q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

في وداع شهر رمضان الكريم

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

بقلوب تفيضُ خشوعا ورحمةً، يودّع المسلمون شهر الله، بعد أن عاشوا لياليه المترعة بالإيمان والمحبة، وبأجواء الألفة والتراحم والحرص على نظافة القلب واللسان، مع اندفاع الصائم لمساعدة الناس بأقصى ما يمكنه ذلك، فهذا الشهر الذي لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عام...

بقلوب تفيضُ خشوعا ورحمةً، يودّع المسلمون شهر الله، بعد أن عاشوا لياليه المترعة بالإيمان والمحبة، وبأجواء الألفة والتراحم والحرص على نظافة القلب واللسان، مع اندفاع الصائم لمساعدة الناس بأقصى ما يمكنه ذلك، فهذا الشهر الذي لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عام، له طعمه الخاص وتأثيره الفاعل على النفوس والقلوب، وهو الفرصة الأعظم لتغيير الإنسان.

دخول شهر رمضان يحتاج إلى تهيّؤ واستعداد، والخروج منه لابد أن يكون بحصيلة تغيير إيجابي كبير، أما الاستعداد لهذا الشهر، فهو يتمثل بإصرار الإنسان على الأداء التام لما يتطلّبه من صيام الجوارح والجسد معا، يرافق ذلك تدريبا متواصلا على محاسبة النفس وتعليمها وجعلها أكثر قربا من الله تعالى، وتلطيف الأحاسيس والقلب، حتى نخرج منه بنفوس وقلوب ملطّفة بالرحمة والخشوع.

هكذا ينبغي للمؤمن وللصائم أن يودّع هذا الشهر، كما يتم توديع العزيز الذي يشكل خسارة فادحة، ويترك وحشة هائلة في النفوس، ويجعل القلوب تنتظر لقاءه مرة أخرى بلهفة ولوعة، وهذا بالفعل ما يعيشه الصائمون المؤمنون بعد توديعهم لشهر الطاعة والغفران والأمان، إنهم يشعرون بالأسى والحزن لفراقه، لكنهم يبقون في أمل اللقاء به مجددا في عام قادم.

لا يُستثنى أحد من خطوات التهيّؤ، أو الانتهاء منه بحصيلة أقل ما يُقال عنها وينتج منها، هو تغيير الإنسان إلى الأفضل، والدفع به نحو مصاف الشخصيات الكريمة المتعاونة المنتِجة، الشخصية التي تدخل شهر رمضان وتخرج منه بما يسر القلب ويأسر النفس ويجعلها خالية من شطحات الانحراف، فما يحيق بالإنسان من محرمات ومغريات في حياته، يفرض عليه تمسكا عاليا بشهر الله وأجوائه.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):

(نحن، جميعاً، بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه يكون قد تغيّر ولو قليلاً).

من الأمور المفروغ منها عند الجميع، أن شهر رمضان يختلف عن سواه من الشهور، حتى أولئك الذين لا يصون لأي سبب كان، سوف يشعرون بالتغيير الذي يفرز هذا الشهر عن الشهور الأخرى، ولذلك أطلق سماحة المرجع الشيرازي على هذا الشهر بأن (شهر بناء الذات)، لأنه الفسحة الزمنية المواتية لإرغام الإنسان لنفسه وإجبارها على التغيير، من خلال المداومة على بنائها البناء الذي يليق بكينونة الإنسان ومكانته ودوره في الحياة.

إذا أُهمِلتْ النفوس شطَّتْ

الهدف الأول للإنسان في شهر رمضان يجب أن يكون (بناء الذات)، يتم ذلك عبر خطوات محسوبة ومدروسة لتدريب النفس على هذا البناء، فالنفوس لا تتغير نحو الأفضل تلقائيا، بل على العكس إذا تُركَتْ النفوس شطَّت وانحرفت، وسوف تكون معرّضة لموجات الإغراء والملذّات والانحرافات، ولا يمكن حمايتها من هذا التدمير الممنهج، إلا إذا وعى صاحبها أهمية تحصين النفس وحمايتها.

يتم ذلك بالتدريب المنظّم للنفس، وشهر رمضان هو الزمن المناسب تماما لهذا النوع من المران الشاق، والصيام برنامج أساس لتغيير النفس وتطوير الذات، وليست هناك محصلة أو محطة نهائية لارتقاء الإنسان في مجال تطوير الذات وحماية النفس وجعلها في غاية النصاعة والنقاء، فكلما بلغ الإنسان مرتبة ارتقاء أعلى هناك مرتبة أعلى منها عليه أن يسعى إليها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(شهر رمضان المبارك هو شهر بناء الذات وتغيير النفس، وهذا الأمر مطلوب من الجميع، يستوي في ذلك أهل العلم وغيرهم، ومهما يبلغ المرء درجة في هذا الطريق فثمة مجال للرقي أيضاً).

فتوديعنا لشهر رمضان لابد أن يكون عن حصيلة تسرّ القلب، وتملأ النفس بالطمأنينة والسلام، إنه الشهر الذي يجب أن لا نخرج منه إلا بنفوس ملؤها الإيمان والاطمئنان والمحبة، وهذا ينتج عن التغيير الذي يجعل الإنسان مختلفا قبل شهر رمضان وبعده، فقبل دخول هذا الشهر شيء، وبعده شيء آخر، ولا يصحّ أن يبقى الإنسان كما هو بعد دخوله وخروجه من شهر رمضان.

ينعكس هذا التغيير على الإنسان جملة وتفصيلا، فإذا كان مسؤولا على سبيل المثال، يجب أن تتغير نظرته للمسؤولية ولكيفية أدائها، ولابد أنه يأخذ الحيطة من الانحراف، أو التقصير في حقوق الناس، إنه مطالب بالنزاهة وحفظ الأمانة والحقوق، وشهر رمضان يجعله قادرا على تنفيذ هذا المطلب، هذه هي الجدوى من صيام هذا الشهر، لأن النفس بعد درس الصيام سوف تصبح أكثر قدرة على الالتزام، وهذه هي حصيلة التغيير الإيجابي للصائم.

شهر رمضان يجعلنا أكثر التزاماً

فلنودّع شهر رمضان مع التأكد من أنه غيَّرنا، وجعلنا أكثر رحمة والتزاما بمسؤولياتنا تجاه الآخرين، فكل ذي مسؤولية عليه أن يؤديها كما يجب، والتغيير الذي يحدثهُ الصيام، يساعد الإنسان على أن يكون أكثر قدرة على الصمود ضد الانحراف بأنواعه، لذلك تبقى النقطة الأهم في توديعنا لشهر رمضان، هو درجة التغيير التي حصلنا عليها، والتأكد بأننا تغيّرنا إيجابيا بالفعل.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(بناء الذات واجب عيني في حدّ أداء الواجبات وترك المحرّمات، فعلى الإنسان أن يحاول في شهر رمضان المبارك أن يعمل حتى يبلغ مرحلة يعتقد فيها أنه تغيّر فعلاً وأنه أصبح أحسن وأفضل من السابق).

هذه هي معادلة ما قبل شهر رمضان وما بعده، في الطرف الأول من المعادلة الاستعداد والتهيّؤ والتوكّل والنيّة النقية الصافية على أداء الصيام بشروطه المعروفة، لاسيما (صيام الجوارح مع صيام الجسد)، أما الطرف الآخر من المعادلة، فيجب أن نتأكد من أننا ودّعنا شهر رمضان بنتائج واضحة من تغيير النفس، وتثبيت القلب، والإصرار على مقارعة الانحراف بأشكاله كافة.

قد يتساءل أحدهم، كيف يمكن بلوغ هذا الهدف الصعب، هدف تحييد النفس وترويضها، وجعلها متوازنة راضية بما آتاها الله من أرزاق مادية ومعنوية، والجواب واضح ويكمن في توضيح المرجع الشيرازي الذي يحث على وجوب محاسبة النفس والمواظبة الدائمة (اليومية) على ذلك.

بالطبع محاسبة النفس ليس أمرا هيّناً، ولكن في شهر رمضان الكريم، يصبح الإنسان أكثر قدرة على بلوغ هذا الهدف، لذلك لا يصح أن نغادر هذا الشهر المبارك من دون أن نستثمر لحظاته ولياليه وأجوائه لصالح بلوغنا أهدافنا، وفي المقدمة منها التغيير الإيجابي للذات، وزيادة رصانة النفس وتوازنها.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد هذه النقطة فيقول: (ليس هناك طريق للتوفيق أسهل من طريق محاسبة النفس، لأنها مطلوبة جدّاً ولها تأثير كبير على الإنسان).

هناك وسائل مساعدة تتيح للصائم أن يغيّر نفسه إيجابيا، وتجعله يودّع شهر رمضان بحصيلة تغيير كبيرة، ومن أهمها تلاوة القرآن الحكيم، والتعمّق في آياته الكريمة، وفهم مضامينها، والعمل بها، فهي سبيل الإنسان إلى سعادة الدارين، وهي طريقه إلى التغيير والابتعاد عن دروب الشر والخسران.

وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قولة: (ينبغي علينا في شهر رمضان المبارك تلاوة القرآن الحكيم والتدبّر فيه، فهو المقياس الأدبي لسعادة الدنيا والآخرة، فمن اتّبعه سعد في الدارين, ومن تركه شقي في الدين).

وها أننا وصلنا إلى نهاية هذا الشهر المبارك، مكللين بالغار، ومهيئين للاستمرار في أجوائه العطرة، مستذكرين لياليه الملفعة بالخشوع والرحمة والسلام، ملوحين له بالوداع، ومتأملين عودته بلهفة القلوب الظامئة، بعد أن عشنا ثلاثين يوما من الإيمان الزاخر بالمحبة والأمان والسلام الروحي الكبير.

اضف تعليق