q
هذه التقنية، أتاحت للشبكة أن تكون متاحة حول العالم بشكل معقول، كما أتاحت لصغار المستثمرين التوسّع تدريجاً في عمليات الإنتاج، إذ إن كلفة الجهاز كانت تُسترد بعد سنة وأحياناً خلال بضعة أشهر بعد استرداد الكلفة يقوم المعدِّن بشراء أجهزة جديدة، لكن هذه التقنية عابها أمران أساسيان...

ثاني أشهر العملات الرقمية على الإطلاق، «إيثيريوم»، على وشك أن تتطوّر إلى نسختها الجديدة: «إيثيريوم 2.0». بهذه النقلة، ستتحوّل طريقة إنتاج هذه العملة، من التعدين بواسطة تقنية «Proof of Work»، إلى السكّ «Minting» بواسطة تقنية «Proof of Stake». أسماء التقنيّات تنطوي على دلالات مهمّة. فإثبات خلق العملة بواسطة العمل، مختلف جداً عن إثباث خلق العملة بواسطة حجم الملكية. فبهذه العملية ستنتقل عملية خلق العملة من لا مركزية متاحة للجميع بواسطة استثمارات يمكن أن تكون متواضعة بمقدار أن تكون كبيرة، إلى مركزية شبه حصرية تضع عملية خلق العملة بيد حفنة من الأثرياء القادرين على امتلاك حصص أكبر من العملات تُتيح لهم إنتاج العملة وتحقيق الأرباح.

ما هو الفرق بين تقنيّتي إنتاج إيثيريوم السابقة والمقبلة؟ ولمَ ستصبح «إيثيريوم 2.0» عملة مركزية عكس طموحات الثائر الغريب ساتوشي ناكاموتو بأن تكون العملات المشفّرة لا مركزية؟ في الواقع، تتميّز عملة «إيثيريوم» عن الـ«بتكوين» بأمر بالغ الأهمية، وهو العقود الذكية (Smart Contracts). هذا الأمر فتح باب الاحتمالات على كافة الصعد وجعل التطبيقات اللامركزية «Dapps» والـ«NFT» أمراً ممكناً. ومثلها مثل الـ«بتكوين»، فمن أجل صنعها، تعتمد «إيثيريوم» على تقنية «Proof of Work». يمكن اختصار هذه التقنية بالآتي: يمكن للمستخدم أن يصنع جهاز التعدين تبعاً لقدراته المالية، أو أن يشتري أجهزة تعدين بأسعار متعدّدة تبدأ بألف دولار وتصل إلى عشرات أو مئات آلاف الدولارت. ثم يتم وصل أجهزة التعدين بالكهرباء والإنترنت لتبدأ عملية إنتاج العملة.

هذه التقنية، أتاحت للشبكة أن تكون متاحة حول العالم بشكل معقول، كما أتاحت لصغار المستثمرين التوسّع تدريجاً في عمليات الإنتاج، إذ إن كلفة الجهاز كانت تُسترد بعد سنة وأحياناً خلال بضعة أشهر (بعد استرداد الكلفة يقوم المعدِّن بشراء أجهزة جديدة). لكن هذه التقنية عابها أمران أساسيان: أولهما، نهم أسلوب التعدين إلى الطاقة الكهربائية، وثانيهما الكلفة الباهظة لكل عملية تحويل «إيثيريوم» من محفظة رقمية إلى أخرى، أو كلفة شراء عملات أخرى متواجدة على شبكة «إيثيريوم»، وهو ما يرمز إليه بالـ«Gas Fees». سبب هذه الكلفة الباهظة، أن شبكة «إيثيريوم» القديمة أو الحالية، تستطيع القيام بـ15 عملية تحويل في الثانية الواحدة فقط، لذا عندما يكون حجم التداول كبيراً على الشبكة، يمكن أن تبلغ كلفة تحويل 20 دولاراً من محفظة رقمية إلى أخرى، نحو 50 دولاراً، وأحياناً أكثر من ذلك. يمكن تخيّل الأمر على النحو الآتي: إذا أراد شخص ما أن يشتري سلعة بقيمة 50 دولاراً عبر بطاقته المصرفية، فإن المصرف يقتطع عمولة تساوي 120 دولاراً في سبيل تقديم خدمة تحويل المال من حسابه إلى المتجر. هذا تقريباً ما يحصل على شبكة الـ«إيثيريوم»، مع فرق واحد هو أن من يقدّم خدمة تحويل العملات، هو المعدّن وليس المصرف.

بخلفيّة هذه الكلفة الكبيرة في إنتاج «إيثيريوم» سواء لجهة الكهرباء أو لجهة التحويل، قرّر القيّمون على «إيثيريوم» إطلاق تقنية «Proof of Stake». استخدام هذه التقنية يقلّص استهلاك الكهرباء في سبيل إنتاج عملة «إيثيريوم» ويخفّض كلفة عمليات التحويل على الشبكة الجديدة بسبب قدرتها الاستيعابية الأكبر للعمليات، إذ بإمكان «إيثيريوم 2.0» تنفيذ أكثر من 100 ألف عملية تحويل في الثانية الواحدة، بالإضافة إلى تطوير التقنيات البرمجية والحمائية التي تسبح في فلكها.

في النسخة الجديدة من خوارزمية إنتاج إيثيريوم سيتمّ اختيار الأشخاض المؤهّلين للمشاركة في الإنتاج بناءً على شرط يتعلّق بكمية امتلاكهم لهذه العملة، لكن كيف يمكن صنع عملة الـ«إيثيريوم» بواسطة التقنية الجديدة؟ هنا نصل إلى التطوّر الجديد الذي أصاب الفكرة الأساسية من وجود عملات مشفّرة غير فئوية. فتقنية «Proof of Stake» تقول التالي: لا حاجة بعد الآن إلى أجهزة بقدرة حاسوبية عالية لصنع «إيثيريوم»، بل يكفي أن يقوم المستخدم بتنصيب برنامج خاص بالعملة على حاسوبه الشخصي من أجل أن يتم الأمر. لكن مهلاً، كيف يمكن الحصول على هذا البرنامج؟ عملياً، لا يمكن الحصول عليه، بل إن خوارزمية «إيثيريوم 2.0» هي التي ستختار من تعتبرهم مؤهّلين ضمن شروط محدّدة. من هذه الشروط أن يكون لدى الراغبين في خلق عملات إضافية من «إيثيريوم»، إيداع 32 عملة «إيثيريوم» بالحدّ الأدنى (أي ما يوازي 152 ألف دولار بسعر «إيثيريوم» الحالي البالغ 4765 دولاراً مقابل كل وحدة «إيثيريوم»)، في صندوق على الشبكة. وكلّما أودع المستخدم عملات أكثر كلما زادت حظوظه في أن تختاره الخوارزمية لإنتاج «إيثيريوم». وبهذه الصيغة الجديدة، تعدّل اسم منتج العملة من «معدِّن» إلى «المدقّق» (Validator) بدلاً من «معدّن».

لا بأس، يمكن اعتبار ذلك استثماراً متوسط الكلفة إذا أراد شخص ما صنع عملات «إيثيريوم»، ففي النهاية المشروع سيرد كلفته، أليس كذلك؟ في الواقع، كلا. إذ بحسب الموقع الإلكتروني لعملة «إيثيريوم»، إن خوارزمية الشبكة سترفع حظوظ اختيار من وضع أكبر عدد من عملات «إثيريوم» في صندوقه داخل الشبكة، أي من وضع ألف عملة «إيثيريوم» ستفضله الشبكة على من وضع 100 عملة. وبالتالي، سيصبح سكّ عملة الـ«إيثيريوم» بيد فئة فاحشي الثراء.

هكذا، تصبح ثورة التحرّر المالي اللامركزية التي بدأها ساتوشي ناكاموتو (خالق البتكوين والبلوكتشاين، لا أحد يعلم إن كان شخصاً أو مجموعة)، بهدف الخروج من عباءة الدولار، وامتلاك الفرد قدرة التصرف بنقوده كما يشاء، تتحول اليوم عبر خطّة ممنهجة تدفع بها إلى المركزية. هذا الأمر قد بدأ بالفعل. كما أن «إيثيريوم 2.0» سيتم طرحها بشكل كامل في الأسابيع القليلة المقبلة. علماً أنها موجودة الآن بالتوازي مع الشبكة القديمة، ويمكن للأفراد «المدققين» أن يضعوا عملاتهم من الـ«إيثيريوم» داخل الصناديق.

الرأس مالية تستثمر في «إيثيريوم 2.0»

ما إن بدأت «إيثيريوم» بالتحول إلى تقنية «Proof of Stake»، سال لعاب الحكومة الأميركية ومنصّات التداول في العملات الرقمية. الأخيرة تعلم أن تركّز ملكية هذه العملة ليس كبيراً لأنها كانت لامركزية بشكل أساسي، لذا، بدأت منصّات التداول الكبرى مثل «كوين بايز» و«باينانس» و«كراكن» و«جيميناي»، بحملة دعائية لاستقطاب مالكي العملات واستعمالهم كصندوق استثماري لإنتاج العملة بواسطة التقنية الجديدة مقابل عوائد محدّدة. تقول الحملة الآتي: نعلم أنك لا تملك ما يكفي من «إيثيريوم» لتصبح مدققاً (Validator)، لكن يمكنك أن تضع ما لديك من عملات «إيثيريوم» في محفظة تملكها المنصّة (لا حاجة فعلية لنقل ما لدى المستخدم من عملات، يمكن له فقط إرسال عنوان محفظته الرقمية التي بداخلها إيثيريوم إلى منصة التداول)، لتصبح المنصة هي «المدقق» Validator وبدورها ستمنح نسبة من أرباح سكّ عملة «إيثيريوم» بما يوازي حصص مالكيها الذين أودعوها في هذه المنصّة.

هذا السلوك معروف في عالم الأسواق المالية اليوم. فهو قائم على نفس مفاهيم الرأسمالية المتوحّشة. فقد انتقلت «إيثيريوم» من عملة رقمية مشفّرة يصنعها عامة المستخدمين، إلى عملة يطبعها وحوش الأموال الرقمية بحجّة «الحفاظ على المناخ» الذي يروّجون لإيقاف تقنية التعدين بذريعة هدر الطاقة الكهربائية، بينما هم بالفعل يسيطرون على هذه العملة وعلى عملية إنتاجها بهدف تحقيق الأرباح. وهنا، يمكن تفسير خروج أصوات من نخب وأقطاب وساسة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، جهاراً وبشكل شبه يومي، تتحدّث عن تأثير وحجم طاقة الكهرباء التي تستهلكها «بتكوين»، لأنها باقية على تقنية التعدين، ويريدونها أن تتحوّل مثل «إيثيريوم»، كون صناعة المال بنظرهم هي حرفة النخب وليست للعامة. علماً أنه بحسب جامعة «كامبريدج»، تستهلك «بتكوين» 0.6% من الكهرباء المنتجة حول العالم، بينما بحسب موقع وكالة الطاقة الدولية «IEA.org»، تستهلك أجهزة التكييف حول العالم 10% من إنتاج الكهرباء الكلّي للكوكب! لكن هذا أمر لن يتحدث عنه هؤلاء.

أمّا بالنسبة إلى الحكومة الأميركية، إن عملية إيداع العملات في منصّات مقابل الحصول على فوائد مالية عليها، يُدخلها مباشرة في تقرير مصير تلك العملة والمنصة إن كانت أميركية مثل «كوين بايز». وبالتالي يسقط مفهوم العملة الرقمية اللامركزية وغير الخاضعة لتأثير الحكومات.

اضف تعليق