q

مفردة الارتقاء تعني التحوّل أو التغيّر من حالة أدنى الى حالة أعلى وأرقى، وغالبا ما يتعلق معنى الارتقاء بالجانب المعنوي والفكري، وهذا دليل على أن حالة التحوّل من الأسوأ الى الأفضل ينبغي أن تبدأ بالجانب الفكري عبورا الى المعنوي ثم المادي، لسبب واضح، أن الارتقاء الذي ينحصر بالمادة وحدها ولا يشمل فكر الانسان، سيكون نوعا من الارتقاء (الكاذب) أو الشكلي كما يؤكد ذلك المعنيون، بالاضافة الى كونه يفتقر للثبات والقوة المدعومة بالأفكار والتخطيط وما شابه، إذ يربط المختصون او المفكرون والمثقفون، بصورة حتمية بين ارتقاء العقل أولا ثم الارتقاء بالمادة، وليس العكس، وهذا يعطي دورا قياديا للفكر، فالأخير هو دائما مصدر الارتقاء والتطوّر للجانب المادي.

ثقافة الارتقاء، منهج ديدنه النهوض بالفرد والمجتمع، وهدفه الدائم تنمية الوعي، وجعل الثقافة طريقا مفتوحا نحو التطور، يحدث هذا عندما تتحرك الثقافة والمثقفون في الاتجاه الصحيح، ونعني به استثمار الفكر لصالح الانسان، والتركيز على البناء الثقافي للانسان، وهذا سينعكس بصورة آلية على مجالات التطور المادي، وقد أثبتت كثير من تجارب الشعوب والدول، خطأ الاهتمام بالشكلية المادية، والتمسك بها، مقابل إهمال الثقافة والوعي.

هناك دول وأنظمة سياسية وحكومات تسعى لكي تكون متميزة وناجحة، ولكنها لم تتنبّه الى أن الفكر والثقافة هما اللذان يقودان الجانب المادي (العمراني والصناعي والزراعي) والحياة برمتها الى مرتبة أعلى، وبسبب هذا الخطأ، بذلت تلك الدول جهودا كبيرة في مجالات التنمية المادية، فأقامت المدن الذكية أو المثالية، وأنشأت الطرق والجسور العملاقة، وشيّدت البنايات العالية (ناطحات السحاب) وما شابه، واهتمت بجماليات الشوارع والحدائق، وصنعت البحيرات، وتنافست في بناء الفنادق الفارهة، والابراج العالية، وقلّدت دولا متطورة في هذا المجال، وكل ظنها أن هذه الاشكال والتصاميم العمرانية المادية، هي التي تمثل ارتقاء الشعوب والدول!، ولكنها اكتشفت او (ستكتشف) فيما بعد، بأن هناك بونا شاسعا بين الارتقاء عبر الثقافة، والارتقاء عبر الميدان المادي.

لا بأس في التنمية الاقتصادية والمادية وحتى السياسية، ولكن ينبغي أن تكون الثقافة هي المتصدّرة للجميع، لذلك ينبغي أن تكون هناك حالة من التوازن بين الجانبين المادي والفكري، وهذه هي مهمة ثقافة الارتقاء، وبمعنى أوضح، عندما تبني بصورة أفضل، ‘ليك أن تطورك أفكارك وتعمّق ثقافتك، حتى يكون هناك نوع من التعادل بين المادي والفكري، وعندما نحاول أن نستقصي هذا الجانب في الدول المتقدمة والراسخة، فإننا سوف نكتشف هذا النوع الدقيق من التوازن بين التطور في الفكر والثقافة، والتطور المادي، وكلاهما يسند الآخر ولا يتعارض معه.

على خلاف ما يحدث في المجتمعات المتلكئة، حيث التناقض بين الفكري والمادي غالبا ما يكون مشهودا، كما في بعض الدول والشعوب، التي تتميز بثرائها المادي الهائل من جانب، وخوائها الفكري الكبير من جانب آخر، ويحدث هذا عندما تُهمَل ثقافة الارتقاء، ولا تبذل الحكومات والشعوب على حد سواء، ما يلزم من الجهود لجعل الثقافة متصدرة للأنشطة كافة وقائدة لها، لأن تجارب الشعوب والدول التي تقود العالم في العلم والمعرفة، تؤكد أنها تخلّصت من إرث الجهل والتخلّف بالثقافة والفكر، عندما منحت العقل والتفكير والابتكار مجالا اوسع، بل جعلت من الثقافة، متصدّرة لكل مجالات الحياة، فأصبحت في مقدمة الركب العالمي المتطور، لأنها عرفت كيف تستثمر ثقافة الارتقاء بالصورة الصحيح كي ترتقي.

يُقال.. كما نقرأ في التأريخ- أن السياسيين المتميزين كانوا مثقفين في الغالب، وإن لم يكونوا كذلك، فكان اهتمامهم بالثقافة والمثقفين يميزهم عن غيرهم، فعندما وصل (شارل ديغول الى الحكم) وهو رجل عسكري، ولكنه كما يتحدث عنه المؤرخون، كان ذا عقل متفتح يميل الى الثقافة والفكر، فكانت الخطوة الاولى التي قام بها، هي تعيين (المثقف الاديب الروائي المعروف أندريه جيد) وزيرا للثقافة في حكومته، كونه مؤمن بالثقافة، ومنحها الاهتمام اللازم، ووضع على رأس المؤسسة الثقافية رجلا من أهلها، في حين ان ساستنا (سابقا وحاليا) لا يهتمون بالثقافة، وقد نعت احد سياسيي العراق وزارة الثقافة بأنها (وزارة تافهة!)، وشتان ما بين ساسة يعطون الثقافة مكانتها والمثقف استحقاقه، وبين ساسة (يتفّهون الثقافة) ويهمّشون المثقفين، في هذه الحالة، حتما سوف يتراجع الفكر الى الوراء، ويتقدم الجهل الى الامام.

لهذا ليس أمامنا، فيما لو أردنا العبور الى ضفة الارتقاء، سوى التمسّك بقوة بجوهر الثقافة، وعلينا اعتماد الفكر المتجدد طريقا نحو التطور، ولعلنا نتفق على ان الوصول الى هذا الهدف ليس مستحيلا، فقد وصلته قبلنا دول وشعوب كانت تعاني من تهميش الثقافة والمثقفين اكثر منا بكثير، ومع ذلك، انتفض علماؤها ومفكروها ومثقفوها، ووضعوا الثقافة في دورها ومكانها المناسب، وشرعوا بعملية تغيير واسعة، أثمرت عن نتائج مهمة، جعلت منهم شعوبا ودولا متطورة بمساعدة ثقافة الارتقاء.

اضف تعليق