q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

اللاعنف والسلام في سيرة أهل البيت (ع)

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

لم يكن العالم البشري نقيا خاليا من العنف منذ أزمنة مبكرة، واستمر منهج العنف يحصد بأرواح الناس، وتصاعدت وتيرة النزاعات والصدامات مع تصاعد أعداد البشر، وازدياد تضارب المصالح، واختلاط المصالح مع بعضها، مما أدى إلى موجات حروب واقتتال جماعي بين الأمم والشعوب، ويقول علماء الاجتماع إن العنف العالمي هو حاصل جمع التعنيف الفردي...

(مدرسة أهل البيت (ع) ترفض العنف كوسيلة لفرض رأي أو محاولة تغيير)

الإمام الشيرازي

لم يكن العالم البشري نقيا خاليا من العنف منذ أزمنة مبكرة، واستمر منهج العنف يحصد بأرواح الناس، وتصاعدت وتيرة النزاعات والصدامات مع تصاعد أعداد البشر، وازدياد تضارب المصالح، واختلاط المصالح مع بعضها، مما أدى إلى موجات حروب واقتتال جماعي بين الأمم والشعوب، ويقول علماء الاجتماع إن العنف العالمي هو حاصل جمع التعنيف الفردي، وانتشاره كأسلوب لحل المشاكل والعقد والأزمات.

كما أن موجات العنف تضاعفت مع تأسيس ظاهرة الإرهاب، بسبب انتشار الأفكار المتطرفة، فذهب حاملو هذه الأفكار إلى ما هو أعنف وأبعد، حين جعلوا من التصفيات الجسدية والتدمير أسلوبا لهم في مواجهة من يختلف معهم، وقد همّش هؤلاء قضية الحوار كأسلوب للتفاهم بين المختلفين، أو بين من تتضارب مصالحهم وأفكارهم، فأصبح التفاهم والنقاش والحوار في خبر كان، وحلّ محله العنف بأبشع أساليبه وصوره.

الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: السلم والسلام) على أن:

(موجة العنف والقسوة والإرهاب تأسست في أفكار بعض المتطرفين وعشش في خيالهم وأفكارهم، فأخذوا بالتصفية الجسدية والتدمير أولاً، بدلاً من المحاورة الفكرية والمسالمة، لكن الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمفهوم العنف أو مفهوم المعاملة السيئة أو إيقاع الظلم بالآخرين، أو استخدام القسوة أو التعسف ببني الإنسان).

لقد رفض الإسلام جميع الأساليب العنيفة في مواجهة الأزمات، ودعا المختلفين والمتصارعين إلى اعتماد اللاعنف كأسلوب لاحتواء النزاعات، كما رفض كافة أساليب العنف بين المجتمعات أو الأفراد، لاسيما حين يبلغ التطرف أقصى درجاته، فيضرب القيم والأخلاق والقوانين عرض الحائط، ويغوص في سلسلة من الأعمال العنيفة التي لها بداية وليست لها نهاية.

الإسلام والإرهاب لا يلتقيان

ولذا فقد وُضِعَت أعمال العنف في إطار الرفض الإسلامي الدائم، وتم تحريمها، وانتعشت الدعوات المتكرة المستمرة والكبيرة لتغليب اللاعنف والسلم على ما يناقضه من أعمال وأفعال وأساليب تدعو إلى الاحتراب والعنف، وترفض الحوار وتعتمد الفكر الإرهابي المتطرف، وهذا ما ينبذه الإسلام جملة وتفصيلا، فمعالجة الخلافات والأزمات لا ينبغي أن تقع تحت رحمة الفكر المتشدّد، أو تنساق في مسالك ودوّامة العنف والعنف المقابل.

يقول الإمام الشيرازي:

(إن أفعال العنف بأنواعه التي تقع في المجتمعات وتستهدف الآخرين، والتي قد تبلغ أحياناً مستوى من التطرف والشدة أو الخروج عن القوانين، تعد خروجاً عن الدين وتعاليمه السمحة ودعوته إلى السلم والسلام وقول الله تعالى: وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً).

القرآن الكريم يدعو في سور وآيات مباركة كثيرة إلى السلم، وهو الأسلوب الذي اتبّعه الرسول الأكرم (ص) طيلة قيادته للأمة، وقد أخذ عنه هذا الأسلوب أئمة أهل البيت عليه السلام، فكان بينهم وبين العنف قطيعة تامة، وغلّبوا اللاعنف واعتماد الحوار ودفع الأمور بالتي هي أحسن، على جميع الحلول والمواجهات العنيفة.

ولهذا تجمّلت مدرسة أهل البيت بأعظم الأفكار الداعية للسلم ونبذ العنف، وامتلأت سِيَرهم بالمواقف العظيمة التي تكللت بكل ما يمت للسلام والرحمة بِصِلة، كما أن دعواتهم وأفكارهم (ع) كانت ولا تزال وستبقى خير منهل للسلام العالمي، ولهذا كانوا دعاة سلم، وانتهجوا اللاعنف في جميع مسارات تجاربهم، وحثوا الجميع على الالتزام بهذا المنهج، كونه الضامن الوحيد للحقوق وإنصاف الآخرين وضمان حرية الرأي والفكر وحتى الدين.

هذا المنهج ينبغي أن ينعكس على حياة المسلمين والعالم أجمع، وتغليب منهج الحوار والنقاش والتفاهم، على منهج العنف والتصادم، على أن يلتزم الجميع باللاعنف، بدءاً من القادة السياسيين وطلاب السلطة وصناع القرار، وليس انتهاء بالفرد أو المواطن العادي، فالعلاقات الفردية يجب أن تخضع أيضا لللاعنف، ولابد أن يصبح ثقافة سلوك فردي واجتماعي، لكي نضمن عدم تغليب العنف في مواجهة الأزمات والمشادّات والنزاعات.

الإمام الشيرازي يؤكد على أن: (الرسول الأكرم (ص) وآل بيته الطاهرون (ع) هم دعاة السلم وحملة مبدأ الإنسانية في المسالمة واللاعنف، ونبذ ما هو نقيضه في الحياة اليومية).

السلام واللاعنف المطلق

وإذا كنا ننظر إلى مدرسة أهل البيت التربوية والأخلاقية والاجتماعية على أنها منهلنا الأول والأهم، فهذا يعني أننا ملزمون بقراءة تجاربهم في هذا المجال، والاطلاع المتواصل والعميق على مواقفهم وأفكارهم وسلوكياتهم في مواجهة المختلفين أو المناقضين لهم، فقد رفض أئمة أهل البيت (ع) اللجوء إلى العنف، وكان القائد الأعظم للمسلمين النبي (ص)، يكسب أقسى القلوب لأصلب الأعداء من خلال أسلوب اللاعنف والرحمة المؤطرة بالأخلاق، وقد أخذها عنه الإمام علي (ع) في تعامله مع الخوارج وسائر المعادين له.

كل الشواهد والدلائل تؤكد على أن البشرية تمر في حالة خصام مع نفسها، ويأكلها العنف، ويفتك بها التشاحن والتهديدات، والسبب معروف لمن يهمهم الأمر، أو لمن يقودون العالم ويتحكمون بثرواته واقتصاده، ولكن يبدو أنهم متمسكون بالعنف، ورافضون للاعنف، ومصرون على صنع الأزمات، وخوض الصراعات والحروب لضمان مصالحهم.

والمعني هنا بمصالحهم، ليست المصالح العامة التي تعود للناس أو الأمم والشعوب، وإنما مصالح القوى المتحكمة والحكومات والشركات والأفراد الذين يتصارعون ويتقاتلون من أجل الاستحواذ على ثروات الأرض وتهديد مصير البشرية، إنهم يتقاتلون ويتصارعون من أجل مغانمهم ومضاعفة كنوزهم وثرواتهم، لهذا هم مستعدون للعنف بأبشع درجاته وأشكاله.

هذا المنهج المعادي للإنسان مرفوض من قبل مدرسة أهل البيت (ع)، فهم دعاة السلم في كل زمان ومكان، وهم (ع) مؤمنون بمنهج السلام واللاعنف المطلق، الذي يمثل اليوم المنقذ الأهم وربما الوحيد للبشرية من هذا الانحدار السريع نحو الهاوية، لذا لابد أن يتنبّه المسلمون والعالم أجمع إلى محنتهم المتمثلة بدفع البشرية نحو الانتحار.

وعليهم الأخذ بما تطرحه مدرسة أهل البيت (ع) من أفكار ومضامين ومواقف حيّة غلّبت اللاعنف على جميع أنواع الحلول والمواجهات الأخرى، وأثبتت أنها السبيل الوحيد الذي يجعل من العالم أفضل وأكثر استقرارا.

يقول الإمام الشيرازي:

(إن آل بيت النبوة (ع) مارسوا السلام واللاعنف المطلق بكل أشكاله وأبعاده، ثم أوصوا المسلمين بعدهم بالسير على خطاهم، لأنهم كانوا دعاة صلح ومحبة ووفاق بين عامة المسلمين ودعاة سلم بين البشرية).

أما لماذا اختارت مدرسة وأفكار أهل البيت (ع) اللاعنف، فلأنهم نهلوا من مدرسة أبيهم وقائدهم الرسول الأكرم (ص)، واغترفوا من نبع السلام طريقة تعاملهم، وحل الاختلافات مع من يعاديهم ويناقضهم في المواقف والأفكار، وسعوا إلى نشر هذه الثقافة في أشد الأوضاع تعقيدا وخطورة، فكثير من الحكام الطغاة الذين عاصرهم أهل البيت (ع)، حاولوا جرّهم إلى العنف والتصادم، لكنهم أبوا أن يغادروا منهج اللاعنف الذي تربّوا عليه.

لهذا السبب فإن فكر أهل البيت ومنهجهم لا يلتقي مع الإرهاب مطلقا، ويرفض أن تكون القوة والإكراه سبيلا لفرض الرأي أو محاولة التغيير بالقوة، لقد كان منهجهم (ع) ولا يزال وسيبقى، منهج الحوار والتريّث والحلم، ورأب الصدع والخلاف بالطرق والوسائل السلمية، وهذا الأسلوب لا يمكن أن يلتقي مع منهج العنف والقوة والإكراه.

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(إن مدرسة أهل البيت (ع) لا تتفق مع من يؤمن بالإرهاب والعنف كوسيلة لفرض رأي أو محاولة تغيير، حتى وإن كان مسلماً ويتبع مذهباً ما أو معتقداً ما).

وأخيرا لا تزال الفرصة متاحة أمام المسلمين والأمم الأخرى في العالم لتصحيح الأوضاع الراهنة، ولكن هذا الأمر مرتبط بمدى جديتهم، وإرادتهم، وتصميمهم على سبر أفكار أهل البيت (ع)، لتجنيب العالم وشيلات العنف والنزاعات، والدفع به إلى مرافئ اللاعنف والسلام.

اضف تعليق