q
لم يبق سوى أيام ونغادر المائدة الرحمانية، وينتهي وقت الضيافة الإلهية التي بشرنا بها رسول الله في خطبته، ومن الطبيعي أن يندمج الانسان في أعماله العبادية مع ربه؛ في ورعه وتقواه نهاراً، وفي خشوعه وتضرعه ليلاً، راجياً الرحمة والمغفرة وعتق الرقاب من النار...

دائماً يُقال أن الصعود الى قمم الجبال عملٌ شاق وصعب، بيد أن البقاء في القمة أصعب، فربما زلّة قدم بسيطة تهدر ساعات وايام من الجهود المضنية.

وفي الأيام الأخيرة لشهر رمضان المبارك، وبعد التوفيق لإحياء ليلة القدر في الليالي الثلاثة المحددة لها، وبعد الالتزام بالأحكام نهاراً، وإحياء الليل بالدعاء والتضرع مساءً، تتخللها فعاليات وأعمال بر وإحسان وصلة رحم، مما أوصانا به رسول الله، صلى الله عليه وآله، في خطبته الشهيرة لاستقبال هذا الشهر الكريم؛ يرجو كل واحد منّا أن يصل الى قمة معينة من السمو النفسي، محققاً درجة من القرب الى الله –تعالى-.

بيد أن شهر رمضان ثلاثون يوماً –على الاغلب- ثم ينتهي ويعود الناس الى حياتهم الطبيعية بارتفاع الممنوعات عنهم في هذا الشهر الكريم، بل من الملاحظ غياب المظاهر الرمضانية بأجمعها، من محافل القرآن الكريم، وموائد الطعام الجماعية، وبعض البرامج في المساجد والحسينيات، والندوات واللقاءات بين الاصدقاء فيما يسمى بالأماسي الرمضانية، وبشكل عام؛ يفقد الانسان الجو الروحاني الزخم المعنوي بعد مغادرته المائدة الرمضانية، وهذا بحد ذاته مدعاة للأسف.

هنا يقفز السؤال:

بأي قوة يتحزّم الانسان لكي يضمن البقاء في القمة التي سعى لها سعيها وبذل الجهود البدنية والنفسية؟

ثمة اجراءات عديدة يمكن اتخاذها يمكن الاشارة الى اثنين منها:

إزالة البُقع العنيدة!

في خطبة النبي الأكرم الشهيرة لشهر رمضان حوافز رائعة لإعادة فرمة النفس –إن صحّ التعبير- وتطهيرها من الذنوب والمعاصي، من خلال الاستغفار والإنابة الى الله –تعالى- فإن "أَبوَابَ الجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسأَلُوا رَبَّكُم أَن لا يُغَلِّقَهَا عَنكُم، وَأَبوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسأَلُوا رَبَّكُم أَن لا يُفَتِّحَهَا عَلَيكُم، وَالشَّيَاطِينَ مَغلُولَةٌ، فَاسأَلُوا رَبَّكُم أَن لا يُسَلِّطَهَا عَلَيكُم"، وأن شربة من الماء، أو شقة تمرة كافية لإفطار صائم واكتساب الأجر العظيم، وفرص ذهبية كثيرة للتوبة، مع وعد إلهي بالقبول ممن يطيلون السجود ويكثرون من الاستغفار، ولاشك أن رحمة الله واسعة، وقد وسعت كل شيء. إنما المهم في مسار حياة الانسان التفكير ما تتركه الذنوب والمعاصي من آثار في النفس، وربما في الواقع الخارجي.

يُروى أن شخصاً راجع حكيماً يسأله عن علاج لحالة غضب تعتريه بين فترة وأخرى، فأوصاه الحكيم بأن يأخذ مسماراً ويدقّه في الجدار بعد كل حالة غضب تعتريه! ذهب ذلك الشخص وطبق ما أوصاه الحكيم، فامتلأ الجدار لديه بالمسامير حتى سئم فعله، فبدأ يكتم غضبه تدريجياً حتى تمكّن في النهاية من التغلّب على حالة الغضب. راجع الحكيم وبشّره بالنتيجة، فقال له الحكيم: هذه المرة كلما وجدت نفسك تتغلب على الغضب ولا تظهره اذهب واقلع مسماراً من الجدار، وهكذا فعل حتى قلع جميع المسامير من الجدار، فقال له الحكيم حينئذ: ارجع الى الجدار، فما تجد عليه؟ إنها آثار المسامير باقية فيه لم تزول رغم زوال المسامير.

وهذه قاعدة معروفة في الحياة الاجتماعية، لاسيما ما يتعلق باللسان، فأي كلمة يتفوه بها أحدنا تترك أثرها الطيب والسيئ في نفس –او نفوس- الطرف المقابل، فحتى وإن اراد الاعتذار من الكلمة السيئة وحصل على الاعتذار فان اثر الكلمة لن تُمحى من القلب مهما طال الزمن، فاذا كان هذا بين افراد البشر، فكيف الحال بين الانسان العبد الفاني والزائل أمام رب السموات والأرض والباقي بعد فناء الأشياء؟

وهذا ليس من مدعاة لليأس مطلقاً، فبالامكان ترميم تلك الآثار السيئة بالاعمال الصالحة، والحرص على ممارسة أعمال وافعال تناقض تماماً ما كان في السابق، وفي خطوة متقدمة اخرى؛ نشر هذه الثقافة الى الآخرين وحثّهم على أعمال البر والخير، والامتناع عما يسخط الله، بل والحثّ على الشكر والصبر والرضى بالتقدير الإلهي، وسائر بنود العلاقة الحسنة بين العبد و ربه.

من هنا نجد العلماء والعرفاء يؤكدون على الحذر من مغبة الخطيئة والسيئة قبل التفكير بإزالة آثارهما، فالأول أسهل من الثاني بكثير، كما يقولون، علماً أن الخطيئة؛ ما يصدر من الانسان هفوةً وعن غير عمد، بينما السيئة عملٌ مقصود مع سبق الإصرار.

وثمة سؤال يطرح نفسه بنفسه: كيف نتحقق من غفران الذنوب، ونحن نقضي الأيام الاخيرة من شهر رمضان المبارك؟

أسهل طريقة؛ اختبار الميول النفسية، فإن كانت تحنّ الى التكبّر والتعالي على الآخرين، وانتهاك حقوقهم، واستصغار الذنوب والمعاصي أمام الله –تعالى- او الاستخفاف بالفرائض والاحكام الإلهية، حينها يتضح لنا أننا لم نأخذ شيئاً من المائدة الرمضانية الكريمة، وأننا لم نكن من المرحومين، بل من المحرومين –لا سامح الله-.

العلاقة مع الله ومع عباد الله

لم يبق سوى أيام ونغادر المائدة الرحمانية، وينتهي وقت الضيافة الإلهية التي بشرنا بها رسول الله في خطبته، ومن الطبيعي أن يندمج الانسان في أعماله العبادية مع ربه؛ في ورعه وتقواه نهاراً، وفي خشوعه وتضرعه ليلاً، راجياً الرحمة والمغفرة وعتق الرقاب من النار، وبما أن العمل جماعي، فالجميع يُمسكون في لحظة واحدة ساعة السحر، ويفطرون في لحظة واحدة ايضاً، وملايين الأكف ترفع يومياً الى الله –تعالى- فإن حسن العلاقة مع الله –تعالى- ينبغي أن تنعكس على العلاقات الاجتماعية في سائر ايام السنة، وإلا ما علاقة إفطار الصائمين بتقوى الله؟ ففي الخطبة الرمضانية قرن رسول الله الافطار بتقوى الله بأن "اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشَربَةٍ مِن مَاء"، فالتقوى والورع عن محارم الله والاستغفار كلها تمر من خلال قنوات العلاقات الاجتماعية؛ بدءاً من الأسرة الصغيرة، وحتى محيط الدراسة والعمل، وحتى بين افراد الشعب، وعلاقة موظفي الدولة والمسؤولين الكبار بعامة الناس.

ويبدو أننا أمام ميدان تدريب –ولو في ايامنا الاخيرة- على تقبّل الثوابت والضوابط من خلال التمرين على اجتناب المحرمات، والحذر من الزلات والهفوات لنكون ممن استجاب لرسول الله بأن "اتقوى النار"، وأن نوفق لما سأل عنه أمير المؤمنين، رسول الله، بأفضل اعمال هذا الشهر، فقال له: "الورع عن محارم الله". فكما أن شهر رمضان يقطع أي مبرر لعمل يناقض التقوى والورع، فان هذا ينسحب ايضاً على سائر ايام السنة، فلا مبرر للكذب، وللغيبة، وللبهتان وإصدار الاحكام الجائرة على هذا وذاك بدعوى البحث عن مواطن الخلل، وتحقيق النجاح، والحصول على مزيد من المكاسب، والتفوق على الآخرين وغيرها من المبررات التي تدفع بصاحبها من قمة بلغها بالصبر والعبادة في شهر رمضان الى هوة سحيقة على حين غفلة.

اضف تعليق