q
استخدام التطرف من الطرفين المتصارعين هو الذي ألغى جميع فرص الحل، وطالما أن الطبقة السياسية والأحزاب ومن يؤيدها، شعرت بأنها مهددة بالإلغاء التام، فإن الطابع الدموي سوف يكون سيد الموقف، وأن البطش لن يتوقف بل يزداد يوما بعد آخر، وهذا ما حدث بالفعل...

لا يبخل التاريخ علينا بالأمثلة الكثيرة عن نظرية المؤامرة التي تعني (بالإنجليزية: Conspiracy Theory) وهو مصطلح انتقاصي يشير إلى شرح لحدث أو موقف اعتماداً على مؤامرة لا مبرر لها، عموماً تأخذ المؤامرة في مضمونها على أفعال غير قانونية أو مؤذية تجريها حكومة أو جهات أخرى قوية. تُنتج نظريات المؤامرة في أغلب الحالات افتراضات تتناقض مع الفهم التاريخي السائد للحقائق البسيطة.

وتعتمد نظرية المؤامرة وفقاً للعالم السياسي مايكل باركون، على نظرة أن الكون محكوم بتصميم ما، وتتجسد في ثلاث مبادئ: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط مع بعضه. أحد الصفات الشائعة هي تطور نظريات المؤامرة هذه لتدمج في تفاصيلها أي دليل موجود ضدهم، ليصبحوا بذلك جملة مغلقة غير قابلة للدحض وعليه تصبح نظرية المؤامرة "مسألة إيمان بدلاً من دليل".

وبحسب مصادر مختصّة فإن تعريفات مصطلح نظرية المؤامرة تختلف باختلاف وجهات نظر أصحابها، فغالبا ما يوجد طرفان رئيسيان في المؤامرة وهما المتآمِر (وهم الحكومات عادةً) والمُتآمَر عليه (وهو الشعب عادةً)، وذلك لإخفاء الحقيقة، وهي (مثلما واضح من التسمية) مقتبسة من الفعل تآمر والذي يعني صياغة أكاذيب بشكل منظم، فقد تحدث في المنزل وقد تحدث في العمل وقد تحدث في الدولة وقد تحدث على مستوى عالمي.

هذا على مستوى المكان، وعلى مستوى الزمان أيضاً هو غير محدود، ولا بد فيها من وجود طرف متآمر (والذي يفعلها عن قصد) وطرف مُتآمَر عليه، وقد يكون أطراف هذه المؤامرة أو أحدهم على علم بها، وقد تتم المؤامرة دون علم المستهدفين بها، ودائماً تأخذ شكل التهمة.

تهمة المؤامرة كظاهرة دولية

في المظاهرات التي اجتاحت الدول العربية، أو سواها من الدول في أوربا (فرنسا)، وأمريكا اللاتينية (تشيلي)، أو هونغ كونغ وفنزويلا وسواها، كل هذه المظاهرات رافقتها اتهامات من قبل الحكومات للمتظاهرين بأنهم مرتبطون بجهات خارجية تسعى لتحطيم الدولة والشعب مع تباين قليل في الأساليب، لكنّ السبب الحقيقي وراء هذا النوع من الاتهامات يكمن في الخوف من ضياع السلطة من الطبقة الحاكمة أو حكومات تلك البلدان.

في العراق انطلقت مظاهرات حاشدة في مطلع تشرين من العام الماضي، أُطلِق عليها تسمية (مظاهرات أو حراك أو ثورة تشرين)، وكغيرها من المظاهرات في الدول الأخرى رافقتها اتهامات حكومية أو سياسية حزبية للمتظاهرين، وبهذا لم يسلم هذا الحراك من نظرية المؤامرة، فقد تم اتهام المتظاهرين بالكثير من التهم الجاهزة، مثل (الجوكرية) والعملاء، أو غير ذلك من التهم الجاهزة التي أطلقتها الطبقة السياسية والأحزاب، واستخدمت جميع الوسائل المتاحة لتنفيذها من أجل إفشال هذه الموجة المختلفة من الاحتجاجات.

فتمّ توظيف الإعلام بكل أنواعه في نشر الاتهامات، وتصاعدت عمليات تسقيط منتظمة ضد الشباب المتظاهرين وغيرهم، حتى مواقع التواصل الاجتماعي كانت وسيلة للتسقيط وإلصاق التهم بالناشطين، وربما أصبحت وسائل التواصل هي الوسيلة الأكثر تأثيرا، مع مواصلة حملات التصفية والقمع والمطاردة والاغتيالات، لإطفاء جذوة هذه المظاهرات، لكنها لم تؤدِّ إلى وأدها.

في قراءة موضوعية علمية محايدة، قائمة على الوقائع والأدلة، سنكتشف أن هناك صراعا مصيريا بين الطرفين، الطرف الأول المتظاهرون، والطرف الثانية الطبقة السياسية ومنها الحكومة أو السلطة التنفيذية، هذا الصراع ظل محتدما بين الطرفين، وأخذ خطّا تصاعديا، ولم يدّخر الطرفان جهدا في كيل الاتهامات للآخر!.

الحكومة والطبقة السياسية خاصة الأحزاب، اتهموا المتظاهرين بالعمالة للأجنبي تضاعفت حملات التخوين ورافق ذلك نوع من البطش غير مسبوق، من جهة أخرى لم يكن المتظاهرون بلا أخطاء، بل ظهرت في أوساط المحتجين المختلفة أخطاء ما كان لها أن تظهر، لأنها لم تكن في صالح الحراك!.

إنهاء التطرف وإلغاء الآخر

من تلك الأخطاء وقد تكون أخطرها، إدارة الصراع مع الآخر بأساليب متشابهة، بمعنى أن الطرفين يتقاتلان ويتصارعان بنفس الأساليب تقريبا، مثال ذلك تأكيد جموع من المتظاهرين على نسف التراث أو ما يسمى (بالمقدس)، وهو طرح لم يكن صحيحا، لأنه أعطى ذريعة للأحزاب والسلطة بمحاربة المتظاهرين (الشباب) حفاظا على المقدس وإنقاذه ممن يدعو إلى التجاوز عليه وإزالته!!، ومن الواضح أنها تبرير غير حقيقي للأحزاب كي تقمع المتظاهرين.

لكن السبب الحقيقي في حس المؤامرة وحملات التخوين ليس الخوف على الإرث الثقافي والديني العراقي كما تعلن الجهات التي تريد وأد التظاهرات، وإنما السبب هو الخوف على مصالحهم وسلطتهم ومناصبهم وامتيازاتهم، وقد أعطى المتظاهرون الحجة لهؤلاء الساسة، حين أظهر الكثير منهم العداء المعلن للدين والتراث العقائدي بحجة المنهج الفكري اليساري أو العلماني الذي سينقذ العراق في رأيهم.

هذا المنهج الخاطئ الذي يقوم على إلغاء الآخر، جعل من الصراع مفتوحا بين الطرفين، وأغلق فرص الحلول، بل جعل من الطبقة السياسية والأحزاب تعيش حالة رعب الاقتلاع من الجذور والإلغاء التام، وهو ما يعلنه المتظاهرون علانية، لذلك حاول السياسيون ترويج العداء للمتظاهرين تحت حجج (الإلغاء) والعمالة للأجنبي (الجوكرية)، وتخوين الجميع تحت شعارات (الحفاظ على التراث والإرث المقدس)، وقد ساعدهم على ذلك إصرار البعض من المتظاهرين على آرائهم التي تلغي الجميع باستثناء من يؤيدهم.

استخدام التطرف من الطرفين المتصارعين هو الذي ألغى جميع فرص الحل، وطالما أن الطبقة السياسية والأحزاب ومن يؤيدها، شعرت بأنها مهددة بالإلغاء التام، فإن الطابع الدموي سوف يكون سيد الموقف، وأن البطش لن يتوقف بل يزداد يوما بعد آخر، وهذا ما حدث بالفعل.

لذلك لابد من إيجاد سبل تقود جميع الأطراف إلى الحلول التي تضمن حياة كريمة للجميع، لاسيما أن النسبة الغالبة من الشباب المتظاهر يؤمن قلبا وقالبا بثقافته وأفكاره وديانته وعقائده التي ورثها عن الأجداد، وهذا هو واقع الحال الذي لا يستطيع أحد تزويره، لذلك كان يجب التركيز على هذه النقطة، لفضح الجهات التي تتخذ من حماية الإرث والمقدس كمبرر لقمع المتظاهرين والقضاء على حراكهم، وأخيرا ليس أمام الطرفين المتصارعين سوى إطفاء جذوة التطرف، والابتعاد عن نبرة التخوين والإلغاء بشكل تام.

اضف تعليق