q
إسلاميات - القرآن الكريم

فسق المترفين وانحدار الأمم

من كتاب خواطري عن القرآن

إرادة الإهلاك التنفيذية، ليست أول الأسباب، وليس هذا التسلسل المستطرد في سير الآية، تسلسلاً حقيقياً لو كانت الإرادة الواردة فيها، تنفيذية، وإنما التسلسل بالعكس: فالفسق، هو السبب الأول. وإرادة الهلاك، هي السبب الثاني المتولد من السبب الأول. وأمر الله المترفين بالفسق، من المعدات التكوينية للفسق...

((وإذا أردنا أن نهلك قرية، أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا)). الإسراء: الآية 16

(1)

هذه الآية تعرض سبب انهيار المجتمعات البائدة، والطريق العفوية التي تجري فيها المجتمعات نحو الهلاك.

وقبل البدء بتفسير هذه الآية لا بد من بيان المواد التي استخدمت في بناء هيكل الفكرة التي تعرضها، وهي:

1- إرادة الله إهلاك قرية.

2- أمر الله مترفيها بالفسق.

3- الفسق المدمِّر.

فهذه المواد، هي الأسباب المتوالدة التي تنتهي إلى انهيار المجتمعات، وهي بالتتابع:

أولاً: إرادة الله إهلاك قرية

وبما أن الله –تعالى– خير مطلق، ومصدر الخير كله، وإهلاك قرية، شرٌّ؛ لا يمكن أن تصدر من الله إرادته مباشرة، ودون أن تسبقه إرادة شيطانية شريرة، متقمصة بعمل بشري شرير، يكون استمرارها شراً كبيراً، لا يصح تركها للنمو والتوسع، وإنما يكون وضع حد لها –ولو بإهلاك قرية– خيراً، فتصدر إرادته من الله.

فإرادة الإهلاك (التنفيذية)، ليست أول الأسباب. وليس هذا التسلسل المستطرد في سير الآية، تسلسلاً حقيقياً – لو كانت الإرادة الواردة فيها، (تنفيذية) –، وإنما التسلسل بالعكس: فالفسق، هو السبب الأول. وإرادة الهلاك، هي السبب الثاني المتولد من السبب الأول. وأمر الله المترفين بالفسق، من المعدات التكوينية للفسق.

وأما إذا كانت الإرادة الواردة في الآية (إنشائية)، فهي السبب الأول. لأن الإرادة الإنشائية من توابع العلم بما يكون، ولكنها لا تغير في ظاهر الكون. لأن العلم الأزلي بأن أهل قرية كذا يفسقون في تاريخ كذا؛ يولد إرادة الإهلاك الإنشائية. فإذا وجد أهل تلك القرية وفسقوا، تتولد الإرادة الفعلية من الإرادة الإنشائية، ثم تتولد الإرادة التنفيذية في الإرادة الفعلية.

والإرادة التنفيذية، هي التي تغير في ظاهر الكون.

والإرادة الإنشائية –في حقيقتها– ليست سبباً للإهلاك، بل هي أولى المسبقات، المؤدية إلى الأمر. وإنما الفسق هو السبب الأول –في مجال السير الموضوعي للأسباب والمسببات–، والإرادة هي السبب الأول –في السير التنفيذي للأسباب والمسببات–.

ثانياً: ربما يقال: أمر الله مترفيها بالفسق؛ ومن يوجه ذلك بالتالي:

بما أن الله –تعالى– خير مطلق، ومصدر الخير كله، وأمر المترفين بالفسق، شر؛ لا يمكن أن يصدر من الله. فالأمر –في هذا التعبير–: ليس أمراً تشريعياً، لأن الأمر التشريعي صادر بالنهي من الشر. وليس أمراً تكوينياً، لأن الأمر التكويني لو كان صادراً بالفسق، لما صحَّ صدور الأمر التشريعي بخلافه، ولما صح العقاب عليه.

(وهنا) حديث شريف ربما يستقى بعض ما ذكرناه من خلاله، نقله الشيخ الصدوق – قدس سره – في كتابه الجليل (عيون أخبار الرضا عليه السلام)، نقتطف منه ما يلي:

قال الرضا (ع) لسليمان المروزي: ألا تخبرني عن قول الله عز وجلَّ: ((وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)) يعني بذلك: أنه يحدث إرادة؟

قال: نعم.

قال (ع): فإذا أحدث إرادة، كان قولك (إن الإرادة هي هو أو شيء منه) باطلاً، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه، ولا يتغير عن حاله –تعالى الله عن ذلك–.

قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة.

قال (ع): فما عنى به؟

قال: عنى فعل الشيء.

قال الرضا (ع): ويلك كم تردد في هذه المسألة، وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة، لأن فعل الشيء محدث.

قال: فليست لها معنى.

قال الرضا (ع): قد وصف نفسه عندكم، حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم (إن الله – عز وجل – لم يزل مريداً).

قال سليمان: إنما عنيت أنها فعل من الله تعالى لم يزل.

قال (ع): ألا تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولاً، وقديماً وحديثاً في حالة واحدة.

فلم يحر جواباً. (تفسير نور الثقلين/ ج 3 / ص 145 / الحديث 112).

وإنما الأمر للأجهزة الكونية بالجريان وفق النظام الذي جعله الله للكون، فيستغلها المترفون في الفسق، فيكون هذا الأمر للمترفين بواسطة الأجهزة الكونية.

ولكن إرادة المترفين لا تلغى، لأن في وسعهم عدم استغلال الأجهزة الكونية في الفسق. كما أن إرادة الله لا تلغى، لأن في مقدوره إيقاف الأجهزة عن مطاوعة المترفين.

فأمر المترفين بالفسق، هو تطويع الأجهزة الكونية لهم، وتمكينهم من تحريك هذه الأجهزة وفق إرادتهم، دون تعجيزهم عن الفسق، أو تمريد الأجهزة الكونية عليهم إذا حاولوا استخدامها في الفسق.

هذا، ولكن المعروف في تفسير الآية (الأمر للطاعة ولكنهم آثروا العصيان) نظير المثل المعروف (أمرته فعصاني) وهذا واضح لا غبار عليه.

ثالثاً: الفسق المدمِّر

كل فسق يدمر من الفرد –أو من المجتمع– بحجمه وببعده، غير أن الفسق قد يكون (فردياً) يدمر الفرد وحده، أو من عائلته وحدها، وربما يكون الفسق (جماعياً) يدمر من المجتمع بعضه أو كله. وفسق المترفين وإن كان في (حدوده الذاتية) فردياً، فهو في (حدوده الظلية) جماعي:

1- لأنهم –بتأثير مراكزهم– قادة، يقتدي بهم الآخرون. كما أنهم –غروراً بالحصانة التي يتمتعون بها– لا يتهيبون ولا يتسترون. فممارستهم للفسق، تسلب منه صفة القبح وتمنحه صفة المشروعية.

والفسق –متى فقد القبح وكسب المشروعية– مارسه الناس، فأصبح جماعياً يحيق. ومتى حاق الفساد، دمَّر.

2- لأن المترفين – بإغراء المال – يجرون معهم ضعاف النفوس إلى الفسق:

فإذا حاولوا (الزنا) أغروا جميلات المجتمع بالزنا، وإذا استجبن لهم أغرين شباب المجتمع، وإذا استجابوا لهنَّ لا يكفين لهم، فيتجهون –بفائض طاقاتهم– إلى الدميمات، وتسري عدوى الزنا إلى كل المجتمع، إلا من عصمه الله.

وإذا حاولوا (السكر) أغروا جماعات بـ: زرع الخمرة، وعصرها، وبيعها، ومنادمتهم...، وبما أن المترفين لا يمتصون طاقات هذه الجماعات، يتجه فائضها إلى غير المترفين، فيغرى بالسكر كل المجتمع، إلا من عصمه الله.

وإذا حاولوا (الربا) لم يقرضوا إلا به، ويوجد من يضطر إلى الاستقراض منهم ودفع الربا إليهم، وإذا وجد من يدفع الربا بخل من يجد الفضل في ماله عن الإقراض بدونه، وإذا قلَّ من يقرض بدون الربا كثر من يضطر إلى القرض معه، وإذا تعاطى الناس في دفع الربا اضطراراً تساهلوا في دفعه بأقل حاجة.

ففسق المترفين فسق مدمر، إذا سرى يصعب حصره بالحدود والقيود. لأنهم يتجاوزونها بما لهم من حصانة، يزيفها إغراء المال، وتغاضي الحاكمين عنهم.

وأما فسق غير المترفين، فعدواه ضعيفة. لقلة إمكاناتهم، وجرأة الناس عليهم.

ففسق المترفين هو الذي يدمر البلاد، ويؤدي إلى انهيار المجتمعات.

(2)

الأمم تمر بثلاثة أدوار:

دور الارتفاع، ودور الجمود، ودور الانحدار:

فالأمة تبدأ بجيل تضحوي نشط، يتفانى في سبيل هدفه. ومن الطبيعي أن يسود، لأن عامة الناس يريدون أن يعيشوا بسلام، فإذا ظهر –في القطاع البشري المسترخي– جيل متدفق وثاب، لا يعبر عن اندفاعه إلا ويستسلم له القطاع البشري كله، فيسود. ولكن جيل النضال سرعان ما ينقرض، فهو يذهب وقوداً للمعارك التي يفجرها.

ويعقبه جيل مترهل، يبني مستقبله على ماضيه، فيعيش على أمجاد أسلافه، ويحاول أن يكون الاستمرار الطبيعي للجيل الماضي، ولكن بلا تضحيات وانتصارات، فيبقى مرددا للبطولات الغابرة، ومطوقاً بهالة من الهيبة الوهمية، من ذكريات التاريخ.

ويتلوهما جيل منزوف، نخر الزمان هيبته الوهمية، ولم يصل إليه –من حماس آبائه– زخم يدفعه إلى الكفاح، لتجديد انطلاقة آبائه، أو حمايتها من الضمور والذوبان.

وفي هذه الفترة، لا بد وأن تكون –في الأمم المتجاورة معه– أمة نفضت الرقاد، وبدأت في الانفتاح والتوسع، فتبدأ فتوحاتها على حسابه –وحساب بقية جيرانها–، فتسدد إليه –وإلى غيره– الضربات، وهو يقابلها بالانهزام والانحسار، حتى ينهار ويستعبد؛ وهو يتذكر –تحت النير والكابوس– مخاطرات أجداده، لإثارة المواهب وإعادة الدور، ولكنه لا يجد الشجاعة لتذكر تلك المخاطرات في الساحات والميادين، فيكتفي بتذكرها في سهرات العجزة والمنهارين. فهو جيل حكم على نفسه بالانتماء، فلا يمكنه الابتداء.

وهنا... تنتهي دورة حركة الأجيال، وتبدأ دورة أخرى من جديد، فيخرج الجيل الرابع من تحت الأنقاض، وينفض عنه غبار السنين، ليبدأ رحلة الجيل الأول.

اضف تعليق