q
إسلاميات - القرآن الكريم

موازين الآخرة

من كتاب خواطري عن القرآن

الإنسان، بتركيبته الخاصة من تراب الأرض ومن وهج السماء، يبقى تجربة مفتوحة لاشتراك الفعاليات المتناقضة. فلا هو ممحض لتراب الأرض، ولا هو مخلص لوهج السماء؛ حتى يستطيع السير المستقيم في اتجاه الباطل أو الحق. فيبقى متعرجاً دائم التردد: فلا يختار خط الباطل إلا وتعرجه ومضاته المتوهجة...

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً. وإن كان مثقال حبة من خردل، أتينا بها. وكفى بنا حاسبين).الأنبياء: 47

1- الإنسان، بتركيبته الخاصة من تراب الأرض ومن وهج السماء، يبقى تجربة مفتوحة لاشتراك الفعاليات المتناقضة. فلا هو ممحض لتراب الأرض، ولا هو مخلص لوهج السماء؛ حتى يستطيع السير المستقيم –بروية واحدة، على خط واحد– في اتجاه الباطل أو الحق. فيبقى متعرجاً دائم التردد: فلا يختار خط الباطل إلا وتعرجه ومضاته المتوهجة، ولا يختار طريق الحق إلا وتلكئه صبواته المتبلدة.

2- الإنسان – بمدده الخارجي من: الملائكة والشياطين، ودعاة الخير والشر – يبقى ساحة مفتوحة لصراحة القوى الخارجية الكبرى وهي تجد – في الداخل – قواعدها الطبيعية، ونداءات الاستغاثة؛ فتخف لنجدتها. وترفد كل قوة خارجية، ما يسانخها من الفعاليات المتناقضة في الداخل، فيتم تدخل القوى الخارجية بطلب القوى الداخلية.

3- الفعاليات الداخلية والقوى الخارجية، كثيرة مختلفة:

فالفعاليات الموجبة هي (الفضائل) والفعاليات السالبة هي (الرذائل). أو ما عبَّر عنهما الأئمة (عليهم السلام) بـ (جنود العقل وجنود الجهل)(1)، أو ما عبر عنهما الفلاسفة بتعبيرات متعددة لا تختلف في الدلالة عليها.

وأما القوى الخارجية: فالموجبة منها قوى: الأنبياء، والملائكة، والأوصياء، والموجهين، وأدواتهم من وسائل التوجيه والمشجعات على الخير. والسالبة منها قوى: الجبابرة، والشياطين، وأدواتهم من وسائل الإغراء والمرغبات في الشر.

4- هذه المعركة، لا تعرف الهدنة ولا الصلح ولا المفاوضات، وهي مستمرة في كل فرد – أنَّى كان، وحيثما كان – ولا تهدأ في أي حال من الأحوال، كلُّ ما هنالك أن محاورها تختلف: فعندما يعمل العقل، يكون محورها العقل، وحيثما يعطل العقل بالنوم – أو بالتركيز على شيء معين – ينتقل محورها إلى العقل الباطن.

5- وهذه المعركة لا تختص بالإنسان وحده، وإنما هي شاملة: تسع الإنس والجن، بلا خلاف.

وتسع الملائكة أحياناً، بدليل أن بعض الملائكة تعرضوا للخطأ الأولوي والعقاب؛ كـ(فطرس)(2).

وتسع الشياطين، بدليل أن (إبليس) كان يعبد فترة زمنية طويلة، حتى رقي إلى درجة (معلم الملائكة)، وحمل لقب (طاووس الملائكة).

وتسع الحيوان، لقوله تعالى:

((أ لم تر؟! أن الله يسبح له: من في السماوات والأرض، والطير صافات...)) (3).

((أ لم تر؟! أن الله يسجد له: من في السماوات، ومن في الأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب...))(4).

وللأخبار التي تؤكد أن الحيوانات تحشر يوم القيامة، حتى تثأر الجماء من القرناء(5). وللأخبار الدالة على أنه ما تعرض حيوان لصياد أو حيوان كاسر، إلا لغفلته عن ذكر الله(6).

وتسع النبات، لقوله تعالى:

((أ لم تر؟! أن الله يسجد له: من في السماوات، ومن في الأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر...))(7).

وتسع الجماد، لقوله تعالى: ((ويسبح الرعد بحمده...))(8).

((... وإن من شيء إلا يسبح بحمده...))(9).

((إنا عرضنا الأمانة على: السماوات، والأرض، والجبال...))(10).

والأخبار الدالة على تكليف المخلوقات كافة، كثيرة تحتوي على تفاصيل موكولة إلى مظانها.

6- وهذه المعركة قد تعدو غير المعصومين إلى بعض أصحاب المرتبة النازلة من العصمة كبعض الأنبياء غير الرسل، فتشملهم أيضاً، لأن فعالية التراب لا تغفل من له جسم. والمعصومون من البشر، فنادراً في غير الرسل قد يصادف تحملهم لتبعات أجسامهم، وإن كانت أرواحهم القوية تهيمن على أجسامهم وتكبح أنانيتها، ولكنها لا تفتر عن التذبذب والتلمُّض، وإن كانت فاعليتها تبقى في نطاق محدود.

ويمكن القول:

إن الجسم والروح في صراع، ما دامت الروح متعلقة بالجسد. ولكن إرادة الروح تختلف قوة وضعفاً، كما أن رغبة الجسد تختلف شدة ووهنا – من فرد إلى فرد –: فبمقدار ما تقوى إرادة الروح توهن رغبة الجسد، وبمقدار ما تشتد رغبة الجسد تضعف إرادة الروح.

ونتيجة لاختلاف المستويات، يمكن تصنيف الناس إلى ثلاثة أصناف:

الأول:

أصحاب الأرواح القوية، التي بلغت القمة قبل أن تأتي إلى هذه الحياة. وهؤلاء... يكبحون رغبات أجسامهم، ولكن يتجاوبون مع ضرورات أجسامهم، فيلبون حاجاتها إلى: الغذاء، والكساء، والسكن، والجنس، والنوم... ثم يعترفون بمدى قدرة الجسد، فلا يحملونه أكثر من طاقته على الاحتمال، فيضطرون إلى (ترك الأولى) وإلى (فعل غير الأولى). ورغم أنها ضرورات لا يصح إهمالها، إلا أنها لا تناسب مستوى الروح الرفيعة. فيتجاوبون معها، خجلين من القصور الذي يعانون من أجسامهم التي لا يستطيعون التخلص منها إلا بانقضاء آجالهم المحددة. وكما يعانون من أجسامهم، هكذا... يعانون من مجتمعاتهم وأجوائهم العائلية، التي لم يؤمروا بتجاوزها ولكن لا تليق بهم.

فمثلهم مثل: من يضطر إلى الظهور أمام الأضواء بغير ملابسه الرسمية، أو يستولي عليه النوم في احتفال، أو يقدم عليه ضيوف لا يتمكن من استضافتهم... فهو يخجل ويعتذر، رغم أنه لم يرتكب خطيئة، وإنما اضطر إلى ما هو غير مستحب أو غير مستحسن.

فهؤلاء... لا يتجاوبون مع رغبات الجسد حتى درجة الكفر، ولا حتى درجة العصيان، وإنما إلى درجة (ترك الأولى) وفعل (غير الأولى). وهو – بالنسبة إليهم – شيء كثير، يعتبر – بالنسبة إليهم – بمثابة الذنب الذي يستوجب الاستغفار.

وإذا أردنا الاستعانة بالمقارنات، نستطيع القول:

لا شك أن إيمان الأنبياء والأوصياء بالله، أشد من إيمان الملائكة بالله. والملائكة بين: قيام لا يركعون، وركوع لا يقومون، وسجود لا ينتصبون.

فالذي يليق بمستوى الأنبياء والأوصياء، أن يكونوا في حالة تكرس كامل أمام الله طول فترة حياتهم. فأي التفات إلى غير الله، لا يليق بهم مهما كان السبب. فأي توجه إلى غير الله: إن كان لضرورة عدَّ قصوراً، وإن كان لغير ضرورة عُدَّ تقصيراً يستغفرون منه.

وهذا... يعني أن فاعلية الجسد تتقلص إلى أدنى الدرجات، ولكنها لا تتعطل نهائياً. ولو تعطلت نهائياً، لم يكونوا معرضين للتجربة.

الثاني:

أصحاب الأرواح الضعيفة، التي انتقلت إلى هذه الحياة بدون رصيد، أو برصيد أقل فاعلية من فاعلية الجسد. وهؤلاء... يندفعون مع رغبات الجسد التي تغالب نداءات الروح، فتقهرها. وانتصار رغبات الجسد – بأية نسبة كان – يعني السقوط في دائرة الحيوان. ولكن إذا ارتفعت النسبة، بلغت حد الكفر أو الكفر ذاته.

ورغم سقوط الفرد في دائرة الحيوان، والانحدار إلى الكفر؛ تبقى فاعلية الروح مكملة للنسبة. فلو كان اندفاع الفرد مع رغبات الجسد بنسبة 80%، تكون فاعلية الروح بنسبة 20%. وهكذا... تنخفض نسبة فاعلية الروح بارتفاع نسبة فاعلية الجسد، حتى قد تبلغ 1%أو 2%. ولكنها لا تتعطل، ولو تعطلت نهائياً بطلت التجربة.

الثالث:

أصحاب الأرواح المتوسطة، التي وصلت إلى هذه الحياة برصيد متوازن مع الجسد فاعلية. وهؤلاء... لا يكبحون رغبات الجسد كالصنف الأول، ولا يقهرون نداءات الروح كالصنف الثاني، وإنما يتأرجحون بين الجسد والروح: فمرة يتغلب الجسد، وأخرى تنتصر الروح؛ فيعملون السيئات والحسنات، استجابة للمغريات ودواعي الإيمان.

ولكل واحد من الأصناف الثلاثة، درجات مختلفة كثيرة، حسب اختلاف حصيلة الأعمال اليومية التي يمارس الأفراد.

وهذه الأعمال اليومية، وتلك الأرصدة التي يأتي بها الأفراد من العوامل السابقة؛ تقيم يوم القيامة. وبمقتضاها، يصنف الناس في درجات الجنة أو دركات النار.

والموازين، هي المعادلات التي تختلف من وقت لآخر... ومن شيء لآخر...

وفي عهدنا يوجد: ميزان للأشياء الخفيفة يعتمد على كفتين، وميزان للأشياء الثقيلة يعرف بالقبان، وميزان للفكر يسمى بعلم المنطق، وميزان للتحقق من عملية حسابية هو نوع من الحساب، وميزان لمعرفة استقامة الجدار يعتمد تحرك الزئبق أو الهواء لتشخيص جهة الميل... وهكذا لكل شيء ميزان يتناسب معه.

وللأعمال ميزان، أو لكل نوع من العمل ميزان – أو موازين – في الدنيا، حسب ما هو متاح للناس في الدنيا لتقييم الأعمال.

وفي الآخرة موازين، حسب ما هو متاح هناك. فلكل نوع من العمل ميزان، أو موازين.

وإذا أمكن الخطأ والعطل في موازين؛ فموازين الآخرة موازين القسط، التي لا خطأ فيها ولا عطل.

.......................................
(1) أصول الكافي – ج 1 – ص 21 – ح 16 – 106.
والخصال – ج 2 – ص 589 – ح 3.
(2) بحار الأنوار – ج 43 – ص 251 – ط مؤسسة الوفاء.
(3) سورة النور: الآية 41.
(4) سورة الحج: الآية 18.
(5) انظر بحار الأنوار – ج 7 – ص 265 – ح 21.
(6) الاختصاص – للمفيد – ص 25 – ط مؤسسة الوفاء.
(7) سورة الحج: الآية 18.
(8) سورة الرعد: الآية 13.
(9) سورة الإسراء: الآية 44.
(10) سورة الأحزاب: الآية 72.

اضف تعليق