوياً للتأثير في الناس من أجل الخير.

ويمكننا أن نلاحظ اهتمامه (عليه السلام) بالمجتمع وبأحوال وعيه، من خلال متابعته لحركة الثقافة في المجتمع وسؤاله من يلاقيهم عن أقوامهم، فينقل لنا التاريخ أن الإمام الحسين (ع) لمّا أتاه جعيد الهمداني، بادره الإمام بالسؤال: (أخبرني عن شباب العرب ؟) فأخبره .. وعندما قدم عليه (أناس من أنطاكية سألهم عن حال بلادهم ؟ وعن سيرة أميرهم فيهم ؟ فذكروا خيراً، إلا أنهم شكوا البرد).

ومثال على رجوع الناس إليه في الفتيا ما نقل أن عبد الله بن الزبير قد استفتاه قائلا : " يا أبا عبد الله ما تقول في فكاك الأسير على من هو ؟ " .

فأجابه (ع) : " على القوم الذين أعانهم أو قاتل معهم...".

وسأله ثانيا " يا أبا عبد الله متى يجب عطاء الصبي ؟ " .

فأجابه (ع) : إذا استهل وجب له عطاؤه ورزقه "[4] .

وقد كان مجلس الإمام الحسين (عليه السلام) حافلاً، وملتقى للعلم، حيث يفد الناس عليه لينهلوا من علمه، بل تميّز مجلسه بأنه مجلس جاد وذو أهمية، يتضح ذلك من جواب معاوية لسائل من قريش يسأله عن المكان الذي يجد فيه الإمام  الحسين (ع) فأجابه معاوية بقوله : (إذا دخلت مسجد رسول الله (ص) فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله)[5].

هذه نماذج من الفعل الذي كان يمارسه الإمام (ع) في المجتمع، كما ويمكننا أن نضيف بعض المشاهد المهمة في هذا المجال ألا وهي رحلات الإمام (عليه السلام) إلى الحج، فإن الروايات تؤكد على أنه (ع) قد حج خمسة وعشرون سنة، والحج يمثل ملتقى للشعوب المختلفة، وقد استثمر الإمام الحج في توعية الناس وتغذيتهم بالمفاهيم الإلهية، وقد تمثلت صور العطاء في الحج في الحوار أو الدعاء أو الإجابة على التساؤلات أو إلقاء الخطب، ولعل أشهر تلك الخطب تلك التي ألقاها قبل موت معاوية بسنتين في مؤتمر (منى)، فقد جمع الإمام الحسين (ع) بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم، والأنصار، وأصحاب الرسول (ص) وأبناءهم، والتابعين والمعروفين بالصلاح، فاجتمع في ذلك المؤتمر أكثر من ألف رجل .. فألقى الإمام (ع) فيهم خطبته الطويلة التي حوت معالم الثقافة الإسلامية في جوانب عديدة ومن أبرزها الجانب السياسي، وتضمنت واقع بني أمية، وجاء فيها : (أما بعد فإن الطاغية قد صنع بنا و بشيعتنا ما قد علمتم و رأيتم و شهدتم و بلغكم و إني أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني و إن كذبت فكذبوني اسمعوا مقا لتي و اكتموا قولي ثم ارجعوا إلى أمصاركم و قبائلكم من أمنتموه و وثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون فإني أخاف أن يندرس هذا الحق و يذهب و الله متم نوره و لو كره الكافرون فما ترك الحسين شيئا أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله و فسره و لا شيئا قاله الرسول في أبيه و أمه و أهل بيته إلا رواه و كل ذلك يقول الصحابة اللهم نعم قد سمعناه و شهدناه و يقول التابعون اللهم قد حدثنا من نصدقه و نأتمنه حتى لم يترك شيئا إلا قاله ثم قال أنشدكم بالله إلا رجعتم و حدثتم به من تثقون به ثم نزل و تفرق الناس على ذلك ..)[6] .

هذا فضلاً عن كلمات الإمام الحسين وتوجيهاته المضيئة بالعطاء الثقافي  طول فترة إمامته التي دامت عشر سنوات وعشرة أشهر ومنها قوله (ع) : (إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس سائلاً ناكباً عن المنهاج، طاعناً بالاعوجاج، ضالاً عن السبيل، قائلً غير جميل).


[1] حياة الإمام الحسين (ع) ، باقر شريف القرشي.

[2] حياة الإمام الحسين (ع) ، باقر شريف القرشي

[3] الاحتجاج ، 292 ،  2

[4] حياة الإمام الحسين (ع) ، باقر شريف القرشي.

[5] حياة الإمام الحسين (ع) ، باقر شريف القرشي.

[6] الاحتجاج ،  296 ،  2