q
من أهم ما فاز به العراقيون بعد التغييرات السياسية الجذرية، حرية أداء الطقوس الدينية، ليس لدين أو مذهب بعينه، وإنما جميع الأديان والطوائف القاطنة في العراق صار لها الحق في الإعلان عن معتقداتها وممارسة الطقوس المرافقة لها، واللافت أن الأجهزة الأمنية التي كانت تقمع الأديان والطوائف....

من أهم ما فاز به العراقيون بعد التغييرات السياسية الجذرية، حرية أداء الطقوس الدينية، ليس لدين أو مذهب بعينه، وإنما جميع الأديان والطوائف القاطنة في العراق صار لها الحق في الإعلان عن معتقداتها وممارسة الطقوس المرافقة لها، واللافت أن الأجهزة الأمنية التي كانت تقمع الأديان والطوائف ومعتقداتها بشتى الأوامر السلطوية والوسائل والسبل، صارت اليوم حامية وراعية لكل من يؤدي ما يعتقد، والحرية الدينية أو حرية المعتقد أو حرية التعبد هو مبدأ يدعم حرية الفرد أو مجموعة -في الحياة الخاصة أو العامة- لإظهار دينهم أو مُعتقداتهم أو شعائرهم الدينية سواء بالتعليم أو الممارسة أو الاحتفال، وفقا لما يؤمنون به من دون إكراه.

واليوم ونحن نعيش أيام أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، يمكننا أن نحصر مؤشرات كثيرة تؤكد حرية الدين والمعتقد، من خلال التنظيم والخدمات التي تقدمها الدولة والفعاليات الأهلية كالمواكب والهيئات وحتى الجهد الأهلي حيث يفتح العراقيون بيوتهم للزائرين بترحاب وكرم قلّ نظيره، ما يؤكد أن الدولة تقدمت في هذا مضمار حريات العقائد الدينية خطوات كبيرة.

واليوم نلاحظ آلاف الزوار الشيعة يجتمعون في ضريح الإمام الحسين، في كربلاء المقدسة، في العراق خلال الزيارة الأربعينية التي تقام في اليوم الأربعين بعد ذكرى يوم عاشوراء الذي استشهد فيه الحسين مع أهل بيته وعدد من أصحابه. ومناسبة (الأربعين) تجري سنويا في اليوم العشرين من صفر والذي يوافق مرور 40 يوما على مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في معركة كربلاء، على يد جيش عبيد الله بن زياد.

وتعتبر هذه الزيارة من أهم المناسبات الدينية عند الشيعة، حيث تخرج مواكب العزاء في مثل هذا اليوم ويتوافد مئات الآلاف من الشيعة خصوصا وغيرهم، من كافة أنحاء العالم إلى أرض كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام، ويقوم الملايين من الزوار بالحضور إلى كربلاء مشياً على الأقدام بأطفالهم وشيوخهم من مدن العراق البعيدة حاملين الرايات تعبيراً عن الانتصار لقضية الإمام والمبادئ التي انتفض وذووه وصحبه الأطهار من أجلها.

أهالي العراق كلهم بخدمة الزائرين

ورد في المصادر المتخصصة (أن أهالي المدن والقرى العراقية المحاذية لطرق الزائرين بنصب سرادقات (خيام كبيرة)، أو يفتحون بيوتهم لاستراحة الزوّار وإطعامهم معتبرين ذلك تقرباً إلى الله وتبركاً، وتقول الروايات أن أول من زار الحسين في يوم الأربعين كان الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري إذ صادف وصوله من المدينة المنورة إلى كربلاء في ذلك اليوم، وهو يوم وصول ركب حرم الحسين (نسائه وأيتامه) برفقة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (السجاد) وعمته زينب، فالتقوا هناك ونصبوا مناحة عظيمة أصبح إحياء ذكراها من السنن المستحبة المؤكدة عند أتباع أهل البيت، وتسمى هذه الذكرى محلياً في العراق بزيارة مردّ الرؤوس (أي رجوع أو عودة الرؤوس)، لأن رؤوس الحسين وبعض من قُتل معه من أصحابه وأهل بيته أُعيدت لدفنها مع الأجساد بعد أن أخذها جيش بني أمية إلى يزيد وطافوا بها تباهياً!! وهم ينكلون بأبناء وأحفاد نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله).

ومما يندى له الجبين أن جميع حكومات الحقبة الفردية العسكرية الانقلابية، دأبت على محاصرة هذه الطقوس وسواها، وخصوصا ما يجري في زيارة الأربعين، ولكن بعد نيسان 2003 برزت في العراق عدة ظواهر متناقضة، بعضها يعكس وجها جيدا وبعضها يفرز العكس، وهذا أمر ملحوظ من قبل المتابعين والمهتمين، حيث غالبا ما تتبع التغييرات الكبيرة في بلد ما، ظواهر كثيرة ومردودات مختلفة، وقد جاءت زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام كتعبير عن الوجه والجوهر الجديد لعراق ما بعد التاريخ المذكور، واليوم ونحن نعيش انتعاشا صحيحا وواضحا للحريات الدينية في العراق، اصبحت زيارة الاربعين من اهم المظاهر المعبرة عن جوهر الحريات التي يتمتع بها العراقيون، لذلك تأتي هذه الزيارة كتعبير دقيق ومهم لطبيعة الحريات المتاحة للعراقيين في ظل النظام السياسي الجديد، على الرغم من الإخفاقات في مجالات اخرى لا يسع المجال هنا للخوض فيها.

الأربعين والوجه الحضاري للعراق

وطالما ان زيارة الاربعين باتت شعيرة متاحة للجميع من دون مضايقات او ملاحقة او تكميم، بل اصبحت الاجهزة الامنية والخدمية الحكومية في خدمة الزائرين وحمايتهم، لذا اصبح من الواضح ان هذه الزيارة تشكل اليوم تعبيرا تحرريا واضحا للشعب العراقي، ولكي يتأكد هذا الامر ويصبح حقيقة واقعة لابد للحكومة ولمؤسسات الدولة الدستورية ان ترعى الحريات جميعا، بمعنى لابد أن تهتم الحكومة العراقية ومؤسساتها التابعة بما يلي، كتعبير عن الحريات التي تشكل زيارة الأربعين مظهرا لها:

- ان تكون جميع الحريات مقدسة.. علما ان زيارة الاربعين تمثل ظاهرة ايجابية لأنها تؤكد التحول الديمقراطي في المنهج والمسار السياسي للعراق الجديد، ولذلك ينبغي أن تُسبغ القدسية على جميع الحريات والحقوق دونما استثناء.

- أهمية استثمار الجمع المليوني الغفير للزوار في الاستثمار بشتى الميادين كتوسيع المدينة والاهتمام بالبنى التحتية وتشغيل آلاف الشباب وتطوير النشاطات الثقافية المصاحبة لهذه الشعيرة.

- وفي هذا الاطار ينبغي أن تُصان بشكل تام وحقيقي حريات المؤسسات كافة، لاسيما المؤسسات التي تقدم خدمات لعموم الشعب بصورة مستقلة وبعيدة عن تدخل الحكومة الاتحادية او الحكومات المحلية في المحافظات.

- صيانة حرية الاحزاب السياسية في التأسيس والقيام بالانشطة المتنوعة التي تعبر عن جوهر الحرية الحقيقية للمواطن العراقي، على أن تكون هذه الأنشطة بعيدة عن التوظيف السياسي.

- صيانة حرية المنظمات المختلفة الاهلية والحكومية، والتي تقدم خدمات فكرية او مادية متنوعة، تهدف الى مساعدة الناس على العيش بيسر وكرامة، لاسيما الطبقات الكادحة التي تحتاج الى رفع الوعي الثقافي وسواه فضلا عن توعيتها بخصوص الحريات.

- لابد أن تتخذ الدولة إجراءات حاسمة ودقيقة ورادعة بخصوص معالجة ظواهر الفساد المالي والاداري والمحسوبية، استثمارا لزيارة الأربعين والمبادئ الحسينية، وسوى ذلك من ظواهر تسيء للمظهر والجوهر الذي يظهر به العراق الجديد، ليس شكلا وانما ممارسة حياة وحريات حقيقية تصون الانسان.

- يجب احترام الكفاءات كافة في عموم مجالات العمل الحكومي وسواه، وذلك من خلال استنهاض القيم وبثها في مفاصل المجتمع العراقي كافة، لان الكفاءات تمتلك الدور الحاسم لتطوير البلد واستقراره، لذا من المهم أن تكون الأربعينية عاملا مساعدا لتحريك الكفاءات بسبب الحاجة إليها.

- وكذلك لابد ان تكون هناك حملات منظمة ومدروسة ومدعومة بجهد حكومي كبير وواضح لمكافحة أفكار وسلوكيات التخلف، مثل ظواهر العنف والدكتاتورية والروتين والمحسوبية وغيرها من الظواهر التي تسيء للنظام الديمقراطي الحر، فالأربعين ليست طقسا دينيا محصورا بالأداء الشكلي وإنما تشكل دافعا للإصلاح والتقدم.

أخيرا إن حرية الدين والمعتقد يمكن أن تتجسد بقوة في أداء مراسيم وشعائر هذه الزيارة المليونية الكبيرة، ومن الأهمية بمكان أن تُستَثمر بأدق الاستثمار جميع المجالات الممكنة، لاسيما أنها كشعيرة تعود سنويا إلى استقطاب الملايين من الزوار الكرام من داخل وخارج العراق، لهذا بالإضافة إلى كونها جوهرا ومظهرا معبّرا من مظاهر الحريات الدينية، فهي ينبغي أن تكون عاملا دافعا ملحّا للمسؤولين كي يفكروا بجديّة قاطعة على تغيير وجه العراق بكل تفاصيله تغييرا جذريا إلى الأمام.

اضف تعليق