q
الرد الايراني ضد اغتيال سليماني لم يحدث ولا يمكن له أن يحدث، لا في زمن ترامب ولا في زمن بايدن، واقتصر على مظاهر عزائية مثل اقامة مجلس تأبيني في موقع العملية، ثم رفع المهندس وسليماني في ساحة التحرير وسط بغداد التي شهدت أول احتفال بالعملية فضلاً وتسمية شارع المطار باسم ابو مهدي المهندس...

بعد إعلان الولايات المتحدة الأميركية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري في الثالث من كانون الثاني 2020، قرب مطار بغداد الدولي مع رفيقه نائب رئيس هيأة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وقف العالم خائفاً من الرد الايراني والذي كان يمكن له أن يشعل حرباً مفتوحة بين طهران وواشنطن.

الرئيس الإيراني حسن روحاني قال في حينها أن إيران و"الدول الحرة في المنطقة ستنتقم" للجنرال قاسم سليماني "من المؤكد أن الأمة الإيرانية الكبيرة والدول الحرة الأخرى في المنطقة ستنتقم من أميركا على هذه الجريمة البشعة". هذه رسالة نشرت على الموقع الإلكتروني للرئاسة الإيرانية يوم حادثة الاغتيال.

المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي الذي كان يعتبر سليماني يده الطولى لتنفيذ سياساته الثورية خارج البلاد علق بجملة قصيرة: "انتقام قاس ينتظر المجرمين"، لحقه قائد الحرس الثوري الإيراني السابق محسن رضائي بتعليق مشابه متعهداً "بانتقام عنيف ضد أمريكا".

احتفالات في ساحة التحرير وسط بغداد ابتهاجا بالحادثة، ما لبثت أن تحولت إلى إنكار للاحتفال واستنكار لحادث الاغتيال بعد خطبة المرجعية الدينية التي وصف سليماني والمهندس بقادة الانتصار على داعش، وجنازة القادة رفعت على أكتاف عشرات الالاف من المشيعين في بغداد وكربلاء والنجف.

انقلبت الشتائم ضد سليماني والمهندس بين لحظة الاغتيال وخطبة المرجعية، وكأن التظاهرات استشعرت الخطأ بعد أن نشر وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو الاحتفالات وروج الإعلام الأميركي له على أن ما حدث جاء بموافقة عراقية، تحولت ساحة التحرير إلى طرف فعلي في العملية من حيث يشعر أصحابها أو لا يشعرون.

ترامب يرفع العلم الاميركي في تغريدة له عبر تويتر، ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي تعترض على القرار وتحذر من تبعاته، وجو بايدن يعتقد أن ترامب مدين للشعب الأميركي بضرورة كشف طريقة اغتيال سليماني والمهندس.

الإمارات العربية المتحدة تدعو لضبط النفس، والسعودية تبحث تبعات العملية، والكويت تتأهب، فقاسم سليماني يمثل الذراع الفعلي لنفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط من طهران إلى بيروت ودمشق ثم بغداد، ذلك الطريق الأخير الذي سلكه سليماني صنعه مع رفاقه بجهد بذلوه لسنوات طويلة، خسروا فيه الكثير من عناصر الحرس الثوري والفصائل الشيعية المسلحة.

إسرائيل حصدت قادة وعناصر الحرس الثوري في سوريا، ثم استهدفتهم في العراق قبل أشهر من اغتيال سليماني، لكنها لم تجرؤ على اغتيال سليماني الذي تعرف تحركاته جيداً، وهو الذي يتنقل في موكب صغير من السيارات وربما سيارة واحدة في بعض الأحيان.

أميركا استفزته بقتل رفاقه في منطقة القائم قرب الحدود السورية، فثارت الفصائل المسلحة لاقتحام المنطقة الخضراء، وحاصروا السفارة الاميركية وبمشاركة أبو مهدي المهندس، توترت الأجواء بشكل لم يسبق له مثيل، يعمل نائب رئيس هيأة الحشد الشعبي الذي شارك في حصار السفارة على تهدئة الأوضاع بشكل مؤقت بانتظار قدوم رفيقه قاسم سليماني.

ثلاثة أيام كانت فاصلة بين اقتحام السفارة، واغتيال سليماني الذي تقول الحكومة العراقية في حينها أنه جاء بمبادرة لحل الازمة، ذهب المهندس لاستقباله في مطار بغداد برفقة عدد قليل من الحماية الشخصية، ووسط تكتم وسرية تامة حتى على أقرب المقربين منه.

اغتيل الضَيّف والمُضَيّف ومعهم الحماية الشخصية، صورت الكاميرات بدقة عملية الاغتيال حتى لا تضيع القصة من إيدي القاتل، أعلنت أميركا اغتيال سليماني والمهندس، ثم أعلنتها ايران.

التهديد الانتقامي جاء من إيران كالعادة، وبعد ثلاثة أيام، لم تنتهي مراسيم تشييع سليماني حتى حلقت الصواريخ الإيرانية فوق الأراضي العراقية مستهدفة قاعدة عين الأسد في محافظة الانبار غربي البلاد، وقاعدة عسكرية أميركية في أربيل شمالاً.

أميركا تنكر وقوع إصابات والمعلومات الإيرانية تتحدث عن عشرات القتلى، وأميركا تنفي، بعد أيام بدأت واشنطن تظهر ما بجعبتها من خسائر، عشرة ثم عشرين ثم ثلاثين وحتى خمسين وأكثر، هذه أعداد الجنود الأميركيين الذين أصيبوا بارتجاج بالدماغ نتيجة الضربات الصاروخية الايرانية.

هل هذا يكفي؟

يقول المرشد الإيراني علي خامني أن تلك الصواريخ مجرد صفعة بوجه الأعداء، والانتقال القاسي يأتي مستقبلاً، تمر الأيام والتصريحات الإيرانية تتطاير أكثر من الرصاص.

وبينما تهدد طهران وتهدد وتهدد يظهر رئيس جهاز المخابرات العراقي بصفته مرشحاً لرئاسة الوزراء خلفا لمرشح إيران المستقيل بضغط التظاهرات عادل عبد المهدي، المثير في قضية رئيس الوزراء الجديد أنه المتهم بإعطاء معلومات دقيقة للقوات الأميركية التي اغتالت سليماني، حتى أن بعض الفصائل وصفته بأنه "كاظمي الغدر" نسبة لتهمتها له بالمساعدة في قتل سليماني.

ربما يمثل اختيار الكاظمي أول خسارة إيرانية بعد فقدان سليماني، كانت طهران تقول إنها فازت بنتيجة ثلاثة صفر ضد واشنطن عند اختيار حكومة عادل عبد المهدي وبلمسات سليماني في ذلك الحين، خسرت هذه المرة عبد المهدي وسليماني وصعود المتهم بتسريب المعلومات لقاتلي زعيم ثورتها في الخارج.

تمر الأيام سريعة لكنها خانقة، تتعرض إيران لعقوبات جديدة مرة ضد كيانات داخل البلاد، ومرة ضد قيادات تابعة للفصائل المسلحة المتحالفة معها، وتخسر جولة جديدة في السباق نحو الانتقام من قتلة سليماني.

أقصى ما قامت به إيران بعض ضربة عين الأسد هو استمرار الهجمات ضد محيط السفارة الاميركية في بغداد، وحتى هذه الهجمات التي لم تقتل جندياً أميركياً واحداً لكن قائد الحرس الثوري الإيراني الجديد اسماعيل قاآني جاء إلى بغداد قبل أسابيع من حلول الذكرى السنوية الأولى لاغتيال سلفه لإعلان براءة طهران منها، والفصائل المسلحة المعروفة تسير على نهجه في استنكار القصف وتدعو للتهدئة، فإيران تستشعر وجود نية لدى ترامب بتسديد ضربة أخيرة ومميتة ضد طهران قبل نهاية مدة حكمه.

في أواخر تشرين الثاني من عام 2020 تتلقى إيران تلك الضربة الموجعة باغتيال أحد أبرز علمائها النوويين، محسن فخري زادة يصطف في قائمة ضحاياها، لتبدأ العام بخسارة عقلها العسكري وتختمه بخسارة عقلها النووي، مع اختلاف القاتل الذي لم يعلن عن نفسه هذه المرة.

وعلى عكس ما حدث خلال اغتيال سليماني، بدأت طهران بلغة أقل حدة، فالوضع لا يحتمل المزيد من التوتر، وهي غير قادرة على الرد، وتصريحاتها الانتقامية بعد مقتل سليماني حملتها ثقلاً كبيراً وكشفتها أمام أعدائها، وعلمت الآخرين بأن التهديدات الإيرانية شيء والواقع شيء مختلف، لا سيما اذا كان هناك رئيس اميركي متشدد اسمه ترامب لا يؤمن إلا بمنطق العقوبات القصوى، ثم تتعاون معه جائحة كورونا التي كلفت البلاد الكثير.

الرد الايراني ضد اغتيال سليماني لم يحدث ولا يمكن له أن يحدث، لا في زمن ترامب ولا في زمن بايدن، واقتصر على مظاهر عزائية مثل اقامة مجلس تأبيني في موقع العملية، ثم رفع المهندس وسليماني في ساحة التحرير وسط بغداد التي شهدت أول احتفال بالعملية فضلاً وتسمية شارع المطار باسم ابو مهدي المهندس.

اضف تعليق