q
لا يكفي أن تكون قارئا فحسب، إنما يجب أن تكون قارئا نوعيا ناجحا، كما أننا يجب أن نفهم بأن القراءة تتدخل بطريقة أو أخرى بصناعتنا، وهي مع الوقت تجعلنا مدمنين عليها لدرجة أن لا فكاك منها، وهذا قد يكون مضادّ لنا في حال صنعت منّا القراءة...

سؤال مهم أو يبدو كذلك، نبدأ به مقالنا هذا، السؤال هو: هل القراءة تصنع قارئا، أم أديبا كاتبا، أم خطيبا لبقاً، أم مفكرا، أم تصنع هؤلاء جميعا؟؟

ما لا يمكن إنكاره، أن القراءة تصنع القرّاء، فهذه الإجابة مفروغ منها، ولكنها سوف تسحبنا إلى تساؤل أهم من الأول، هو: هل القارئ الذي تصنعه القراءة متشابهاً أم مختلفا عن غيره، بمعنى هل القراء الذين يباشرون الفعل القرائي لهم نفس المواصفات والقدرات والاستثمارات في التفكير أو في الكتابة والخطابة؟

هناك نظريات أدبية بحثت في هذا الشأن، وقدمّت لنا أنواعاً من القراء مختلفين عن بعضهم، وأعطتهم تسميات وصفات لا تتشابه مع بعضها، منها ما يرد في كتاب فعل القراءة لـ (فولفغانغ إيزر) إذ يقول: هناك (القارئ الأعلى) بحسب ريفايتر، و (القارئ المُخبَر) بحسب فيش، و (القارئ المقصود) بحسب وولف.

إذاً نحن نقرّ بأن القراءة تصنع قرّاءً مختلفين، لهم تسمياتهم وصفاتهم التي تميزهم عن بعضهم، لكنني في مقالي هذا لا أذهب بعيدا في استغوار بواطن النظريات الأدبية النقدية أو سواها...

إنني في الحقيقة أبغي إلقاء الضوء على القراءة بوصفها أداة أو مصنع لصناعة القراء وعقولهم، وهو أمر متَّفق عليه، كما أنني أتوسّم الوضوح والسهولة في إيصال فكرتي، بعيدا عن التطبيقات العلمية التي تتطلب جهدا علميا عميقا وهو ما لا يتوافق مع الهدف من مقالي هذا.

إنك يمكن أن تصبح قارئا من طراز معيّن إذا واظبت على القراءة باستمرار، ولكن ما الذي تريد أن تصل إليه، فهناك ملايين البشر يبحثون مثلك عن الكتب ومختلف المطبوعات، وينبشون في المواقع الإلكترونية، لدرجة أنهم أدمنوا القراءة، بعضهم يقرأ للتسلية، وآخرون يغوصون في بحور العلم وفق المنهج الدراسي.

ولكن يبقى القارئ الأهم هو ذلك العقل الساعي إلى ملء فراغاته بالأفكار البنّاءة، فيما يبقى قارئ آخر يغوص في القراءة كي يصبح متكلما لبِقًا في التجمعات الثقافية، والندوات المختلفة، في حين يروم آخرون أن يصبحوا خطباء يؤثرون في المستمعين أو المتلقّين، ومما لوحظ على معظم اللبقين في الكلام أنهم مقلّون في عملية التدوين، أي أنهم بارعون في توصيل آراءهم وأفكارهم عبر النطق.

ويُعزى ذلك من بعض المختصين إلى أسباب قد تكون مقنِعة، فمن يتكلّم جيدا وينقل أفكاره بطريقة ناجحة عبر أساليب النطق والتكلّم، يعتاد هذا الأسلوب من التوصيل، فتصبح الكتابة والتدوين عملية صعبة بالنسبة له، لكن لكل قاعدة شواذ، فهناك قارئ لبق وكاتب جيد في نفس الوقت.

في أمسياتنا الأدبية والفكرية الأسبوعية التي كنّا نقيمها باستمرار، لاحظتُ أنا ومعي عدد من المثقفين، أن أحد المواظبين على حضور هذه الندوات له قدرة هائلة على النقاش، ولغة نطقهِ سليمة ومترابطة، ونبرته تجذب الآخرين، كما أن آراءه مترابطة متسلسلة كأنه كاتب ومفكر متمرس.

إلا أننا لم نقرأ له نصّا مكتوبا في ذلك الحين، فهناك بيننا أشخاص يكتبون نصوصا ومقالات تنال درجة القبول والجودة، لكنهم حين يرتقون المنصة يتلعثمون في الكلام، وتبدو الكلمات والأفكار التي ينطقون بها غير مترابطة ومتعثرة، مما يثير التساؤل بين المراقبين لهذه الحالة، المتكلم والمناقِش اللبق لا يكتب نصا أو مقالا مقبولا، بل لم يجرب ذلك، في حين يوجد آخرون يتعثرون في كلامهم لكنهم يكتبون أفكارهم بشكل مقبول؟!

هل للقراءة دور في ذلك؟؟، بعض المهتمين لا تعنيه هذه القضية ولا ينشغل بها، فالمهم لديه أن يواصل القراءة، وأن يبقى قارئا مواظبا متميزا ملتقطا للأفكار البنّاءة خلال قراءاته المتنوعة، وهناك كثيرون صرّحوا في أكثر من مناسبة، بأن القراءة هي التي صنعتهم، وإذا كسبوا صفة القارئ النوعي، فإن ذلك يعود إلى فعل القراءة نفسه، لأن الكلمة المكتوبة (المرئية) لا تسمح لقارئها بمغادرتها، كونها تمتلك إغراءات لا تمتلكها الكلمة المسموعة.

الرأي الأخير قد لا ينطبق على جميع الناس، فهناك من يحبّذ السمع على سواه لسهولته، أي أنه يفضل الاستماع إلى محاضرة صوتية على قراءتها في كتاب، وهذا النوع من البشر أبعد ما يكون عن القراءة، لأنه ليس قارئا نوعيا ولم يرتبط بقراءة الأفكار عبر الكلمات، وإنما اعتاد وفضّل الحصول عليها عبر السمع، ولهذا لم يصبح قارئا ولم تتمكن القراءة من ضمّهِ إليها كقارئ نوعي.

كلّنا نخضع في أوائل علاقتنا مع القراءة إلى توجيهات ممن سبقونا، بمعنى أننا ربما لا نختار ما نقرأه بأنفسنا إلا ما ندر، فهناك الأب والأخ والصديق والمعلم، هؤلاء قد ينصحك أحدهم بقراءة الكتاب الفلاني، لأن أفكاره تناسبهُ هو فنصحك بقراءته، وقد لا يروقك أو لا يتناسب مع تطلعاتك.

ولكن في كل الحالات فإن التشجيع على القراءة هو البوابة الأولى التي تدخل من خلالها على عالم رحب واسع لا محدود، هو عالم الأفكار، يمنحك إياه فعل القراءة.

ومع بداية الشروع بعقد الصداقة بين القارئ والقراءة، يتشكل مشروع (قارئ) جديد، تصنعه القراءة، ينهلُ منها أفكاره، وتتجسد عبر تلك الأفكار والقراءات شخصيته وعقليته وطبيعة تفكيره وسلوكه، وتتبلور المبادئ التي يؤمن بها وتلك التي يرفضها ولا يقترب منها.

في هذه المرحلة من علاقة القارئ بالقراءة، توجد ملاحظة مصيرية مطلوب من القارئ أن يتنبّه لها، كذلك مطلوب ممن يوجّهه ويرعاه من الأهل والأصدقاء والمعلمين التنبّه لها، فالقراءة (بذور فكرية)، نبذرها في تربة عقولنا، سوف تنبت ومن ثم تنمو وتكبر ومن الصعب أو المحال قلعها من تربة العقل.

هنا من الأهمية بمكان أن نتحلى - كقراء أو كموجهين- بحسن ودقة اختيار ما نقرأ، فلا يكفي أن تكون قارئا فحسب، إنما يجب أن تكون قارئا نوعيا ناجحا، كما أننا يجب أن نفهم بأن القراءة تتدخل بطريقة أو أخرى بصناعتنا، وهي مع الوقت تجعلنا مدمنين عليها لدرجة أن لا فكاك منها، وهذا قد يكون مضادّ لنا في حال صنعت منّا القراءة، عقولا لا يُرتجى منها فائدة.

اضف تعليق