q
يعيش أكثر من نصف سكان العالم في مناطق حضرية، ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى 68% بحلول عام 2050، وفي هذه المناطق، يعتمد السكان على سلاسل الإمداد لإنتاج الغذاء وشرائه وإعداده وتوصيله؛ وهم معرَّضون لتحمُّل تبعات الانقطاعات محتملة في سلاسل الإمداد، ونقص الغذاء نتيجة التغيرات...

بقلم: زيا مهرابي

تنويع سلاسل الإمداد يمكن أن يَحُدَّ من تعرُّض المناطق الحضرية للصدمات الغذائية، يعيش أكثر من نصف سكان العالم في مناطق حضرية، ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى 68% بحلول عام 2050.

وفي هذه المناطق، يعتمد السكان على سلاسل الإمداد لإنتاج الغذاء وشرائه وإعداده وتوصيله؛ وهم معرَّضون لتحمُّل تبعات الانقطاعات محتملة في سلاسل الإمداد، ونقص الغذاء نتيجة التغيرات التي تطرأ على الأنشطة البشرية والظواهر الطبيعية. ومع الوقت، يتزايد إدراكنا لضرورة تحسين تماسك النظام الغذائي وتعزيز قوته؛ لكن يبقى السؤال بشأن الطريقة المثلى للتصدي لنقص الغذاء في الحضر مطروحًا على الصعيدين البحثي والسياسي. وفي دراسة منشورةٍ حديثًا بدورية Nature، يبحث ميشيل جوميز وفريقه في آلية تدفق المنتجات الزراعية إلى المدينة، وكيف أنها تعتمد على مدى تنوع الشركاء التجاريين فيها. ويطبق المؤلفون أفكارًا مستوحاة من المجال الهندسي؛ مثل تلك التي يستخدمها العلماء للتأكد من أن البنية التحتية محمية من الفيضانات، سعيًا إلى جمع بيانات تدعم تصميم الأنظمة الغذائية، التي يمكن أن تقدم الدعم للمدن عند مواجهة نقص في المنتجات الغذائية.

على مدى عقود، حذّر العلماء والقائمون على القطاع الصناعي الحكومات والمستهلكين على السواء من مخاطر نقص الغذاء، الذي يمكن أن يترتَّب على طائفة متنوعة من الأسباب المحتملة. فقد يحدث نتيجة للفيضانات، أو موجات الحر، أو الآفات الزراعية، إلى جانب الأوبئة، والأزمات الاقتصادية، والسياسات التجارية3 وفي الآونة الأخيرة، دفعَت جائحة «كوفيد-19» القطاع الأكاديمي، والمجتمع بصفة عامة، إلى إعادة طرح السؤال بشأن مدى هشاشة الإمدادات الغذائية بالحضر.

وقد اقترح الباحثون كثيرًا من الحلول للتعامل مع المخاطر الناتجة عن نقص الغذاء؛ بداية من ممارسات الإدارة الزراعية القادرة على تحقيق التأقلم مع التغير المناخي، وصولًا إلى دعم أنظمة الغذاء المحلي والاكتفاء الذاتي. وقد حظي أحد تلك الحلول باهتمام كبير؛ يتمثل في زيادة عدد المنتجات الزراعية وتنوعها، وزيادة عدد المزارع، والشركات المعنية بشراء المنتجات الغذائية وتوصيلها. قد يعزز تنوع سلاسل الإمداد الغذائية من قدرة المدن على التصدي لأزمات نقص الغذاء، مثلما يحدث في مجال الاقتصاد؛ إذ يحد الاستثمار في مجموعة متنوعة من الأسهم من مخاطر الخسارة، أو في علم الإيكولوجيا؛ إذ يحافظ وجود خليط مختلف من الأنواع على وظائف النظام البيئي.

اعتمد جوميز وفريقه في إعداد دراستهم على بياناتٍ تتعلَّق بمصادر وأماكن وصول السلع الزراعية المختلفة في 284 مدينة، و45 منطقة جغرافية تقع خارج المدن في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حدد مؤلفو الدراسة أنظمة الغذاء المحلية لكل مدينة؛ وهي جميع المناطق الجغرافية التي تمد تلك المدينة بالمحاصيل الزراعية أو اللحوم أو الحيوانات الحية أو الأعلاف. ثم حدد المؤلفون بعد ذلك عدد المدن التي واجهت مستويات مختلفة من الاضطرابات المفاجئة في الإمداد الغذائي؛ والتي يطلقون عليها الصدمات الغذائية، ويستندون في حسابها إلى الفَرْق في النسبة المئوية بين الحد الأدنى لكميات الإمدادات والمتوسط الخاص بها لكل قطاع غذائي على مدى أربعة أعوام لكل مدينة. وبصورة أكثر تحديدًا، حسب الباحثون عدد المدن التي يزيد فيها الفارق بين المتوسط والحد الأدنى في أي عام من تلك الأعوام الأربعة عن نسبة معينة (تقع بين 3% إلى 15%).

بعد ذلك، مزج فريق الباحثين هذه البيانات بمؤشرات بسيطة تمثل الخصائص الجغرافية المتشابهة؛ مثل بعد المسافة الفعلية، وفرق الظروف المناخية بين المدن المختلفة، والمناطق الجغرافية التي تشملها شبكة الإمداد في كل مدينة. ومع توافر هذه المعلومات لدى الباحثين، استطاعوا اختبار الافتراض الذي مفاده أن المدن التي يظهر فيها تنوع أكبر في سلاسل الإمداد ستكون هي الأقدر على مواجهة الصدمات الغذائية، مقارنة بالمدن التي تفتقر إلى التنوع في سلاسل الإمداد هذه. وبالفعل اكتشف الباحثون أن المدن التي تستورد أنواعًا من الغذاء تختلف عن الأنواع التي تُنتجها تكون أقل تعرضًا للصدمات الغذائية، مقارنةً بتلك التي يكون شركاؤها في سلاسل الإمداد أقل تنوعًا. ويرى العلماء أن فوائد سلاسل الإمداد تلك لا يمكن تحقيقها في وجود أنظمة غذاء محلية فقط.

أخذ الفريق بعين الاعتبار مبادئ تصميم مستقاة من علم الهندسة؛ إذ تُصَمَّم أنظمة البنية التحتية على نحوٍ يجعلها قادرةً على تحمل الصدمات، مثل الفيضانات الشديدة، التي نعرف مدى قوتها وتواترها. وقد أجرى المؤلفون بعض عمليات الاستقراء الجريئة، قدَّروا من خلالها حجم الصدمات الغذائية التي ستواجهها مدن أمريكية مختلفة في ظل التنوع الحالي الذي تشهده سلاسل إمدادها. واكتشفوا أن الصدمات النادرة، مثل تلك التي تحدث كل مئة عام، ستتسبب في نقص في الإمداد الغذائي عبر مدن مختلفة بنسبة تتراوح بين 22% و32% تقريبًا.

النتيجة الضمنية الأخرى التي جاء بها نموذج جوميز وزملائه هو أن وجود تنوع في سلاسل الإمداد – ولو كان محدودًا – سيلعب دورًا فعالًا في الحد من احتمالية حدوث صدمات عنيفة. وقد طبق المؤلفون التحليل الذي أجروه على الصدمات الغذائية التي تشمل العديد من القطاعات الغذائية في آن واحد. وتوصلوا إلى نتائج مماثلة لتلك الصادرة عن الصدمات التي تصيب قطاعًا واحدًا؛ إذ يحد التنوع في سلاسل الإمداد من عنف هذه الصدمات، ولو كانت نادرة الحدوث.

الجهد الذي قدمه فريق الباحثين سيكون له تأثير كبير على الطريقة التي ينبغي أن تُبنى على أساسها الأنظمة الغذائية التي تتحمل الصدمات القوية، ولكنه لا يخلو كذلك من بعض أوجه القصور. أولًا، استخدم المؤلفون بيانات أربعة أعوام فقط لكل مدينة، ما أثار تحديات عند تحديد توزيع تأثير الصدمات على كل مدينة. وهذه الفترة الزمنية المحدودة زادت من صعوبة تعيين الحد الأدنى لمستوى التنوع في الإمداد الغذائي؛ الذي يعتبر طبيعيًا عند المستهلكين والبائعين على حد سواء. كما أنها صعّبت من معرفة المدى الذي تستطيع خلاله سلاسل الإمداد المتنوعة أن تقلل من تأثير حالات نقص الغذاء في الظروف الطبيعية، مقارنة بالأعوام التي تشهد أحداثًا متطرفة؛ وما إذا كانت الفوائد النهائية كبيرة بما يكفي لتتسبب في تغيير سياسات توريد المواد الغذائية.

وأما الوجه الثاني من أوجه القصور في هذه الدراسة، فهو أن بيانات تدفق المواد الغذائية التي استخدمها جوميز وفريقه لا تمثل معدلات تدفق الغذاء الحقيقية لكل عام. ولكنها، عوضًا عن ذلك، تمثل ببساطة كميات الإنتاج السنوي موزَّعةً بالتناسب مع معدلات التدفق5 المرصودة في عام 2012. لذا، فإن التحليل الذي قدمه المؤلفون لا يرصد إمكانية تغيير المسار، أو غيره من الاستجابات الاجتماعية، خلال فترات الظروف الطارئة، ولا يتَّسع لذلك من الأصل. وتتسبب الاستجابات الاجتماعية تلك، سواء تلك التي تحدث أثناء أعوام الصدمة أو بعدها، في تغيير معدلات تدفق الغذاء عبر شبكة الإمداد.

وثالث الانتقادات التي توجَّه إلى الدراسة أن المؤلفين لم يتحققوا من قدرة النموذج الذي صمموه على التوقع لفترة تزيد على الأعوام الأربعة، أو خارج الولايات المتحدة. وربما يكون هذا الوجه من أوجه القصور أكثر ما يحُول دون تطبيق النتائج بصورة عملية؛ والسبب في ذلك يعود جزئيًا إلى أن درجة استقرار الإمداد الغذائي متغيرة في حد ذاتها، بل وسوف تواصل التغيُّر مع زيادة كميات السلع الغذائية المستهلكة وأنواعها، وكذلك مع تغير التقنية المستخدمة في عملية الإنتاج. وعلى الرغم من أن الظاهرة المرصودة والأنماط العامة يمكن أن تحدث في أعوام أخرى، أو مناطق جغرافية مغايرة، لا توجد بيانات أو تحليلات تؤكد إنْ كان التصميم المقترح من قبل مؤلفي الدراسة سيوفر حماية ضد الصدمات المستقبلية بالدرجة المزعومة.

إن تصميم أنظمة غذائية في المناطق الحضرية وفقًا للمعايير المطلوبة ليس في سهولة تصميم جسر أو سد، يُبنى ليبقى مئة عام. ويتمثل مصدر القلق الأساسي عالميًا، فيما يتعلق بمسائل نقص الغذاء في المناطق الحضرية والأمن الغذائي، في شعوب الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، لا سيما تلك التي تعتمد على الواردات.

فمن الناحية النظرية، سيوفر التنوع في سلاسل الإمداد تأثيرًا داعمًا لهذه الشعوب عندما تبدأ أعداد سكان الحضر في التزايد الهائل خلال الأعوام المقبلة، خاصة في إفريقيا. ومع ذلك، فإن هذا النموذج، المقدم إلى هذه الشعوب بالدرجة الأولى، لا يقدِّم وصفًا وافيًا. زد على ذلك أنَّ هذه الشعوب تملك خيارات وطاقات سياسية مختلفة فيما يتعلق بإنتاج سلاسل إمداد متنوعة، مقارنةً بتلك المتاحة في الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم هذا، لنا أن نرى في دراسة جوميز وفريقه رسالة تذكير جاءت في وقتها؛ تذكير بأن إنشاء سلاسل إمداد متنوعة من شأنه أن يوفر آلية مهمة لحماية سكان الحضر من نقص الغذاء، يقر المؤلف بعدم وجود تعارض في المصالح.

اضف تعليق