ملحمة بطولة وجهاد عز..

عودة إلى صفحة عاشوراء >>

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

 
 

تعالوا نبك الحسين (عليه السلام)

الدكتور باسم العطية

يتفرد الإنسان بعاطفته الجياشة، وشعوره المرهف في الأفراح والأحزان، فإن الحزن مولّد الطاقة الباعثة عنده على البكاء.

ومن الناحية الطبية يتم البكاء عن طريق إفراز الغدد الدمعية، ويتكون الجهاز الدمعي من الغدد التي تفرز الدمع، والكيس الدمعي، والقنوات الدمعية لكل عين، والسائل الدمعي هو في حد ذاته أعجوبة من أعاجيب خلق الله تعالى، إذ إن هذا السائل يحتوي على مادة أسمها (ليزوزيم)، وهذه المادة قد اكتشفها سنة 1922م العالم الغربي (الكسندر فلمنغ) مكتشف البنسلين فيما بعد، وهذه المادة في الواقع هي الجهاز الواقي والدفاعي عن العين، والعين بدون هذه المادة تكون معرّضة أكثر للتلوث فهي التي تهاجم الميكروبات التي تدخل إلى العين.

وتقوم الدموع بترطيب العين وتعقيمها وتنظيفها مما يعلق بها من أتربة وغبار والكمية المصنعة هي ذاتية التنظيم، تفرز عادة الكمية اللازمة لوقاية القرنية من النشفان، ولتبقى مقلة العين في رطوبة كافية، فلو حدث النشفان فإنه يسبب ألماً ويؤثر بطبيعة الحال على البصر. وعندما تتحرك العين، أو ترمش الجفوف لا يقع احتكاك بين غشاء الجفن الداخلي المسمى بالملتحمة ومقدمة العين التي ينزلق عليها ويعرف كل منا ولا شك أن طعم الدمع مالح، وهذا له فوائد جمة، منها في تذويب الأتربة والغبار وغيرها مما يدخل إلى العين، وبالإضافة لوجود المادة الدهنية في الدمع يقلل أو يمنع تبخر السائل الدمعي كما أن في حال وجود دخان أو أجسام مثيرة أو مهجية في الجو تزداد كمية الدموع تلقائياً، وهذا يعطينا مزيداً من المادة الليزوزيم للتطهير، كما أن فيضاً من السائل الدمعي يسيل ليذيب الأوساخ ويغسل العين.

والسائل الدمعي بعد أن يقوم بغسل العين وتزييت العين وإبادة الجراثيم يخرج من خلال أنبوب تصريف دقيق جداً وهو مجرى للدمع خاص يصب في الأنف.

ويزيد إفراز الدموع عند البكاء، حيث إن من أسباب جريان الدمع حركة القلب الناتجة عن ضغط الأشياء والصور والأفكار المؤلمة والموحشة على نفس الإنسان، حيث تهدأ النفس، وتبرد لوعة الحزن، وكما أن الدموع تغسل العيون فإنها كذلك تغسل القلوب مما علق بها من أدران، إذا كانت العين تبكي من خشية الله، وهذه هي أحد فوائد ومنافع البكاء.

بكاء الأطفال :

لا شك أن بكاء الطفل هي لغته الخاصة به والتي يعبر بها عما في ضميره قبل أن ينطق بالحرف، وهي اللغة التي يسميها الفلاسفة (لغة الطبيعة) إذ هي لغة إشارات وعلامات طبيعية لا يفهمها إلا من لاحظها واعتنى بواقع الإشارات منها، ومن المعلوم من الناحية النفسية والطبية أن بكاء الطفل كلما كان شديداً وكان صافياً لا ترافقه خفة ولا بحّة كان دليل الصحة، كما أنه كلما كان ضعيفاً أو مختلف الرنة والصوت فهو دليل انحرافها، وينقسم البكاء عند الرضيع إلى عدة أقسام، فكل قسم منه يدل على غرض من أغراضه وهي كالآتي:

1- البكاء من الجوع: وعلامته أن يكون صيّاحاً عالياً، وأن يضع الطفل إصبعه في فمه، وأن ينتهي بسرعة عندما يلتقم الثدي وقد ترافقه نغمة تدل على القلق.

2- البكاء من العطش: وعلامته السكوت عند وصول الماء إليه.

3- البكاء من المغص: وعلامته شدة الصراخ وثني الفخذين على البطن، وربما يصبحه شيء من القيء والإسهال، أو الإمساك، أو انتفاخ البطن.

4- البكاء من البرد: وعلامته استمرار البكاء مع المسكنة، ثم الوقوف فجأة عند حصول الدفء.

5- البكاء من القلق: وهذا ينتج عن أمور كثيرة منها عدم انتظام ملابسه أو اختلاف قماطه..

6- البكاء من النعاس: وعلامته أن يكون مع فرك عينيه والسكوت إذ اضطجع وهدهد له.

7- البكاء من الألم أو المرض: وعلامته امتناعه عن وضع حلمة الثدي في فمه بسبب التهاب في الفم، وإذا كان سعال مع عبوس في الوجه فهو دليل على وجع الصدر، وإذا كان البكاء عند التبرز أو قبله فهو لوجع البطن وإذا كان مع بحة في الصوت فهو لوجع الحنجرة وإذا كان صوت البكاء ضعيفاً مع أنين داخلي دل على ألم شديد داخلي إلى غيرها من الأسباب الكثيرة.

8- البكاء من أجل الاستماع: إن الطفل وبسبب استمراره بملاصقة صدر والدته عادة يألف الاستماع إلى دقات قلبها فيطرب لذلك ويأنس.

وهذا عرض موجز لحالات البكاء عند الأطفال

البكاء في الشريعة الإسلامية

أجمعت المصادر وقصص الأنبياء على وجه الخصوص أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا بكائين لما يمتازون به من رأفة ورقّة في قلوبهم من جانب وخشيتهم من الله من جانب آخر، ويكفي لنا الشاهد الفصل قوله عز وجل حكاية عن يعقوب (عليه السلام): (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).

كما أن البكاء رحمة سواء كان من القلب أو العين وما كان من حزن في اللسان بالدعاء والابتهال، والتحميد والاسترجاع، أو باليد في إقامة الولائم للفقراء تنفيساً عن كربة، أو إزاحة لغم فهو من المرجحات في الشريعة الإسلامية، لأن الله عز وجل لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بما يطلقه اللسان من عبارات تبدي السخط، وتعبّر عن الاحتجاج عن قضاء الله عز وجل وقدرته وابتلائه، فعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا – وأشار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى لسانه).

وفي البكاء فضيلة وثواب كما هو الحال في البكاء من خشية الله، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) (كل عين باكية يوم القيامة ما خلا ثلاثة أعين، عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين سهرت في سبيل الله)، وكذلك البكاء لفقد الأنبياء والأوصياء وأولياء الله تعالى (عليهم السلام) لأن هؤلاء هم الذين يمثلون خلافة الله على خلقه ويبلغون رسالاته إلى عباده، والبكاء عليهم هو بكاء انقطاع الأوامر الإلهية والنصائح الملكوتية التي قد تنقطع بموتهم، وأحكامه التي قد تتعطل بفقدهم وبالخصوص البكاء على فقد سيد المرسلين نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما وتدل السيرة النبوية الشريفة على جواز البكاء لفقد الأرحام والأقرباء والأصدقاء وأهل الإيمان والصلاح فإن هذا النوع من البكاء هو ليس جزء، وإنما هو إظهار الحزن لفقدهم، وهو غير مناف للصبر ولا للرضى بالقضاء والقدر الإلهي ما لم يشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبئ عن الجزع وتذهب بالأجر وهذا إذا قصد به التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفعله متواتر في موارد كثيرة نذكر منها:

1- يوم مات عمه وكافله أبو طالب (رضوان الله عليه) حيث رووا عن الإمام علي (عليه السلام) قال: (لما مات أبو طالب أخبرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بموته، فبكى وقال أذهب فأغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه الله).

2- يوم استشهد الحمزة عمه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أُحد فعن ابن مسعود قال: (ما رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باكياً أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب (أي شهق) حتى بلغ به الغشي يقول يا عم رسول الله، يا حمزة يا أسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذاب عن وجه رسول الله، يا مانع عن وجه رسول الله).

3- يوم استشهد ابن عمه جعفر (رضوان الله عليه) حيث قال البخاري في صحيحه: (إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نعى جعفراً وزيداً، وابن راحة وإن عينيه لتذرفان).

4- يوم زار (صلى الله عليه وآله وسلم) قبر أمه آمنة بنت وهب فبكى وأبكى من حوله عن أبي هريرة قال: (زار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله).

5- عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً، قال وما هو؟ قال فإنه شديد، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت في حجرك، قالت: فولدت فاطمة (عليها السلام) الحسين (عليه السلام) فكان في حجري، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعته في حجره ثم حانت مني إلتفاتة، فإذا عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهريقان الدموع، قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل (عليه السلام) وأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، فقلت هذا؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء).

وعن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يقتل حسين على رأس ستين من مهاجري).

نعم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى على ولده الحسين بن علي (عليهما السلام) وهو سبطه وريحانته وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه حباً شديداً وقال عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط).

وقال أبو هريرة ما رأيت الحسن والحسين إلا فاضت عيناي وذلك إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل فمه في فمه ثم يقول: (اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه يقولها ثلاث مرات)، فكيف لا وقد كان الحسين (عليه السلام) خلال السنوات التي أدرك فيها جده (صلى الله عليه وآله وسلم) ملازماً له في كل أوقاته، في إرشاده وأداء فرائضه حتى في ساعات فراغه، فقد نال رعايته وعطفه وجلله بحنانه، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرع الأسماع وينبه الأذهان موقفاً بعد موقف على عظمى الحسين (عليه السلام).

وكان من اهتمام النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) به حتى اعتبره جزءاً لا يتجزأ منه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (هذا مني وأنا منه وهو محرّم عليه ما يحرّم عليّ).

وقد رافق الحسين (عليه السلام) موكب التبليغ والتبشير بالإسلام وعاش وسط ذلك المجتمع الذي وجهه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بإرشاده وهدايته وشاهد مواقف جده ر(صلى الله عليه وآله وسلم) وخلّص أصحابه في سبيل نصرة الإسلام، ونشر مبادئه، وقد قدم الحسين (عليه السلام) نفسه وعياله وأصحابه قرابين مجزرين كالأضاحي في سبيل هذه الأهداف التي جاء من أجلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام): (.. ولما فجع الحسين (عليه السلام) يوم العاشر من محرم بأهل بيته وولده ولم يبق غيره وغير النساء والأطفال وغير ولده المريض علي الملقب بالسجاد (عليه السلام)، نادى: هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدم إلى باب الخيمة وقال: ناولوني علياً الطفل حتى أودعه، فناولوه الصبي، فجعله يقبله ويقول: ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم جدك! فبينما الصبي في حجره إذ رماه حرملة بن الكاهل الأسدي، فذبحه في حجره فتلقى الحسين (عليه السلام) دمه حتى امتلأت كفه ثم رمى به نحو السماء، وقال: اللهم إن حبست عنا النصر فأجعل ذلك لما هو خير لنا. ثم نزل الحسين عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه وزمله بدمه وصلى عليه).

وذكر السلامي في تاريخه أن الحسين (عليه السلام) أنشأ هذه الأبيات بعد مصرع طفله الرضيع ولم يبق أحد معه في الميدان، وليس لأحد مثلها وهي قوله (عليه السلام):

فإن تكن الدنيا تعد نفيسة فدار ثواب الله أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ في الله بالسيف أفضل

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً فقلة حرص المرء في الكسب أجمل

وإن تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل

سأمضي وما بالقتل عار على الفتى إذا في سبيل الله يمضي ويقتل

إن معركة عاشوراء التي وقعت في العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة هي أقصر المعارك في التاريخ، ابتدأت وانتهت في نصف نهار، إلا أن هذه المعركة القصيرة حفظت في ذاكرة الزمن وأصبحت من أعظم معارك التاريخ تأثيراً في الأرض على الإطلاق لأن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تحمل في طياتها من الدروس والعبر، والأخلاق السامية والمبادئ الحقة ما لم تحمله أي ثورة على وجه الأرض، كما أن التضحية التي قدمت بهذا الشكل المفجع لم تقدمه أي ثورة وهو ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفلذة كبده.

إن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) جاءت في ظروف عصيبة مرت بها الأمة الإسلامية، جاءت لتصحح الانحراف الذي حصل في الأمة، والتاريخ يشهد لأسباب ثورته وأهدافها النبيلة، ونلاحظ ذلك من خلال وصف الإمام الحسين (عليه السلام) لحكومة يزيد آنذاك قائلاً: (إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء).

وقال عليه السلام: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..) فقد نهض سلام الله عليه وهدفه الإصلاح ووسيلته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن الحسين (عليه السلام) كان أبياً للضيم، مقاوماً للظلم، مستهيناً بالموت، في سبيل الله وفي سبيل الحق والعدل متحدياً صلباً لكل ما راج من مظاهر الفسق والفساد والتحلل الخلقي، وما خالف دين جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عهد خلافة يزيد بن معاوية، فكان بذلك تأثراً عظيماً لا يهاب الموت، ولا يرضى بالذل والخنوع والتسليم.

إن البكاء على الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) عمل تربوي رائع يقصد من خلاله توجيه الإنسان إلى حقيقة الحسين (عليه السلام) والى معرفة عظيم شخصيته، ومن ثم الاستفادة من الدروس والمواعظ والإرشادات والنصائح التي قدمها الحسين (عليه السلام) للإنسان في كل مكان، فهذه العين التي تجود بمائها رخيصاً في سبيل البكاء على أهل البيت (عليهم السلام) لا تبكي يوم تبكي العيون، فعلى مثل الحسين (عليه السلام) فليبك الباكون ولتذرف الدموع.

وآخر دعوانا الحمد الله رب العالمين.

 

شبكة النبأ المعلوماتية/ ملف عاشوراء 1425هـ