q

آراء هرمينوطيقية محورية: الثالث

(وبفضل التفاعل الممكن بين تجربتي الخاصة، وتجربة النص، يتوصل إلى شيء ليس لي فقط، ولا لمؤلفي، ولكنه شيء مشترك بيننا).(1)

و(إذن: المعرفة الدينية جهد إنساني لفهم الشريعة، مضبوط ومنهجي وجمعي ومتحرك، ودين كل واحد هو عين فهمه للشريعة، أما الشريعة الخالصة فلا وجود لها إلا لدى الشارع عز وجل)(2).

المناقشة

ناقشنا هذا الكلام مفصلاً في كتابنا الآخر(3)، وأشرنا إلى إجابات عديدة في مطاوي هذا الكتاب(4) ونضيف هنا مناقشة بعض من المفردات الواردة في النص (جهد إنساني) و(جمعي) و(الشريعة الخالصة) و (مضبوط ومنهجي) و(كل واحد).

أ- المعرفة قد لا تكون (جهداً انسانياً)

1: ليست المعرفة الدينية بالضرورة، جهداً انسانياً، بل قد تكون (إلهاماً إلهياً) وحسب معتقد المتدينين فإنه (ليس العلم بكثرة التعلم، بل العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)(5) بل يقول تعالى: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)(6) بل ويقول: (إهدنا الصراط المستقيم)(7) غاية الأمر أن طلب العلم (علة معدة) للإفاضة الربانية.

هذا على تقدير أن كاتب النص هذا، هو ممن يعتقد بذلك وبأن العلم ولو بعضه بإلهام إلهي أو بنور يقذفه الله في القلب، وعلى هذا نقول لا يصح اطلاق كلامه بـ(إن المعرفة الدينية جهد إنساني...).

أما إذا فرض أن الكاتب ممن لا يذعن بالإلهام فنقول له: لكن لا طريق لك إلى نفي ذلك؛ إذ لعل كل ما نقوم به من مطالعة ومذاكرة ودراسة وتدبر هو (علة معدة) فقط، ولو لم يُفِض الله العلم علينا والمعرفة، بعدها، لما علمنا شيئاً! والتعاقب الظاهري لا يفيد أكثر من الإعداد فهو كمن يرى حدوث الموت مثلاً، عند حدوث أسباب الوفاة، فينكر أن الموت هو من الله تعالى بواسطة عزرائيل، وأنه تعالى لو شاء لما مات هذا الشخص ولبقيت فيه الروح وإن قطعت رأسه مثلاً.

وإذا كانت المعرفة إلهاماً إلهياً، كانت خالصة صحيحة مائة بالمائة، وسيفيدنا (البرهان الإني) عندئذٍ: أن غير الخالص والمشوش والمشوه، ليس معرفة إلهية بل هي معرفة بشرية، قال تعالى: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)(8) و(بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً)(9) وكما قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(10) و: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه)(11) و: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها).(12)

2: إن كثيراً من المعارف الدينية، لم تحصل للأفراد عن طريق (الجهد الإنساني لفهم الشريعة)، حتى مع قطع النظر عن (الإلهام)؛ ذلك أن الرواة الذين عاصروا الرسول والأئمة والذين تلقوا منهم الشريعة مباشرة، لم يمارسوا (جهداً إنسانياً لفهم الشريعة) بالمعنى الذي قصده(13) وما سمعوه منهم يشكل الشريعة الخالصة تماماً، لأنه الصادر عن منبع الوحي دون ملّونات وملوثات، وهؤلاء الرواة نقلوا لنا نصوص العبارات، نعم يتدخل الجهد الإنساني للفهم، فيما إذا تعارضت الروايات أو كانت مجملة أو شبه ذلك فقط، دون ما إذا كانت (نصوصاً) أو (ظواهر) غير مخصصة أو مقيدة أو مبتلاه بحاكم أو وارد أو معارض أو مزاحم، وما أكثر ذلك (أي النصوص السليمة) ولذا تجد أن الأعم الإغلب من فتاوى العلماء متطابقة، وإن الاختلاف هو في القليل من مجموع المسائل(14)، لكن التوهم عن حجمها الكبير ناشئ ظاهراً من المبالغة في التركيز عليها، أو من الحاجة للتركيز نظراً لأن ما عداها وِفاقي، أو نظراً لأنها نظير (الأقلية الأعلى صوتاً في مقابل الأكثرية الصامتة)!

3: لا شك أنه توجد أقسام من المعرفة الدينية، هي من (القبليات) ـ بتعبير كانط ـ أو (الفطريات) بتعبير المناطقة والكلاميين، كما توجد أقسام كثيرة منها هي من (المستقلات العقلية) بتعبير الأصوليين والمناطقة والكلاميين، وهي كثيرة جداً(15) وهذه كلها ليست نتاج جهد إنساني ابداً، بل هي منحة من الله تعالى، فكما أنه منحنا (الجسم والروح والنفس والعقل، والأجهزة كالعين والسمع والقلب وغيرها) كذلك منحنا سلسلة من المعارف غرسها في أعماق الفطرة أو في داخل العقل الإنساني، وعلى هذا فإن عليه ـ رعاية للدقة والأمانة العلمية ـ أن يقول (إن بعض المعارف الدينية هي جهد إنساني لفهم الشريعة..)

ب- تحديد المراد بكلمة (جمعي)

إن التعبير بـ(جمعي) تعبير غامض، فهل المراد منه أن المعرفة الدينية مما لا يصل إليها الفرد أبداً، بل يصل إليها فقط مجموع المتدينين كلهم؟ أو جماعة من المتدينين؟

فإن أراد (مجموع المتدينين كلهم) فنسأل: هل يقصد مجموع المتدينين بكل الأديان(16)؟ أو يقصد فقط المتدينين بالدين الإسلامي؟ أو يقصد مجموع المتدينين بمذهب أهل البيت عليهم السلام فقط؟

فإن قصد الأول فلعلنا لا نجد مسألة اتفق فيها الكل إلا أصل وجود الله سبحانه فقط، إذ اختلفت هذه الجماعات في وحدانيته وعدله... إلى آخر ما لا يخفى على الخبير، فلا يصح القول أن المعرفة الدينية هي ما كان حاصل جهد الجمع المتفق عليه فقط، لأن ذلك أخص من المعرفة الدينية، بل هذا القول يناقض مجمل توجهه في كتابه ومجمل أقواله الأخرى.

ولو قصد المتدينين بالدين الإسلامي، فإن المعارف المتفق عليها تظل أيضاً نادرة جداً، ولو قصد الشيعة، فإن المعارف المتفق عليها قليلة.

وعلى التقادير الثلاثة نسأله: هل إنه سيحصر (المعرفة) فقط في المتفق عليه؟ وهذا يعني أن غير المتفق عليه ليس بمعرفة، وإن طابق الواقع؟ وهل يعني هذا (تجميد العقل) في خارج دائرة الاتفاق؟ وهل يلتزم بذلك؟ أم يعني أنه حيث لا اتفاق، فكل الآراء صائبة.(17)

وإن أراد (جماعة من المتدينين) فنتساءل مَن هذه هذه الجماعة؟ وما هو الضابط في تحديدها؟ إذ من المعلوم أن جماعات المتدينين، مختلفة أشد الاختلاف في فهمها للدين؟ ثم من قال بأن المعرفة الدينية لا يصل إليها الفرد أبداً؟ إن هذه مصادرة، وهو أول الكلام.

ثم إن تعبيره بـ(جمعي) على هذين المعنيين لا ينسجم مع تعبيره بـ(ودين كل واحد هو عين فهمه للشريعة) إذن صار الفهم للشريعة فردياً لا جمعياً!

نعم يحتمل أن يكون المراد بـ(جمعي): إن الأفضل أن يكون التعرف على الدين جمعيّاً، بان يتعاون مجموعة من الباحثين والمفسرين والفقهاء للفهم الأشمل والأوسع للدين، وهذا جيد لكنه لا يساعد عليه سياق كلامه، كما لا ينفع (النسبيين) شيئاً، إضافة إلى أن كثيراً من المسائل لا داعي أو لا مجال فيها للعمل الجمعي، لوضوحها وسهولة فهمها وعدم تشعب أطرافها، هذا مع قطع النظر عن المناقشة في إطلاق أقربية إيصال (الفهم الجمعي) للواقع؛ إذ كثيراً ما يكون (رأي) الفرد ـ الأعلم أو غيره ـ هو المطابق للواقع، ويكون (الجمع) أو (الأكثرية) على خطأ، فتأمل.

كما يحتمل أن يكون المراد به: إن (الفهم الجمعي) هو (الحجة) دون الفردي، لكن هذا ينقضه قوله (دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة) كما ينقضه وضوح حجية الفهم الفردي لدى العقلاء إذا كان قطعياً أو كان مبتنياً على القواعد السليمة.(18)

ويحتمل أن يراد (بأن كل الأفهام وإن كانت متعاكسة فهي معرفة دينية، أي يطلق عليها معرفة دينية) ولعل مجمل كلماته ظاهرة في هذا المعنى، أو هي (معرفة دينية، لأنها جهد جمعي(19)، فكلها صائبة) وقد أجبنا عنه بالتفصيل في مطاوي الكتاب.

ج- لدى مَن توجد (الشريعة الخالصة)؟

إن القول بـ(أما الشريعة الخالصة فلا وجود لها إلا لدى الشارع عز وجل). يعاني من الاعتراضات التالية:

أولاً: إن نفس الإذعان بوجود (شريعة خالصة) يعني أن كل فهم طابقها فهو صحيح، وكل فهم أخطأها فهو باطل، وهو بالتالي يناقض قوله (دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة)، إذ كان الأجدر أن يقول إذا لم يطابق الفهمُ الدينَ الخالص فإنه ليس ذلك الدين بل هو مجرد توهم الدين، وهل يصنع الوهم الحقيقة؟ وهل يغني السراب من الحق شيئاً (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)(20)، (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(21)، (طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ )(22).

ثانياً: نقول: هل مراده من (الشارع) الله تعالى فقط؟ أم النبي والأئمة أيضاً؟ إن المسلم يذعن بأن (الشريعة الخالصة) يعرفها الرسول صلى الله عليه وآله قطعاً ويعد ذلك من البديهيات لديه، قال تعالى (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى & إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(23)، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ).(24)

والمسلم الشيعي يذعن بأن (الشريعة الخالصة) يعرفها الأئمة الأطهار بعد الرسول أيضاً ويعدّ ذلك من بديهياتهم، ولقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(25)، (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)(26) وقال الرسول صلى الله عليه وآله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(27).

والمفروض أن الكاتب مسلم شيعي، فما هو مراده؟ ثم إن العقل يحكم بأن (الشريعة الخالصة) لابد أن تكون موجودة لدى رسل الله وأوصيائهم، وإلا فما معنى كونه رسولاً لله سبحانه أو وصياً له بأمر السماء؟

ثالثاً: بل نضيف: من القبيح عقلاً، أن يحجب الله (الشريعة الخالصة) عن الجميع، وإن يمنع الناس عن الوصول إليها أو لا يوفّر لهم سبل الوصول إليها، وما فائدة (الشريعة الخالصة) إذا احتكرها الله لنفسه، والفرض أن الشريعة تعني الطريقة فكيف يرسم الله لعباده طريقاً وطريقة ثم لا يوضحها لهم ولا حتى لرسوله، بل لا يفسح لهم المجال إلا لفهم الشريعة المشوشة أو المشوهة أو المختلطة؟ أليس ذلك قبيحاً وإغراءً بالجهل ونقضاً للغرض؟

ثم نسأل لماذا اختص الله الشريعة الخالصة بنفسه؟ البخل؟ أم لجهل؟ أم لعجز؟(28) وكلها محال في حقه تعالى.

رابعاً: ونسأل: ما الهدف المتوخى من هذا الكلام؟ فهل يراد: إن كل الأفهام صحيحة؟ أم كلها خاطئة؟ أم أحدها صحيح وما عداها خاطئ؟ أم كل منها يحمل وجهاً من الصحة وجانباً من الخطأ؟ أم أننا لا نعلم الصحيح من الخطأ؟

قد أجبنا عن هذه الشقوق الخمسة عند التطرق لنص آخر(29) فراجع.

د- ما هو مقياس (المنهجي) و(المضبوط)؟

نقول: من الذي يحدد هذا المنهج؟ وما هو مقياس (المضبوط) ذلك أن من الواضح أن مناهج المعرفة مختلفة(30) وأن مباني تلك المناهج مختلفة أيضاً.(31)

بل نقول: إذا كانت (الشريعة الخالصة) لا توجد إلا لدى الشارع، فالمناهج المعرفية والضبط والضوابط لا توجد أيضاً إلا لديه، وكما علينا أن نأخذ الشريعة منه، علينا أن نأخذ منهج الوصول إليها، منه، وأن نستعلم منه مقياس المضبوطية (وهذا ما قام به علماء الأصول حيث أخذوا القواعد من الآيات والروايات أو أحياناً من العقل الفطري أو المستقل) فكيف نؤمن بأن (الشريعة الخالصة) لا توجد إلا لديه، ثم نحددّ نحن مناهج للوصول إليها؟

والحق هو أن الشارع الأقدس كما أنه هو المرجع في الشريعة، هو المرجع في تحديد مناهج الوصول إلى الشريعة قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(32)، و: (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..)(33)، و: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)(34)، و: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(35)، و: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ)(36)، و: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (37) الخ... والبحث عن هذه النقطة بالذات، يستدعي كتاباً خاصاً، وقد تصدى للبحث عن مختلف جوانب ذلك، علماء التفسير والتأويل وعلماء الأصول والفقه وعلماء الكلام والبلاغة، فراجع.

هـ - (كل واحد) تحت المجهر

إن مقولة: (دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة) تواجه الإشكالات التالية:

أولاً: نسأل هل يقصد بـ(كل واحد) المتخصص وغير المتخصص؟

من الواضح أن غير المتخصص لا يحق له عقلاً الاستنباط والاجتهاد فيما ليس من حقل اختصاصه، وإذا كان ذلك بديهياً في علم الطب والهندسة، وبديهياً في العلوم الإنسانية كالاقتصاد والتاريخ والنفس، فهل لأحد أن ينكره في علم الشريعة؟ مع أن علم الشريعة يعد من أكثر العلوم عمقاً وتشعباً كما أنه من أكثر العلوم تداخلاً مع سائر العلوم، وتكفي إلقاء نظرة على علم الكلام ثم علم الأصول ثم علم القواعد الفقهية ثم على الفقه، وكذا علوم التفسير والحديث والدراية والرجال، وكذا ما يرتبط من علوم اللغة والبلاغة بالشريعة؛ لمعرفة مدى دقة وتشعب وعمق علوم الشريعة.

ثانياً: ونسأل هل إن مقصوده من (كل واحد) يشمل: القاصر والمقصر كما يشمل الباحث الجاد الطالب للحقيقة إذا وصل إليها؟

إن من الواضح: إن (المقصر) لا يعد معذوراً لدى العقلاء، في أي حقل معرفي أو غير معرفي، نظري أو عملي، فكري أو سلوكي؛ قد قصر فيه.

وأما (القاصر) فهو وإن كان معذوراً، إلا أن معذوريته لا تعني صحة رأيه أو سلامة موقفه أو كون رأيه هو الحقيقة.

ولعل ذلك يعد من أوضح الواضحات؛ إذ ألا ترى أن الطبيب لو بذل جهده في اكتشاف المرض ووصف العلاج، لكنه كان مخطئاً فمات المريض، فإنه وإن كان معذوراً(38)، لكونه قاصراً لا مقصراً، إلا أن كونه معذوراً أمر، وكونه مصيباً أمر آخر.

وكذلك الحال في (المعالج النفسي) و(الخبير الاقتصادي) و(المستشار الاجتماعي أو السياسي) وإذا كان ذلك كذلك في كل العلوم، فكيف لا يكون كذلك في علوم الشريعة؟

وبعبارة أخرى: إن (الباحث) عن الدين ومعارفه وأحكامه، لو قصر في البحث (كما لو تسرع بإصدار الحكم، ولم يراجع المصادر المطلوبة، أو لم يتدبر ويتفكر ويحلل ويدرس إلا بمقدار لا يفي إلا بتكوين صورة ناقصة، أو مشوشة) فإنه ليس معذوراً عقلاً وشرعاً ولدى كافة العقلاء، وذلك في أي دين من الأديان فرضنا مجال بحثه.

وأما لو لم يقصر، لكنه كان قاصراً (كما إذا لم يكن بمقدوره تحصيل كافة المصادر ولو لضياع بعضها مثلاً، أو لم تكن له الفرصة للتحقيق الوافي الكافي، أو كانت المسألة معقدة جداً ولم يكن فترة التحقيق بالصفاء الذهني اللازم لفهم المسألة وأبعادها، أو لغير ذلك) فإنه وإن كان معذوراً فرضاً(39) إلا أن معذوريته لا تعني أنه قد أصاب الحقيقة و(إن فهمه هذا للشريعة هو عين الدين أو أن دينه هو عين فهمه للشريعة.)

ثالثاً: إن عالم الأعيان الخارجية، يغاير عالم المفاهيم الذهنية؛ إذ ذلك هو الثبوت والواقع، وهذا هو الإثبات والذهن والإنعكاس.(40)

وكما أن من الخطأ الفظيع أن يخلط الإنسان أحد العالمين بالآخر في الطب والهندسة، والفلك، والاقتصاد، والسياسة والاجتماع وغيرها، كذلك من الغلط الفاحش خلط أحدهما بالآخر في (الشريعة).

إن (الشريعة الواقعية) أمر، و(طريقة فهمها) أمر آخر، ولو كان (الفهم) للشريعة، غير مطابق لها في واقعها، كان خطأ، ولا مجاملة.

ألا ترى إن (العلاج الواقعي) للمرض الكذائي، لا يتغير بتغير الأفهام عنه، ولا يصح القول: إن علاج كل واحد من مرض السرطان مثلاً هو عين فهمه للعلاج! أي كل ما فهمه فهو العلاج سواءً صح فهمه أو أخطأ؟

وهل يصح القول إن فهمنا لكيفية حركة الكواكب والأفلاك، هو عين تلك الحركات، سواء طابقتها أم لا؟ أو أن فهم كل احد للمعادلات الرياضية، هو عين تلك المعادلات!

نعم، لو فرض أن القائل بذلك يقول: إن (الشريعة) ليست قوانين ودساتير ومناهج أرسلها الله تعالى لنا، بل (الشريعة) هي ما نخلقه نحن في أمخاخنا، عندئذٍ صح القول (دين كل شخص هو عين فهمه للشريعة) بل وجب القول (هو عين خلقه للشريعة).(41)

لكن من الواضح أن الكاتب لا يلتزم بذلك؛ ولذلك عبر بـ(فهمه للشريعة) وليس (خلقه أو إيجاده للشريعة) كما أنه صرح بأن الشريعة الخالصة لا وجود لها إلا عند الله، إذن هو يؤمن بوجود واقع حقيقي للشريعة، فنقول: إذن الأفهام إن طابقته فصحيحة، وإلا فباطلة ومخطئة!

بل إن نفس التعبير بـ(الفهم): (عين فهمه للشريعة) يستبطن إذعانه بوجود واقع قد ينعكس في ذهن الإنسان فيكون فهماً، أو لا فيكون جهلاً.

رابعاً: إن أراد أن يستنتج من (دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة) أن الكل ـ علماء وجهالاً ـ سواسية في القدرة الفعلية على الاستنباط المنهجي المضبوط من الشريعة، فهو بديهي البطلان، كبداهة بطلان أن الكل ـ قانونيين ومحامين وجهالاً وقرويين ـ سواسية في القدرة الفعلية على فهم نصوص القوانين، خاصة في القوانين التخصصية والمعقدة والمتشابكة!

وعلى ذلك يظهر أنه إن أراد استنتاج: أن للعامي أن يستنبط من نصوص الشريعة مباشرة، وأنه لا حاجة به إلى الرجوع للعلماء والمجتهدين والمتخصصين، فهو واضح البطلان كوضوح بطلان القول بأن العامي له الرجوع لكتب الطب، حتى في المسائل المعقدة، دون الرجوع للأطباء، بل له أن يكون طبيباً للآخرين أيضاً!(42)

ونسأل: هل هذا الفهم غير التخصصي: منهجي ومضبوط؟

كما ظهر بذلك عدم صحة الاستنتاج التالي: إذن رأي المجتهد والمتخصص في الشريعة ليس حجة في حق العامي، وللعامي أن يقرع المجتهد والمتخصص بأن له رأياً آخر!

* من الفصل الرابع لـ كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة)
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

..............................
(1) من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص42. (نقلاً عن الهِرمينوطيقا في الواقع الإسلامي، ص56).
(2) القبض والبسط في الشريعة: ترجمة د. دلال.
(3) كتاب "نسبية النصوص والمعرفة، الممكن والممتنع".
(4) كما ناقشنا في هذا المبحث، وغيره، بالتفصيل مفردة (متحرك) كما ناقشنا بالتفصيل في كتابنا الآخر مقولة (دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة) فراجع.
(5) منية المريد: ص167 الباب الأول وفيه قال الصادق سلام الله عليه: (ليس العلم بكثرة التعلم، وإنما هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يريد الله أن يهديه)..
(6) سورة مريم: 76.
(7) سورة الفاتحة: 6.
(8) سورة النور: 40.
(9) سورة النساء: 155.
(10) سورة العنكبوت: 69.
(11) سورة المجادلة: 22.
(12) سورة الفتح: 26.
(13) إذ الظاهر أنه يريد (الفهم الاجتهادي) لا الفهم المعبّد أو الواضح السهل غير المعقد الذي يحصل بالاستماع المجرد لعبارات صريحة.
(14) ولعل الاختلاف تقل نسبته عن الخمسة بالمائة في شتى أبواب الفقه.
(15) وقد تحدثنا عنها بالتفصيل في: (الأوامر المولوية والإرشادية).
(16) أي الأعم من المسلم والمسيحي والبوذي والهندوسي وغيرهم، إذا اتفقوا على أمر.
(17) وقد أجبنا عن هذا الكلام بالتفصيل في مطاوي هذا الكتاب.
(18) فصلنا الحديث عن معاني (الحجية) وهل القطع حجة مطلقاً؟ وغير ذلك في كتاب: (الحجة معانيها ومصاديقها) وكتاب: (مباحث الأصول ـ القطع).
(19) وإن كانت مخرجاته مختلفة.
(20) سورة النور: 39 .
(21) سورة يونس: 36.
(22) سورة النحل: 108.
(23) سورة النجم: 3ـ 4.
(24) سورة النحل: 44.
(25) سورة الأنبياء: 7. سورة النحل : 43 .
(26) سورة آل عمران: 7.
(27) بحار الأنوار: ج40 ص200 باب 94 أنه عليه السلام مدينة العلم والحكمة.
(28) أي هل كان الله تعالى عاجزاً ـ والعياذ بالله ـ عن إيصال وإيضاح الشريعة الخالصة لعباده وعن وضع آليات ومناهج تضمن الوصول إلى حقائق النصوص، أو خلق مرجعيات تصحح الأخطاء التي قد تحدث في (فهم النصوص) أم كان قادراً لكنه بخيل أو جاهل بكيفية ذلك؟ تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً، وقد فصلنا في موضع آخر الحديث عن مناهج الوصول لحقيقة النصوص وعن المرجعيات.
(29) وهو (أن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه..) لأبي زيد، في الجواب الحادي عشر عن كلامه.
(30) كالمنهج العقلي والمنهج النقلي، وكالمنهج الفرضي والمنهج الاستقرائي والمنهج القياسي وغير ذلك.
(31) كمبنى حجية (العقل) مطلقاً أو في الجملة أو عدم حجيته، وكمبنى الاعتماد على (الحس) مطلقاً أو عدمه وهكذا.
(32) سورة النحل : 44 .
(33) سورة آل عمران : 7 .
(34) سورة النساء : 65 .
(35)سورة النساء : 83 .
(36) سورة الحجرات : 6 .
(37) سورة يونس : 36 .
(38) وهذا إذا لم يشترط عليه المريض أو ذووه، نجاح علاجه، وإلا فحسب الشرط العقلائي، فقد لا يستحق الأجرة، وقد يتحمل غرامة على خطأه، لذا نجد الأطباء في العمليات الجراحية يخلون ذمتهم مسبقاً، بالشرط ولو لم يفعلوا لألزمهم المريض أو ذووه بخسارة وليس الكلام الآن في حكم الشارع بل في بناء العقلاء.
(39) لا يخفى أنه في بعض الفروض المذكورة بين قوسين في المتن، لا يعد قاصراً ولا معذوراً.
(40) وذلك بديهي؛ ولذلك نجد النار الخارجية تحرق، دون النار الذهنية.
(41) وهذا هو أسوأ أنواع (التصويب)، ولعله لم يذهب حتى من المصوبة، إليه أحد!
(42) ولو فرض أنه فهم كتب الطب حقاً، لما كان عامياً عندئذٍ، بل أصبح طبيباً (هذا مع قطع النظر عن ضرورة التجربة والدراسة أو حتى الشهادة أيضاً ليسمح له بممارسة الطب).

اضف تعليق