q
سياسة - الحكم الرشيد

لماذا نطيع القائد؟!

قبل أي حركة للإصلاح او التغيير الشامل، يجدر بنا التعرّف على نوع الطاعة للقيادة تحمل الجماهير الى تحقيق المطالب والطموحات بكل شفافية مع أقل الخسائر، وبما يجعل هذه القيادة وسيلة لا هدف يبقى يحوم حوله الناس، وهذا ممكن جداً عندما يعرف الناس أن القائد هو انسان مثلهم...

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}

سورة الإنسان- الآية:24

الحكم الفردي في بلادنا الاسلامية طيلة قرن من الزمن، وما انتج من كبت للحريات وتكميم للأفواه، ومصادرة الحقوق، ثم الاعتقالات والاعدامات والتشريد، وحتى الإبادة الجماعية كما حصل في تجربة صدام في العراق، شوّه مفهوم القيادة في الأذهان، وأبعد الجانب الايجابي فيه، الى درجة أن اقترن السم القائد بالمصالح الخاصة، والاستعلاء، والتلاعب بالحقوق والمصائر، وأخطر ما طاله التشويه؛ مبدأ طاعة القيادة، والعلاقة التكاملية بين القائد والجماهير في الظروف الطبيعية، فأصبح الحديث عن هذه الطاعة الواجب توفرها في أي حركة تنموية وتطويرية في العالم، حديثاً عن "الطاعة العمياء" التي تسوق الناس نحو الموت في الزنزانات أو الحروب العبثية.

وحتى يتخلص الجيل الجديد من هذا الهاجس الذهني، راح يتحدث عن "القيادة الذاتية" في حراكه المطلبي والجماهيري في ظل الاجواء الديمقراطية الجديدة التي اعقبت حقبة الديكتاتورية في العالم العربي، فقد ظهر كل شيء خلال ما يسمى بالربيع العربي، من؛ حماس، وإرادة، وتصميم، وتضحيات، إلا أمراً واحداً؛ القيادة التي تقود الجموع في الشوارع لمواجهة فلول الديكتاتورية، فلم يكن هنالك شيء اسمه: قائد للثورة المصرية –مثلاً- أو للثورة التونسية، إنما كانت صرخات، وهرولات في الشوارع تعبر عن قيادة ذاتية للشباب، فهم يقودون انفسهم بانفسهم في مواعيد التجمع، ثم الانطلاق، ومواجهة السلطة وغيرها، وكانت ثمة خلايا تنظيمية بين المتظاهرين تقوم بدور التنسيق بين المجاميع المتظاهرة، فهي التي تقمّصت دور القائد في الحراك المدني الذي شهدته مصر وتونس، بينما أخذت هذا الدور المجاميع المسلحة في سوريا وليبيا.

ولسنا في وارد الحديث عن المآلات والنتائج فهي ماثلة للعيان بقدر ما يهمنا الترويج للمفهوم الخاطئ للحرية بعد تشويه مفهوم القيادة، او لشخص القائد، ففي وقت كان القائد في التجارب الثورية والإصلاحية في العالمين العربي والاسلامي أحد أهم شروط النجاح والانتصار، فضلاً عن تحقيق المطالب والطموحات، ومنها نيل الحرية والكرامة، بات الايحاءات توجه الى كونه تهديداً لهذه الحرية، ولذا على الشباب المتظاهر أن يتجنب هذه القيادة ليضمن حريته في التفكير والحركة، قبل ان يطالب بها من الديكتاتور والسلطة الجائرة!

الطاعة لمن؟

قبل أي حركة للإصلاح او التغيير الشامل، يجدر بنا التعرّف على نوع الطاعة للقيادة تحمل الجماهير الى تحقيق المطالب والطموحات بكل شفافية مع أقل الخسائر، وبما يجعل هذه القيادة وسيلة لا هدف يبقى يحوم حوله الناس، وهذا ممكن جداً عندما يعرف الناس أن القائد هو انسان مثلهم، وأحد افراد المجتمع، إنما حمل مؤهلات وصفات مكنته من تولّي مهمة القيادة بمباركة وتأييد عامة الشعب الثائر.

هذه التجربة حصلت مع انبياء الله –تعالى- الذين حملوا رسالات السماء الى البشرية، وبشروا بالحياة الطيبة، والتوازن بين الماديات والمعنويات من خلال توحيد العبادة لله الواحد الأحد، وأن العبودية لخالق السموات والأرض، والمنعم والمهيمن، هي الضمانة الحقيقية للعيش الحُر والسعيد في الحياة، ثم تلقي الثواب الجزيل بعد الممات في الآخرة لقاء هذه العبادة والطاعة الخالصة لله –تعالى-.

ولذا كتب العلماء عن "الطاعة الامتدادية" عمودياً، وليس افقياً، بمعنى أن تكون الطاعة للقائد امتداداً لطاعة الله –تعالى- ، وأول تجربة ناجحة بشكل باهر كانت في علاقة الأمة بنبي الاسلام، خاتم الانبياء، محمد، صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين من بعده، فقد نصّت رسالة السماء على أن يكونوا هؤلاء القادة (الانبياء) امتداداً لطاعة الله، بشرطها وشروطها، وهؤلاء لم يتحولوا الى قادة في منزلة رفيعة كهذه، إلا بعد أن "بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنيا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الوَفاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ العَلِيَّ وَالثَّناءَ الجَلِيَّ"، كما نقرأ في دعاء الندبة صباح كل جمعة.

فالطاعة هنا ليست للوجاهة الاجتماعية، ولكبر السنّ، وأمثالها من المظاهر الشخصية، بقدر ما يتعلق الأمر بمسائل جوهرية مثل؛ الورع والتقوى والايمان، ومدى القرب من الله –تعالى- على طول الخط، وهذا ما فطن اليه شخص مثل علي بن الامام جعفر الصادق، الذي عاصر الامام الجواد، عليه السلام، في وقت كادت الحيرة تعصف بالشيعة لأول مرة بعد استشهاد الامام الرضا، عليه السلام، وليس امامهم رجل كبير بالسن كما في السابق يبايعونه إماماً وخليفة لرسول الله، سوى صبي صغير السن في عمر التاسعة تقريباً، وكان علي بن جعفر عمّ أبيه، و هو رجلٌ طاعنٌ في السن، وفقيه معروف بعلمه و ورعه، فكان اصحابه يحثونه على التقدم لإعلان القيادة والإمامة فكان يرفض بشدة لمعرفته بعدم توفر الشروط التي يعرفها في نفسه، بينما كان يجدها في ابن أخيه الجواد، لذا كان يستقبله في المجالس مسرعاً اليه، ويقبل قدمه ويديه، ولما سأله اصحابه عن هذا كان يقول: قد رأى الله في هذا الصبي أهلاً للإمامة فجعله إماماً ولم يرَ في هذه الشيبة أهلاً للإمامة!

ولعل هذا المعيار هو الذي يضمن عدم تسرّب الديكتاتورية والاستبداد في نفوس القيادة الدينية على طول الخط، ومن نافلة القول؛ الاشارة الى الزعامة الشيعية في الحوزة العلمية في بلادنا منذ قرون، فهي لم تأت بخطوات وأعمال يمهّد لها مرجع الدين ليبين للآخرين أنه المؤهل أكثر للقيادة وتولي "زعامة الحوزة العلمية"، بقدر ما يتعلق الأمر بحالة من الشوروية والاتفاق بين أهل الرأي والبصيرة بأهلية مرجع دين معين ليكون محور القرار والادراة في الكيان الشيعي، وطالما سمعنا برفض هذا المرجع او ذاك لأن يتصدر اسمه لهذا المقام تواضعاً من جهة، وخشية من جهة اخرى لئلا يؤدي المطلوب منه، فكانت رسائل التأييد والترشيح المؤكدة من العلماء والفقهاء بمنزلة تحميل مسؤولية شرعية وأخلاقية أمام الامة.

حتى لا نبني القيادة الصنمية

العلماء والمفكرون الذين كتبوا في قضايا النهضة، أكدوا على الدور المشترك للجماهير والقائد في الحيلولة دون ظهور شيء اسمه "الصنمية" في مسيرة النهضة والتغيير بالامة، فالقائد الصنم لن يظهر إلا في مجتمع محب لكل ما يرمز الى التسلّط والقوة الظاهرية في المال والسلاح دون النظر الى الصفات النفسية، وما اذا كانت تدفع بهم على حين غفلة، الى السجون والاعدامات في الانظمة الديكتاتورية المُعلنة، أو تدفع بهم الى الحرمان والتخلف والقلق الدائم كما في الديكتاتوريات المقنّعة بالديمقراطية في بعض البلدان الاسلامية.

عند هذه النقطة تحديداً (الصنم) يحصل الافتراق بين النظرية والتطبيق، وبين الشعارات والواقع، فبدلاً من أن يكون القائد وسيلة لتطبيق الحق "يكون هو المحور لا الحق، وهذا أخطر ما يقع فيه التنظيم الاسلامي، لأن اذا صار التنظيم صنمياً فبطبيعة الحال لا يكون اسلامياً"، يقول المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في "السبيل الى إنهاض المسلمين، في سياق الحديث عن "صنمية التنظيم"، و يورد سماحته مثالاً لخلق المناعة من داء الصنمية {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، من سيرة الرسول الأكرم مع ابناء مجتمعه آنذاك، عندما طلب منه احد المسلمين بأن يوصي ابنه بعدم أكل التمر لمضرّة تصيبه، فاستجاب له النبي، ولكن؛ ليس في نفس اليوم، وإنما أخّر الأمر ليوم آخر، فسأله الأب عن سبب هذا التأخير، فقال له، صلى الله عليه وآله: "كنت في ذلك اليوم قد أكلت التمر، وآكل التمر لا ينهي عن أكل التمر".

إن وجود القائد النزيه والمخلص، مع صفات حميدة –ولو بنسب معينة- لن يأتي على طبق من ذهب، فيما الناس مشغولون بمصالحهم الخاصة، يستمتعون بأوقاتهم، متنوعين في افكارهم وقناعاتهم، إنما يحتاج الأمر  الى "وعي القيادة"، وشروطها واستحقاقاتها، لاسيما اذا كانت القضية تتعلق بمواجهة حضارية، او تغيير كبير على الاصعدة كافة، كما حصل، ويحصل في العراق، فالقضية ليست كما يتصور البعض محصورة في إطار الحكم، ومن يكون؟ او لا يكون، بقدر ما تأخذ ابعاداً واسعة في الحاضر والمستقبل، فنحن نطيع القائد في انتخاب المرشحين لمجلس النواب –مثلاً- ثم تشكيل الحكومة، وايجاد مصاديق عملية لنظام ديمقراطي متفرض في العراق، كما حصل خلال السنوات التي اعقبت سقوط ديكتاتورية صدام، ولكن ماذا عن النظام التربوي؟ فهل يتمكن النائب في البرلمان او الوزير او المدير، وكلهم عبارة عن موظفين في الدولة يتقاضون رواتبهم بداية كل شهر، من الاسهام في وضع خطة تربوية لجماهير الشعب على الاخلاص في العمل، في المجالات كافة، او التربية على حب الوطن، والمسؤولية الجماعية فيما يتعلق بالأمن والبيئة، والصحة، والتعليم، وقضايا كبيرة أخرى في الاقتصاد والقانون، هذا فضلاً عن بلورة مفاهيم وقيم عليا مثل الحرية والعدالة والمساواة؟

اضف تعليق