q
أعمال فيبر كُتبت قبل نحو قرن، فإنها تحمل خاصية الأصالة الكلاسيكية، وسيجد القارئ فيها أفكارًا اقتصادية عدة لا تزال تنطبق على عالمنا الراهن، منها مناقشة فيبر ما نسميه اليوم رأس المال الاجتماعي، وتحليله المؤسسات المطلوبة لتأمين حسن سير الاقتصاد الرأسمالي، ومحاولته الأكثر عمومية لإدخال البنية الاجتماعية في التحليل الاقتصادي...

صدر عن وحدة ترجمان في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ماكس فيبر مقالات في علم الاجتماع الاقتصادي Essays in Economic Sociology، وقد حرره ريتشارد سويدبرغ، وترجمته إلى العربية ابتسام خضرا، ثم راجعه عمر سليم التل (جاء الكتاب في 524 صفحة).

تحتوي كتابات ماكس فيبر إحدى أكثر المحاولات تطورًا وجاذبية لإنتاج علم اجتماع اقتصادي. وقد اختار عالِم الاجتماع الاقتصادي وتلميذه، ريتشارد سويدبرغ، الأهم من كتاباته الكثيرة وجعلها متاحة أول مرة في كتاب واحد، فانتظمت مختارات كتابه حول الموضوعات التالية: الرأسمالية الحديثة وعلاقاتها بالسياسة، والقانون، والثقافة، والدين، مع قسم مخصص للأوجه النظرية لعلم الاجتماع الاقتصادي.

على الرغم من أن أعمال فيبر كُتبت قبل نحو قرن، فإنها تحمل خاصية الأصالة الكلاسيكية، وسيجد القارئ فيها أفكارًا اقتصادية عدة لا تزال تنطبق على عالمنا الراهن، منها مناقشة فيبر ما نسميه اليوم "رأس المال الاجتماعي"، وتحليله المؤسسات المطلوبة لتأمين حسن سير الاقتصاد الرأسمالي، ومحاولته الأكثر عمومية لإدخال البنية الاجتماعية في التحليل الاقتصادي.

يبين هذا الكتاب أن ما حفّز فيبر على بحثه في علم الاجتماع الاقتصادي هو الإنجاز الذي يتشارك فيه اليوم اقتصاديون وعلماء اجتماع كثر: يجب أن يتضمن تحليل الظاهرة الاقتصادية فهمًا للبعد الاجتماعي. وبفضل المنهجية التي اتبعها سويدبرغ، محرر هذا الكتاب، يكتشف قارئ هذه المختارات الأهمية والصلة الدائمة لمساهمة فيبر في علم الاجتماع الاقتصادي.

تشابكات الاقتصادي والمجتمعي

رُتِّبت المقالات - المطالعات الواردة فيه؛ بحيث يمكن قراءتها مباشرةً وعلى الترتيب، ويمكن أيضًا استخدام هذه المقالات للتدريس بالتسلسل نفسه. ويتضمَن هذا الكتاب مسردًا بمصطلحات فيبر الأساسية في علم الاجتماع الاقتصادي. وتعرِّف مطالعات القسم الأول، الرأسمالية الحديثة، القارئ برؤية فيبر العامة للرأسمالية الحديثة وأصولها، وتقدِّم أيضًا المؤسسات الاقتصادية الأساسية للرأسمالية. ويضيف القسم الثاني، الرأسمالية والقانون والسياسة، إلى مادة القسم الأول بالتركيز على العلاقة بين الاقتصاد والسياسة (بما فيها القانون) في الرأسمالية الحديثة. ويتابع القسم الثالث، الرأسمالية والثقافة والدِّين، في الطريق ذاته، بأخذ الظواهر الثقافية، ولا سيما الدينية، في الاعتبار. أما القسم الرابع، الجوانب النظرية في علم الاجتماع الاقتصادي، فهو ذو طبيعة أميل إلى التجريد، ويحتوي مطالعات أصعب، ولذلك وضعناه في نهاية هذا الكتاب. القرّاء الذين يعرفون بعض جوانب عمل فيبر، أو الذين يرغبون في اكتساب فهم دقيق نظريًا لعلم الاجتماع الاقتصادي كما يراه فيبر منذ البداية، نوصيهم بدراسة المقالة السادسة عشرة. فهي عبارة عن مقتطفات من محاولة فيبر وضعَ أسس نظرية لعلم الاجتماع الاقتصادي، في الفصل الثاني من كتاب الاقتصاد والمجتمع، "فئات الفعل الاقتصادي السوسيولوجية".

طبيعة الرأسمالية

كان اهتمام فيبر الرئيس، طوال حياته، يتمثل في دراسة الرأسمالية الحديثة أو العقلانية، وتحديد طبيعتها وخصائصها وأصولها التاريخية. وتشكل المقالتان، الأولى والثانية، أنموذجين لجهود فيبر المبذولة لتحديد طبيعة الرأسمالية الحديثة (للاطّلاع على جهوده لإيضاح أصولها التاريخية، ينظر الفصل 11). المقالة الأولى في هذا الكتاب مأخوذة من التاريخ الاقتصادي العام، وهي مقالة مهمة وسهلة القراءة، فيها يناقش فيبر، أساسًا، خصائص الرأسمالية الحديثة، مركِّزًا خاصة على الجوانب التالية: المحاسبة العقلانية لرأس المال Rational Capital Accounting ، وحرية السوق Freedom of the Market، والتكنولوجيا العقلانية Rational Technology، والقانون القابل للحساب Calculable Law، والتتجير Commercialization. ويعرِّج فيبر فيها أيضًا على بضعة مواضيع أخرى، كظهور الشركات المساهمة.

أما المقالة الثانية، "روح الرأسمالية"، فمأخوذة من كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، لكنها تركِّز على البعد الثقافي في الرأسمالية الحديثة. ولئن كان كتاب الأخلاق البروتستانتية يحتوي نقاشاتٍ ومواد دينية معقدة تجعله صعبًا على القارئ اليوم، فإن هذا المقطع بسيط ومباشر، ويتناول المسائل الاقتصادية، أساسًا؛ حيث يُبيِّن فيبر بدايةً روح الرأسمالية الحديثة ويميِّزها من روح الرأسمالية التقليدية. لكنه يناقش أنماطًا أخرى من الرأسمالية، ولعل القارئ يرغب في مقارنة هذا التصنيف للرأسمالية بالتصنيف النهائي الوارد في بحث "فئات الفعل الاقتصادي السوسيولوجية مواد عن اثنتين من أهم مؤسساتها: "السوق" (المقالة الثالثة) و"بدايات الشركة" (المقالة الرابعة). لا يسعى فيبر لوضع نظرية في كيفيَة تشكُّل الأسعار - إذ شعر أن ذلك من مهمات علم الاقتصاد النظري - بل يناقش السوق بما هي أحد أشكال التفاعل الاجتماعي. وبعبارة أدق، يذهب فيبر إلى أن السوق تتألّف من نوعين اثنين من التفاعل: التنافس في ما بين المُشتَرين من جهة وفي ما بين الباعة من جهة أخرى، والتداول بين مشترٍ معيّن وبائع معيّن. ومن خلال ربطه السوق بالدور الذي تمارسه التشكيلات الطبقية والمكانة الاجتماعية في المجتمع الحديث، ينجح فيبر في إضفاء دينامية على تحليله للسوق.

أما المقالة التي تتناول بدايات الشركة فمأخوذة من كتاب التاريخ الاقتصادي العام. وهي موجَزة جدًا، وتستكمل تحليل ظاهرة الشركات المساهمة الواردة في الفصل الأول. وتركِّز المقالة أساسًا على دخول المسؤولية المحدودة Limited Liability في الحياة الاقتصادية، والذي حدث أول مرة في المدن - الدول الإيطالية خلال العصور الوسطى، ويمثِّل هذا حدثًا مهمًا جدًا في تاريخ التنظيم الاقتصادي. مع ذلك، لم يكن للشركة أن تصبح بحق التنظيم الثوري الذي أصبحت عليه لاحقًا في ظل غياب العقلية الرأسمالية الحديثة (كما يقول فيبر في المقالة الثانية).

تُعدّ المقالة التي تختتم القسم الأول والتي جاءت بعنوان "الطبقة والمكانة والحزب"، من الكلاسيكيات الثانوية. على نحو ما في المقالة التي تتناول السوق، يناقش فيبر هنا ديناميات الطبقة إزاء المكانة؛ إذ تتمحور الأولى حول الإنتاج و"فرص الحياة"، في حين تتمحور الثانية حول الاستهلاك و"الشرف". ومن أهم النقاط التي يطورها فيبر في هذه المقالة - وهي النقطة التي تقودنا إلى الموضوع الرئيس في القسم الثاني - هي أن الاقتصاد ليس مستقلًا عن بقية جوانب المجتمع، لكنه جزء من النظام السياسي إجمالًا.

"العقلانية" في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة

يبدأ القسم الثاني، الرأسمالية والقانون والسياسة، بمقالة قصيرة مُكرَّسة لفكرة مركزية في علم الاجتماع السياسي لدى فيبر، وهي أن ثمة شكلًا من أشكال الهيمنة السياسية Herrschaft موجود في المجتمعات كلها. (المقالة السادسة: "أنماط الهيمنة الشرعية الثلاثة"). فوفقًا لفيبر، ثمة أشكال ثلاثة رئيسة للهيمنة الشرعية: الهيمنة القانونية، والهيمنة التقليدية، والهيمنة الكاريزمية، وثمة نوع محدَدٌ من الإدارة مسؤول أمام كل منها. وتجري النشاطات الاقتصادية عادة ضمن سياق الهيمنة السياسية الأوسع نطاقًا. كما أن هناك حقيقة أن كل نوع من أنواع الإدارة يجب أن يتقاضى أجر عمله بطريقة ما؛ وذلك، على سبيل المثال، من خلال المناصب/ الإقطاعات أو بجباية الضرائب أو من مائدة السيد.

في المقالتين التاليتين، يقدِّم فيبر مادةً فيها إضافة إلى تحليله للهيمنة وكيفية اتصالها بالاقتصاد (المقالة السابعة: "برقطة السياسة والاقتصاد"، والمقالة الثامنة: "الدولة العقلانية ونظامها القانوني")؛ إذ يرى فيبر أن لدى المجتمع الغربي نزوعًا عامًا نحو المزيد من البيروقراطية، وأن ذلك ينطبق على الشركة الحديثة كما ينطبق على إدارة الدولة. لكن ذلك لا يعني أن البيروقراطيين سيصبحون أسياد المجتمع الجُدد؛ فثمَة قوتان مضادتان لسلطة البيروقراطية في المجتمع الحديث. وهاتان القوتان هما رياديُّ الأعمال الحرة في مجال الاقتصاد، والسياسيُّ في مجال السياسة؛ إذ يلحظ فيبر أن رياديّي الأعمال الحرة والسياسيين يتعلمون حمل المسؤولية، وفي المقابل يتدرَب البيروقراطيون على طاعة التعليمات.

أما مقالة "الدولة العقلانية ونظامها القانوني"، المأخوذة من كتاب التاريخ الاقتصادي العام، فهي شرح سهل القراءة للدور الذي يمارسه القانون في الرأسمالية الحديثة. وقد حظي هذا الموضوع بعناية شديدة من فيبر، وكرَّس له قسمًا كبيرًا من كتاب الاقتصاد والمجتمع. ويتمثَّل موقفه الأساسي في أن الرأسمالية العقلانية الحديثة لا يمكن أن تؤدي عملها من دون قانون موثوق وأدوات قانونية متطوِّرة، كالعقود الحديثة وفكرة الشخصية القانونية. وينفي فيبر، في هذه المقالة، أن تكون أي مؤسسة قانونية رئيسة، من مؤسسات الرأسمالية، مبنية على القانون الروماني؛ وذلك خلافًا للاعتقاد الشائع في هذا الصدد. وتجدر إضافة أن ما يقوله فيبر عن دور القانون في الرأسمالية مرتبط بتحليله للهيمنة. وقد ألمح إلى ذلك في المقالة السادسة التي تتناول أنماط الهيمنة الشرعية الثلاثة، أما المناقشة المنهجية لهذه المسألة فموجودة في مؤلفات أخرى لفيبر.

وتسبر المقالتان الأخيرتان من القسم الثاني، بعمق، تعقيدات العلاقة بين علم الاقتصاد والسياسة. فالمقالة التاسعة "الدولة القومية والسياسة الاقتصادية (خطبة فرايبرغ)" هي كلمة فيبر الأولى إثر تعيينه أستاذًا لعلم الاقتصاد في جامعة فرايبرغ، المذكورة آنفًا، حيث يشرح بالتفصيل، بنبرة حادة ومتعصبة قوميًا، رؤيته لما يجب أن تكون عليه السياسات الاقتصادية في الدولة الألمانية في ما يخص العمال البولنديين المهاجرين. إلا أنه يطرح، في الوقت نفسه، أسئلة لافِتة، منها سؤال عن العلاقة بين النظرية الاقتصادية وبقية العلوم الاجتماعية. فيقول إن علم الاقتصاد في ألمانيا تلك الحقبة بات السائد أيديولوجيًا بين العلوم الاجتماعية. وبما أننا نشهد اليوم ظاهرةً مشابهة – وإن تحت عنوان "الخيار العقلاني" - فإن مقالة فيبر تكتسب أهمية خاصة، وهي أيضًا ملائمة للنقاش في قاعات التدريس.

أما المقالة العاشرة، التي جاءت بعنوان "الأسباب الاجتماعية لاضمحلال الحضارة القديمة"، فهي من أفضل مقالات فيبر، وتشدّ القارئ بمحاجَة أخّاذة. ومن الموضوعات التي يتناولها فيبر في المقالة نوع الرأسمالية الذي كان سائدًا في روما القديمة، والذي سماه "الرأسمالية السياسية". فقد أرادت النخبة الرومانية التمتُّع بالثراء، لكنها في الوقت نفسه كانت تحتقر الصناعة والتجارة؛ ما أدى بها إلى استغلال الدولة للحصول على ما تريد (بتعهيد الضرائب، وغزو البلدان الأخرى، وما شابه). ويطرح فيبر نظريته الخاصة بأسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية، فيذهب إلى أنه لا يمكن حصر "المُسبِّب الأكبر" لسقوط روما في العوامل الاقتصادية أو العوامل السياسية، بل كان بين تلك العوامل تأثير متبادل ضمن سلسلة طويلة ومعقدة من الأحداث، انتهت بتفكك روما وانهيارها. ويمكن إجمال حجة فيبر كما يلي: كانت الإمبراطورية الرومانية في حاجة دائمة إلى العبيد الزهيدي الثمن لتتمكن من الاستمرار، وحينما انتهت الفتوحات، ما عاد الرومان قادرين على اقتناء المزيد من العبيد؛ ما تسبب في سلسلة من الأحداث الاقتصادية والسياسية، التي أدَّت في النهاية إلى تهاوي اقتصاد المدن وزوال السلطة السياسية الرسمية.

المكون الثقافي في الرأسمالية: الدين والأخلاق

يضيف القسم الثالث إلى تعقيد تحليل فيبر للرأسمالية من خلال البحث في تأثيرات العوامل الثقافية عمومًا، والدينية خصوصًا. فالمقالة الحادية عشرة، "تطور الروح الرأسمالية"، مأخوذة من كتاب التاريخ الاقتصادي العام وتحتوي على نقاش لأسباب نشوء الرأسمالية العقلانية في الغرب؛ إذ يرفض فيبر التفسيرات الأحادية العامل، كأن يكون تدفُّق المواد الثمينة من الأميركتين هو المسبب الحاسم. وبدلًا من ذلك، كان نشوء الرأسمالية العقلانية نتاج عملية تاريخية طويلة كان فيها لتطورين اثنين دور حاسم على نحوٍ خاص: انبثاق مؤسسات رئيسة معينة (الشركة، والمحاسبة الحديثة، والتكنولوجيا العقلانية، والقانون الموثوق)، وظهور طريقة جديدة للنظر إلى العناصر الاقتصادية (ذهنية عقلانية، وترشيد السلوك في الحياة اليومية، وروح الاقتصاد العقلاني). ويرفض فيبر رفضًا مباشرًا الفكرة القائلة إنه كان ينبغي أن يؤدي اليهود دورًا محوريًا في التبشير بالرأسمالية الحديثة. مع ذلك فإنه يذهب إلى أن الديانة اليهودية نفسها ساهمت مساهمة مهمة في صعود الرأسمالية العقلانية، وذلك برفضها السحر قبل بضعة آلاف من السنين، وهو ما ترك أثرًا عميقًا في المسيحية أيضًا. ويركِّز فيبر على أن المسيحية، أيضًا، أدت دورًا حاسمًا في تكوين الذهنية الضرورية لنشوء الرأسمالية الحديثة. وقد حقَقت ذلك بكونها ديانة لجموع غفيرة، لا لأقلية، وبأنها، مع الزمن، وضعت فكرة العمل (واجب العمل)، أو Beruf في مرتبة عبادة الرب.

المقالة الثانية عشرة، "الطوائف البروتستانتية وروح الرأسمالية"، هي مقتطفات من كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، وتحتوي أجمل المباحث التي كتبها فيبر على الإطلاق، وهي ذات أهمية خاصة. يبدأ فيبر، في هذه المقالة، بوصف سلسلة من مشاهداته خلال رحلته إلى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1904، تتعلق بالدور الاقتصادي الذي تؤديه الطوائف الدينية. فقد أدرك فيبر سريعًا أن الناس كانوا يأتمنون الأميركيين المتدينين في المسائل الاقتصادية، أكثر مما يأتمنون غير المنتمين إلى الكنيسة. وفسّر هذه الظاهرة بأن الانتماء إلى طائفة دينية يشكّل نوعًا من رأس المال الاجتماعي؛ إذ لا تقبل الطائفة في عضويتها إلا من هم أهل للثقة، وهي تراقب سلوكهم باستمرار.

أوردنا أيضًا مقتطفات من مجلدات فيبر الثلاثة التي كتبها لمشروع الأخلاقيات الاقتصادية لديانات العالم. ففي المقالة التي عنوانها "علاقات القربى والرأسمالية في الصين" (المقالة الثالثة عشرة)، يتساءل فيبر عن سبب عدم تطوُّر الرأسمالية في الصين إلى النمط الحديث تطورًا تلقائيًا، ويجيب عن ذلك بالإشارة إلى سلسلة من المعوقات في وجه ذلك التطور في ذلك البلد.

ومن أبرز تلك المعوقات السيطرة التي تمارسها مجموعة القرابة أو العشيرة على الفرد، التي توجد عادةً جنبًا إلى جنب مع عبادة الأسلاف. ففي حين ساعدت المسيحية في الغرب على تفكيك سلطة مجموعة القرابة، واصل هذا النوع من الجماعات في الصين أداءه لوظائف اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية مهمة. كذلك، لم تنشأ الرأسمالية الحديثة في الهند من تلقاء نفسها، فقد واجهها عدد من المعوقات المؤسسية والثقافية.

أما المعوق الذي انتقاه فيبر، في المقالة الرابعة عشرة، فهو "نظام الطبقات المغلقة في الهند"، الذي ينسب إليه الاضطلاع بدور كبير. والأمر، بحسب فيبر، ليس أن نظام الطبقات المغلقة كان يحرم صراحة مزاولة نشاطات بعينها كان في وسعها أن تعزز ظهور الرأسمالية العقلانية؛ إذ حينما كانت تتعرض، في الواقع، مصالح الأغنياء والنافذين للخطر، كانت ثمة استثناءات في الديانة الهندوسية. على سبيل المثال، كان متاحًا لعائلة من طبقة ثرية أن تمتلك خدمًا من طبقة فقيرة، وكان ممكنًا أن يعمل أبناء طبقات مغلقة مختلفة معًا في ظروف محدَّدة. فالأمر الحاسم كان يتمثل، يقول فيبر، في أن الروح العامة لنظام الطبقات كانت تشكل عقبة كأداء في وجه ظهور الرأسمالية الحديثة.

أما المقطع الأخير من الأخلاقيات الاقتصادية لديانات العالم فمأخوذ من الديانة اليهودية القديمة، وهو من أصعب كتب فيبر "أعمال الإحسان في فلسطين القديمة" (المقالة الخامسة عشرة). إلا أن المقطع الذي اخترناه لهذا الكتاب سهل القراءة، وحديث من بعض جوانبه. يقارن فيبر بين أعمال الإحسان في فلسطين القديمة ونظيره في مصر القديمة، ويحاول شرح سبب الاختلاف الكبير بينهما؛ إذ يصف فيبر النظام المصري القديم بأنه نظام حكم بيروقراطي قمعي باتريموني، لا يهتم الحُكام فيه بشعبهم إلا بقدر ما يهتم مالك الماشية بحيواناته. أما في فلسطين، من جهة أخرى، فقد كان الشعبُ فلاحين مستقلين، وكان ثمة موقف فريد تجاه الفقراء وأكثر إنسانية. وما يجعل أخلاقيات الأعمال الخيرية في فلسطين القديمة أكثر إثارة للاهتمام هو أنها كانت تشمل الحيوانات أيضًا. فيقول فيبر إن الحيوانات في فلسطين كانت تلقى معاملةً أفضل من تلك التي يلقاها العبيد في روما.

تنظير في سوسيولوجيا الاقتصاد

أما القسم الرابع والأخير، الجوانب النظرية في علم الاجتماع الاقتصادي، من مجموعة المقتطفات هذه، فمخصص للجوانب النظرية من علم الاجتماع الاقتصادي، وكيفية نظر فيبر إلى علم الاقتصاد؛ أي علم الاقتصاد الاجتماعي. المقالة الأولى في هذا القسم مأخوذة من الفصل الثاني من كتاب الاقتصاد والمجتمع، "فئات الفعل الاقتصادي السوسيولوجية"، وهي أهم مقالة في هذا القسم من الكتاب. تتصف هذه المقالة بكثافتها الشديدة وصعوبة فهمها في أكثر الأحيان. مع ذلك، إذا بذل القارئ الجهد اللازم، تمكَن من تشكيل تصوّر للأسلوب المنهجي والمنطقي الذي اتّبعه فيبر لبناء علم الاجتماع الاقتصادي خاصته بناء مفهوميًا خلال السنتين الأخيرتَين من حياته (1919–1920).

يبدأ فيبر بمناقشة مفهوم الفعل الاقتصادي (أو الفعل المُوجَه نحو المنفعة)، الذي يمثّل وحدة التحليل الأساسية في علم الاقتصاد النظري. ثم يقول إن علم الاجتماع الاقتصادي يدرس نوعًا خاصًّا من الفعل الاقتصادي، هو ذاك الموجَّه نحو سلوك الآخرين (الفعل الاقتصادي الاجتماعي). إن فكرة إمكان تحديد الفعل الاجتماعي بأنه فعل موجَّه نحو سلوك الآخرين فكرة مستقاة من علم الاجتماع الفيبري، بحسب ما قدّمه فيبر في الفصل الأول من كتاب الاقتصاد والمجتمع. بعد ذلك يبدأ فيبر، مستخدمًا الفعل الاقتصادي (الاجتماعي) أداةً أساسية في علم الاجتماع الاقتصادي خاصته، ببناء مفاهيم أشدّ تعقيدًا، كالعلاقات الاقتصادية والتنظيمات الاقتصادية. فالأولى تتحدد بفاعلَين اثنين يوجِّه كل منهما أفعاله الاقتصادية نحو الآخر، في حين أن الثانية علاقة اقتصادية مغلقة يفرضها طاقم من العاملين. وينتج من ذلك عدد من المفاهيم المترابطة، وهي في مجملها ذات فائدة عظيمة لعالم الاجتماع الاقتصادي.

أما المقالتان الأخيرتان في مجموعة المقتطفات هذه، فمهمّتان لفهم موقف فيبر العام من علم الاقتصاد عمومًا، والنظرية الاقتصادية خصوصًا (المقالة السابعة عشرة، "مجال علم الاقتصاد، والنظرية الاقتصادية، والنمط المثالي"، التي تتألَف من مقاطع من مقالة فيبر حول الموضوعية المكتوبة في عام 1904، والمقالة الثامنة عشرة، "تحليل المنفعة الحدية و’القانون الأساسي لعلم طبيعة النفس‘"). وبما أننا ناقشنا هاتين المقالتين آنفًا، سيكون شرحهما مختصرًا. وحسبنا القول إن مفهوم النمط المثالي مطروح في المقالة السابعة عشرة، التي تحتوي أيضًا تصنيفًا نمطيًا Typology لكيفية صوغ مفاهيم حقل علم الاقتصاد وفروعه، في حين تحتوي المقالة الثامنة عشرة عرضًا حاذقًا ومفيدًا لإمكانات النظرية الاقتصادية وحدودها.

الكتاب: مقالات في علم الاجتماع الاقتصادي
الكاتب: ماكس فيبر (1864-1920)، عالم اجتماع واقتصاد، وسياسي ألماني. من مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة. تعمّق في فهم البيروقراطية، وأرسى قواعد السوسيولوجيا الفهمية. اشتهر بأطروحته عن الأخلاق البروتستانتية التي تربط البروتستانتية بالرأسمالية. من مؤلفاته: "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، و"الأخلاقيّات الاقتصادية لديانات العالم"، و"مفاهيم أساسية في علم الاجتماع"، و"العلم والسياسة بوصفهما حرفة".
تحرير: ريتشارد سويدبرغ، أستاذ علم الاجتماع في جامعة استوكهولم - السويد. ألّف كتبًا عدة في الاختصاص.
ترجمة: ابتسام خضرا، مترجمة مغربية من أصل فلسطيني
اصدار: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-وحدة ترجمان
عدد الصفحات: 524 صفحة

اضف تعليق