q
التضخم ينبع من التوازن الإجمالي للعرض والطلب، خاصة عندما ترتفع جميع الأسعار والأجور في آن واحد. وقد اتضح أن قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات أقل مما كان مُتوقعًا. وهنا يُشكل نقص العمالة أو الاستقالة العُظمى كما يُطلق عليها حقيقة أساسية واردة. لا يمكن لأرباب العمل البحث عن موظفين...
بقلم: جون إتش. كوكران

ستانفورد ـ لا تزال معدلات التضخم تعرف ارتفاعًا مُستمرًا. فمن نقطة التحول في شهر فبراير/ شباط 2021 إلى الشهر الماضي، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك في الولايات المتحدة بنسبة 6٪ - بمعدل سنوي بلغ 8٪.

2020، أصدرت الحكومة الأمريكية حوالي 3 تريليونات دولار من الاحتياطيات المصرفية الجديدة (وهو ما يعادل النقد) وأرسلت شيكات إلى الأفراد والشركات. ثم اقترضت وزارة الخزانة تريليوني دولار إضافية أو نحو ذلك وأصدرت المزيد من الشيكات. يصل إجمالي حزمة التحفيز إلى حوالي 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 30٪ من الدين الفيدرالي الأصلي. وفي حين تم تخصيص معظم هذه الأموال لمساعدة الأفراد والشركات التي تضررت بشدة جراء اندلاع الجائحة، فقد تم إصدار مُعظمها أيضًا بغض النظر عن احتياجات الناس، خلال الإعانات لتغذية الطلب. كان الهدف حث الناس على الإنفاق، وهذا ما يقومون به الآن.

وكما ذكر ميلتون فريدمان ذات مرة: "إذا كنت تريد التضخم، فيمكنك فقط إسقاط الأموال من طائرات الهليكوبتر". وهذا في الأساس ما فعلته حكومة الولايات المتحدة. ومع ذلك، يُعد هذا التضخم الذي تشهده الولايات المتحدة في نهاية المطاف تضخمًا ماليًا وليس نقديًا. لا يملك الناس فوائض مالية في شكل سندات، بل لديهم مدخرات وثروات إضافية لإنفاقها. إذا اقترضت الحكومة 5 تريليون دولار بالكامل لكتابة نفس الشيكات، فمن المحتمل أن نُعاني من نفس التضخم.

إن العوامل المُحتملة الأخرى -بما في ذلك "صدمات على مستوى العرض" و"التحديات" و"تحولات الطلب" و"جشع" الشركات- لا صلة لها بمستوى الأسعار الإجمالي. لن يتم اكتظاظ الموانئ إذا لم يحاول الناس شراء الكثير من السلع. إذا أراد الناس شراء المزيد من أجهزة التلفاز وتناول وجبات أقل في المطاعم، فإن سعر أجهزة التلفاز سيرتفع وسينخفض سعر الوجبات في المطاعم. لم تندلع ظاهرة الجشع فجأة في السنة الماضية.

وفي المقابل سنجد أن التضخم ينبع من التوازن الإجمالي للعرض والطلب، خاصة عندما ترتفع جميع الأسعار والأجور في آن واحد. وقد اتضح أن قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات أقل مما كان مُتوقعًا. وهنا يُشكل نقص العمالة -أو "الاستقالة العُظمى" كما يُطلق عليها- حقيقة أساسية واردة. لا يمكن لأرباب العمل البحث عن موظفين لأن العديد من الأشخاص يظلون في حالة تقاعس، دون بذل أي جهود في البحث عن وظائف.

لقد كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مندهشًا تمامًا من تفاقم موجة التضخم وأكد خلال معظم السنة على أن هذا الارتفاع سيكون "مؤقتًا" وسيختفي مع مرور الوقت. وقد تبين أن ذلك كان بمثابة فشل مؤسسي كبير. أليست المهمة الرئيسية لبنك الاحتياطي الفيدرالي تتلخص في فهم قدرة العرض في الاقتصاد وملء كوب الطلب - ليس بشكل مُفرط؟

قد يتوقع البعض أن هناك مجموعة من بين آلاف خبراء الاقتصاد الذين يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي بتعيينهم، تعمل على معرفة سعة الموانئ، وتأثيرات نقص الرقائق الإلكترونية الدقيقة، وعدد الأشخاص الذين تقاعدوا أو لن يعودوا إلى العمل، وما إلى ذلك. ومع ذلك، قد يُصاب هؤلاء الناس بخيبة أمل شديدة. تقوم البنوك المركزية بتبني أفكار تقريبية عن جانب العرض، وتتركز معظم هذه الأفكار على الاتجاهات الإحصائية في أسواق العمل.

ولكن لماذا تسبب هذا التحفيز المالي في ارتفاع مستويات التضخم في حين فشلت جهود التحفيز السابقة في الفترة ما بين عامي 2008 و 2020؟ هناك عدة احتمالات واضحة. أولاً، كان هذا التحفيز ضخمًا بشكل مُفرط. في شهر مارس / آذار عام 2021، توقع وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز حدوث ارتفاع في معدلات التضخم من خلال النظر ببساطة إلى الحجم الهائل لحزم الإنفاق، مقارنة بأي تقدير معقول للعجز في الناتج المحلي الإجمالي، وقد كان مُحقًا في ذلك.

ثانيًا، أساء المسؤولون فهم الركود الاقتصادي الناتج عن انتشار فيروس كورونا. لم تنخفض نسب الناتج المحلي الإجمالي والعمالة بسبب نقص "الطلب". في حالة اندلاع جائحة، يمكنك إرسال مبالغ كبيرة من الأموال إلى الأشخاص، ومع ذلك لن يتمكنوا من الخروج لتناول العشاء أو حجز تذاكر طيران، خاصة إذا تم تعليق هذه الخدمات بقرار حكومي. وبالنسبة للاقتصاد، تُعد الجائحة بمثابة عاصفة ثلجية. إذا أرسلت للناس الكثير من المال أثناء تساقط الثلوج، فلن يتمكنوا من القيام بأي أنشطة، لكنهم سيُعانون من التضخم بمجرد إزالة الثلوج.

ثالثًا، على عكس ما حدث في الأزمات السابقة، قامت الحكومة بإصدار الأموال وأرسلت الشيكات مباشرة إلى الشركات والأسر، بدلاً من الاقتراض والإنفاق وانتظار تأثير الأزمة على الدخل.

هل سيستمر التضخم؟ في الأساس، تتفاقم موجة التضخم عندما يعتقد الناس أن الحكومة لن تتمكن من تسديد جميع ديونها عن طريق استخدام الفوائض المالية في نهاية المطاف. ثم يحاول الناس التخلص من الديون وشراء الأشياء بدلاً من ذلك، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وخفض القيمة الحقيقية للديون إلى درجة تدفع الناس للاعتقاد أن الحكومة ستدفعها. ونظرًا إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 6٪، فمن الواضح أن الناس يعتقدون أن الحكومة لن تسدد ما لا يقل عن 6٪ من أصل الديون المُفرطة التي بلغت 30٪. وإذا كان الناس يعتقدون أنه سيتم سداد جزء أقل من الديون المُفرطة، فسيستمر مستوى الأسعار في الارتفاع، بنسبة قد تصل إلى 30٪. لكن التضخم سيتوقف في نهاية المطاف: يؤدي إسقاط الأموال من طائرات الهليكوبتر لمرة واحدة إلى ارتفاع مستوى الأسعار لمرة واحدة.

وعلى هذا الأساس، يتوقف استمرار التضخم على السياسة المالية والنقدية في المستقبل. تُشكل السياسة المالية السؤال الأهم: الآن بعد أن تجاوزنا اعتقاد الناس أن التوسع المالي لن يتم سداده بالكامل، فهل سيفكر الناس في الأمر نفسه بشأن العجز الإضافي المُستمر؟ الخطر هنا واضح للغاية.

إذا حدث بالفعل تضخم مالي، فسيكون من الصعب احتواؤه. وإذا حاول صُناع السياسات النقدية كبح جماح التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة، فسوف يواجهون نتائج مالية سلبية، فضلاً عن تحديات سياسية هائلة. أولاً، إذا قام بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة خمس نقاط مئوية، في ظل تجاوز نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبة 100٪، فإن تكاليف الفوائد على الديون سوف ترتفع بمقدار 1 تريليون دولار - 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي. لابد من دفع تكاليف الفوائد هذه، وإلا فإن التضخم سيتفاقم ويزيد الأمر سوءًا. وعلى نحو مماثل، إذا قام البنك المركزي الأوروبي برفع أسعار الفائدة، فإنه يزيد من تكاليف ديون إيطاليا، مما يُهدد باندلاع أزمة جديدة ويُعرض حافظة السندات السيادية الضخمة لدى البنك المركزي الأوروبي للخطر.

ثانيًا، بمجرد أن يعمل التضخم على زيادة عائدات السندات، فسوف يتطلب وقف التضخم فوائض مالية أعلى لتسديد أموال حاملي السندات بالدولار الأكثر قيمة. خلاف ذلك، لن تعرف معدلات التضخم أي انخفاض.

لا يمكن للسياسة النقدية وحدها احتواء نوبة من التضخم المالي، وكذا بالنسبة لسياسات "التقشف" المؤقتة، وخاصة المعدلات الضريبية الهامشية المرتفعة بشكل حاد التي تعمل على تقويض النمو الطويل الأجل وبالتالي العائدات الضريبية على المدى البعيد. يتلخص الحل الدائم الوحيد في تحسين الوضع المالي للحكومات.

وأخيرًا، هناك حاجة إلى سياسة مُوجهة نحو العرض لتلبية الطلب دون رفع الأسعار، والحد من الحاجة إلى الإنفاق الاجتماعي وزيادة الإيرادات الضريبية، بشكل غير مباشر، دون الاستعانة بقاعدة ضريبية أكبر. ونظرًا إلى قيود العرض الناجمة عن الأنظمة وقوانين العمل والعقبات التي خلقتها البرامج الاجتماعية، يجب أن تكون الحلول المُحتملة واضحة في هذه المرحلة.

* جون إتش. كوكران، زميل أقدم في معهد هوفر
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق