ثقافة وإعلام - كتب

لماذا الفلسفة؟

قراءة في كتاب جديد

الفلسفة تقف في ذروة الطرق المتعددة التي نستطيع التفكير والتحدث بها حول العالم لأنها ترسم الكيفية التي تترابط بها هذه الطرق من التفكير مجتمعة، وفيما اذا كانت تنسجم او لاتنسجم مع بعضها. نحن أمام مجموعة محيرة من الرؤى والمواقف حول العالم ومكاننا فيه. تقدم لنا هيكلا او دليلا...

لماذا يجب على كل شخص الاهتمام بالفلسفة؟ هل هي فقط دراسة مفصلة كالتاريخ والادب او الدين من أجل الخير الخاص والتأثير على حياتنا؟ الكتاب يعالج هذه الأسئلة المثيرة وكيفية التعامل معها. هو يعرض دفاعا قويا عن الفلسفة وعن حياة الذهن. هذا الدفاع صيغ في سياق النقاشات المعاصرة حول العلم والدين والفلسفة. الكاتبة تسأل ما اذا كنا لازلنا في ضوء التطور العلمي والتكنلوجي الحالي بحاجة للفلسفة لمساعدتنا في التفكير حول الأسئلة الكبرى للمعنى والمعرفة والقيمة.

الكاتبة ماري ميدجلي كتبت هذا الكتاب في آخر أيام حياتها. إعتبارات العمر والسلامة العقلية وُضعت جانبا كونها لاتؤثر على قيمة الكتاب الذي أخذ وقتا طويلا من التفكير حول الإجابة على الأسئلة الاساسية التي أثارها.

في البدء لابد من الإعتراف ان أجوبة الكاتبة بشكل عام كانت صحيحة. هناك القليل من التحفظات ولكن في الاساس هي صحيحة. أبرز الاشياء التي أثارتها الكاتبة هي ان الفلسفة تقف في ذروة الطرق المتعددة التي نستطيع التفكير والتحدث بها حول العالم لأنها ترسم الكيفية التي تترابط بها هذه الطرق من التفكير مجتمعة، وفيما اذا كانت تنسجم او لاتنسجم مع بعضها. نحن أمام مجموعة محيرة من الرؤى والمواقف حول العالم ومكاننا فيه. الفلسفة تقدم لنا هيكلا او دليلا عن مدى ملائمة الرؤى او المواقف الفكرية وتضعها في اسلوب منظّم. ميجلي ذاتها تعبّر عن رؤيتها عن الفلسفة كالتالي: "انها توضح العلاقات بين مختلف طرق التفكير، وترسم المسار الذي يمكن ان يتّبعه الفكر"(ص21).

هذا الدليل له وظيفتان مترابطتان نوعا ما. واحدة هي خلق نوع من كلّ منظّم للفكر. والثانية هي العمل ضد الانغلاق في وجهة نظر واحدة دون اعتبار لوجهات النظر الاخرى. هذا لا يعني اننا نقبل كل الرؤى بالتساوي باعتبارها مبررة او صحيحة –انها ليست بابا مفتوحا للنسبية– لكنها تعني اننا نعرف كيف نضع رؤى معينة ضمن بناء أكبر. هذا الوضع المنظّم هو عملية مستمرة بلا نهاية، نتيجة لظهور طرق جديدة للتفكير حول العالم ومكاننا فيه. هذا يوضح لماذا الكاتبة حذرة احيانا حول ما اذا كانت الفلسفة تنجز أي تقدم. بمعنى معين انها قد لاتنجز ذلك التقدم لأنها ليست تنقيبا تراكميا عن الحقائق الاساسية كما يحدث في العلوم. لكنها تقول ان الفلسفة بالفعل تحقق شيئا يمكن وصفه بالتقدم كونها تكيّف مع أوقات معينة ما تضعه من مواقف وطرق في التحدث. وهكذا لا تقدّم بالمعنى الخطّي وانما تقدّم يتحرك مع الأوقات. مع ذلك، لم يحصل ابدا ان موقفا فلسفيا اصبح متقادما ومهملا كليا، لأننا نجد نفس الافكار تأتي بشكل متكرر وبأشكال مختلفة.

الكتاب جاء في أربعة اجزاء احتوت على 23 فصلا :

الجزء الاول: البحث عن علامات (مرشدة)، ويشتمل على عشرة فصول

فصل 1 الاتجاهات، فصل 2 هل يمكن ان تصبح الافكار قديمة؟ فصل 3 ماهو البحث؟ فصل 4 التصادم بين الطرق، فصل 5 ماهي المادة؟، فصل 6 استفسارات الكم، فصل 7 ما هو التقدم؟، فصل 8 المنظورات والمفارقات: روسو ومتفجراته الفكرية، فصل 9 جون ستيوارت مل ومختلف أنواع الحرية، فصل 10 معنى التسامح.

الجزء الثاني: إغواء الرؤى العلمية ويحتوي على ثلاثة فصول

فصل 11 قوة صور العالم، فصل 12 الماضي لا يموت، فصل 13 العلموية، المهدئ الجديد.

الجزء الثالث: اللامبالاة وعبادة الماكنة:

الفصل 14 صراع السلطة، فصل 15 ضياع الافراد، فصل 16 الحكماء.

الجزء الرابع: التفردات والكون:

الفصل 17 أي نوع من التفرد؟، فصل 18 هل يمكن قياس الذكاء؟، فصل 19 ما هي المادية؟، فصل 20 عبادة اللاشخصية، فصل 21 المادة والواقع، فصل 22 سحر العلموية، فصل 23 صورة العالم الغريبة.

استنتاج: عالم واحد ولكن نوافذ متعددة.

تعرض الكاتبة العديد من افكارها المفضلة، هي تساعدنا في رؤية ان العديد من مشاكلنا تبرز من محاولة وضع كل شيء في قالب توضيحي أحادي بدلا من إدراك ان نفس الواقع الواحد يمكن فهمه عبر مختلف وجهات النظر غير المختزلة.

الكاتبة تنتقد بوضوح الميول الحديثة للفلسفة في نمذجة نفسها على غرار العلوم، كما لو ان الحقيقة تشبه ممارسة بحث مشترك يهدف لمعالجة السرطان. يجب التأكيد ان الكاتبة ليست ضد العلم، ولكن العلم لا يجب اعتباره الطريقة الوحيدة للتفكير او التحدث حول العالم، لأن ذلك سيكون "علموية" scientism، المسكّن الجديد الذي يفشل في رؤية ان نطاق العلم ونتائجه محدودان ولا يضمان كل المعرفة الممكنة.

الفلاسفة يجب ان يكونوا ذوي افق واسع في اهتماماتهم، بدلا من معرفة الكثير عن القليل. الفلسفة توسّع الرؤى المختلفة وطرق التفكير حول العالم، حيث تقول مدجلي ان جامعة بدون قسم فلسفة لا تستحق ان تسمى جامعة.

هذه الرؤية للجامعة هي ربما اتّهام قاس لكنه صحيح. انها تنسجم مع الادّعاء بان الفلسفة بعيدة عن الرفاهية الكسولة، انها ضرورية لصحة وإنارة الفكر وتبادل الأفكار وهي في الحقيقة لا يمكن تجنّبها الاّ في حالة الذهن المغلق المستعصي على الإصلاح والمغلق ايديولوجيا.

على طول الكتاب، تعالج الكاتبة اثنتين من المشاكل الفلسفية الأساسية وهما طبيعة الذهن والرغبة الحرة. مرة اخرى، تبدو رؤية الكاتبة جيدة وتسير في المسار الصحيح. بدايتها تنطلق من الاشارة الى ان ماسمي بـ "المشكلة الصعبة" للوعي، (كيف يمكن للفعالية الفيزيقية لأعصابنا إنتاج خبراتنا ؟) هي مشكلة صعبة لأنها عادة يتم صياغتها بطريقة مادية معينة للحديث، وهو ما يتركنا مع لا شيء الاّ مع اللغز الصعب في كيف لـ "قطعة من اللحم"(حتى هذه الصياغة خاطئة لأن اللحم ميت كما تشير الكاتبة) تؤدي الى ظاهرة من الوعي الذاتي.

رؤيتها ان هذه الطريقة من إعداد المشكلة يمكن تجنّبها حالما نأخذ نظرة فلسفية وندرك ان ما يُفترض مادية "علمية" هو فقط طريقة واحدة للحديث عن العالم، وان طريقة التحدث المرتكزة على الوعي الذاتي هي ذاتها طريقة صالحة بنفس المقدار – الرؤية من خلال عدسات مختلفة، او طرح مختلف انواع الاسئلة. هذا يوضح بالضبط ان دور الفلسفة هو تبنّي طريقة واحدة للحديث وطريقة اخرى للحديث في كلتا اليدين ودمج الاثنين مع بعضهما، بما يسمح لنا للتفكير حول المشكلة بطريقة اكثر تنويرية، بدلا من العمل غير المفيد وغير الضروري والبطيء من داخل موقف واحد.

الآن هناك بعض التحفظات الثانوية التي لن تضعف صوابية ما تقوله الكاتبة عن الفلسفة. احدى التحفظات هي مسائلة تأطير السؤال ذاته، خاصة المتعلق بدلالة كلمة "for" الواردة في عنوان الكتاب. ربما يُسأل حول ما اذا كانت الفلسفة يجب ان تكون لأجل اي شيء، بدلا من القول انها ببساطة شيء ما. هي صحيحة حول دورها في وضع وربط مجموعة من طرق التحدث – ولكن اذا كانت هذه الفكرة عُرضت بقوة كبيرة فانها تقلل من قيمة الفلسفة وربما تترك الاهتمام الجوهري في المشاكل الفلسفية.

هذه المسألة جرى توضيحها باختصار من قبل A.J.Ayer في نهاية كتابه (الأسئلة المركزية في الفلسفة 1975)، حيث قال انه من الطبيعي الفلسفة قد تخدم اشياءً خارج ذاتها، وانها ربما حتى تغيّر الاشياء، هو يستمر في القول : "حتى هذا فهو ليس مصدر سحرها بالنسبة لمعظم اولئك الذين يمارسونها. بالنسبة لهم، قيمتها تكمن في أهمية الاسئلة التي تثيرها والنجاحات التي تحققها في الإجابة عليها".

جواب الكاتبة النهائي لسؤال "لماذا الفلسفة؟" هو ان هدفها ليست كالعلم. العلماء متخصصون يدرسون أجزاءً من العالم، لكن الفلسفة تهم كل شخص. انها تحاول ان تضم مظاهر الحياة الى بعضها والتي كانت في السابق منفصلة لكي تجعل صورة العالم اكثر تماسكا، والتي هي ليست رفاهية خاصة وانما شيء اساسي لحياة الانسان.

هناك عدد قليل من الأخطاء في الكتاب. فيها تأتي الكاتبة الى الاقتصاد وتتناول امور تفصيلية اقل اهمية. معرفة الكاتبة تبدو متقلبة كثيرا، وآرائها تقليدية لمنظور معين لليسار الليبرالي. في هذه الحالة هي تبدو غير قادرة على تحقيق ما تدعو اليه - تجعل الخارج منظور مغلق نسبيا. نفس الانتقاد ينطبق على رؤاها البيئية. في كلتا الحالتين قد يقول المرء ان رؤاها تهزم فلسفتها. الكتاب ايضا فيه نزعة الرجوع المتكرر مع الميل لترك الموضوع بشكل مفاجئ بالانتقال الى موضوع جديد.

لكن هذه انتقادات ثانوية. هذا الكتاب ليس تاما – لكن منْ يتوقع الكمال؟ الرسالة هامة جدا وصحيحة جدا.

الكتاب: لماذا الفلسفة؟
الكاتب: Mary Midgley، الكاتبة درّست الفلسفة في جامعة نيوكاسل البريطانية للفترة من 1962 الى 1980 وهي من رواد الفلسفة الاخلاقية في القرن العشرين. كتبت بكثافة حول طبيعة الانسان والعلوم والاخلاق والحيوانات والبيئة. توفيت في اكتوبر من نفس السنة عن عمر ناهز 99 عاما وبعد شهر من نشر الكتاب.
اصدار: صدر في سبتمبر من عام 2018 عن دار Bloomsbury Academic
عدد الصفحات: 232 صفحة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق