q

التناقض بين الإيثار والاحتكار، يأتي من كون الأول يضع نفسه (معنى وفعلاً) في خدمة الانسان، (ولا نعني هنا الخدمة الذاتية، بل خدمة الآخر)، أما الثاني (الاحتكار)، فهو يعني كل فعل يقوم فيه فرد أو جماعة تحقق لهم فوائد تقابلها خسائر يتحملها آخرون، وكما نرى، شتان بين الاثنين في (الفعل والمعنى)، فالاول يصطف الى المقبول من الافكار والأفعال، ويعود بنتائج ذات سمة ربحية تعود بدورها على الاطراف كافة (التاجر/المشتري، على سبيل المثال)، أما الاحتكار فهو فعل خاطئ وإن كان ذا نتائج ربحية لمن ينتهج هذا الاسلوب، ولكن هناك مقابل ربحية الاحتكار، أناس يتعرضون للضرر، وربما يصل الى درجة كبيرة، فيوصَف بالضرر الفادح، ولكن ينظر العلماء الانسانيون وعامة الناس، الى الاحتكار والمحتكِر بوصفهما (داخل دائرة الخطأ)، كما ورد ذلك في الحديث النبوي الشريف (لا يحتكر إلا خاطئ).

والإيثار (بالإنجليزية: Altruism) كما يصفه المختصون، هو صفة لتصرّف قام به شخص (أو جماعة) لا يعود بالفائدة عليه بل على غيره. ويعني الايثار ايضا تفضيل راحة ورفاهية الآخرين على الذات، فهو عكس الأنانية. ويتمركز مفهوم الإيثار حول الدوافع التي تقود لعمل الخير للآخرين دون مقابل، بينما يتمركز مفهوم الواجب حول الإلتزام الأخلاقي تجاه شخص ما أو منظمة أو مفهوم مجرد (كالواجب الوطني)، قد يشعر البعض بمزيج من الإيثار والواجب، بينما قد لا يدمج آخرون بين الإثنين، فالشعور بالإيثار المجرد هو عبارة عن العطاء دون مقابل أو جائزة أو منافع أخرى.

أما الاحتكار (لغة من الحِكرة) وهو السيطرة اصطلاحا، ويعني حبس الطعام أو كمل ما يضر الناس أو يعسر عليهم وقت الحاجة الماسة، أي تكون قليلة أو نادرة حتى يرتفع ثمنه فيعرضه للبيع، هذا ما يتعلق بالجانب المادي الاقتصادي، ولكن هناك احتكار خارج اطار المادة، ونعني به الاحتكار المعنوي الذي يعود بأضرار قد تكون فادحة على الآخرين، عندما يقوم تفكير الانسان ومنطلقاته على الاحتكار، الذي يؤدي بالنتيجة الى تفضيل الذات على الآخر، بغض النتائج التي تتمخض عن ذلك.

قد يرى بعضهم أن لغة الاقتصاد وحيثيات السوق والتجارة، تستدعي إبعاد مفهوم الإيثار الجمعي، والركون الى (الإيثار الذاتي)، تحقيقا للارباح المادية، التي تشكل هدفا للاقتصاديين والتجار، ولا يمكن الاعتراض على قضية تحقيق الارباح في العمليات التجارية، كذلك لابد لكل مشروع ذي صفة اقتصادية أن ينحو الى الربحية، وهو امر لا يمكن الاعتراض عليه، ولكن ينبغي أن تدور الربحية هنا في إطار نبذ (الاحتكار)، والعمل وفق قاعدة أو مبدأ (الإيثار)، وهذا المنهج لا يلغي مشروعية تحقيق الربحية التي يبحث عنها الافراد او الجماعات (شركات وغيرها)، ولكن ينبغي أن يتم ذلك وفق معايير انسانية، تراعي (الذات والآخر) في وقت واحد، من خلال منهجية تقوم على الايثار بدلا من الاحتكار.

وقد أثبتت تجارب الامم والشعوب، أن الاحتكار يمثل داءً يفتك بالنسيج الاجتماعي، ويعرّضه الى مشكلات ومضلات قد تتحول مع مرور الوقت الى الديمومة، وهو أمر تعاني منه المجتمعات التي لا تعتمد مبدأ الايثار في ادارة شؤونها، ففي كل الاحوال ينتمي الايثار لفضائل الافكار والافعال، على العكس من الاحتكار الذي ينتمي للرذيلة، كما يؤكد ذلك الامام علي عليه السلام عندما يقول: (الإِيثارُ فَضِيلَةٌ، والإِحْتِكارُ رَذِيلَةٌ).

لذلك اذا اراد شعب ما، أو دولة، القفز الى مصاف الدول والشعوب المتقدمة، فما عليها سوى انتهاج (ربحية الإيثار)، والابتعاد عن منهج او اسلوب الاحتكار، في التعامل الاقتصادي المادي والفكري المعنوي على حد سواء، لاسيما أن ثمة ارتباط بين الايثار والايمان، بمعنى أنهما ينطلقان من جذر واحد، على خلاف الاحتكار الذي ينبثق من (أنانية) الانسان التي تراعي الذات مقابل تدمير الآخر، حتى لو كان من أقرب الناس إليه!!.

لذلك دائما يمتدح العلماء وأصحاب الحكمة، إيثار الفرد والجماعة من أجل غيرهم، ليس من منطلق أخلاقي او ديني فحسب، وانما بسبب الفوائد الكبيرة التي يحققها هذا المسار، وهو ما يتمثل بالربحية المادية والمعنوية، التي يقطف ثمارها المجتمع في نهاية المطاف.

إذ يقول الامام علي (عليه السلام): الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان.

لهذا فإن الانسان (الجماعة والفرد) الذي يعتمد هذه القاعدة، سوف يضرب (عصفورين بحجر واحد) كما يُقال، فهو يُحسن للآخر ويقدم له فوائد جمة من ناحية، ويحصل على الربحية المبتغاة (مادية أو معنوية) من ناحية ثانية، وبهذا يصف العلماء والعارفون من أهل البصيرة والحكمة، أصحاب الإيثار، بأنهم أناس أخيار، يَربحون، ويُربحون غيرهم، بسلوكهم وتفكيرهم القائم على ربحية الذات والآخر في وقت واحد، على العكس تماما مما ينتج عن الاحتكار.

وقد قال الامام علي (عليه السلام): الإيثار سجية الأبرار، وشيمة الأخيار.

اضف تعليق