q
إسلاميات - عقائد

هل الإسلام لا يكتمل أبداً؟

آراء هرمينوطيقية محورية

7- الإسلام لا يكتمل أبداً

و(نجد ضمن هذا المنظور أن الإسلام لا يكتمل أبداً، بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي وفي كل مرحلة تاريخية معينة)(1)

المناقشة

إن هذه المقولة التي ذكرها الباحث والمؤرخ "محمد أركون"[2]، تمت مناقشتها بالتفصيل في عدة مواضع من الكتاب(3)، ونشير هنا إلى أن هذه المقولة غير صحيحة عقلياً وشرعياً؛ أما عقلياً فلما فصلنا الحديث عنه في موضع آخر من الكتاب عند التطرق لنفي النسبيات الثلاث: نسبية الحقيقة ونسبية المعرفة ونسبية اللغة، ونشير إلى أن واحداً فقط من تلك (التحديدات والتعريفات) هو الصحيح، والبواقي خطأ؛ إذ يستحيل أن تتعدد الحقيقة وتتناقض، فإذا كانت الحقيقة (التي تجلت في شكل نصوص إلهية منزلة على رسول الله صلى الله عليه وآله) واحدة، فإن التحديد والتعريف و(القراءة) التي تتطابق معها فقط هي الصحيحة، وأن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يمتلك الدقة والوثاقة والمرآتية للواقع والذي يوصلك لفهم الحقيقة والنص كما هو، هو السياق الذي يتمتع (بالحجية) و(المرجعية) ويصلح كقرائن مقامية لفهم مرادات النص الإلهي، وما عداها ضلال وإضلال، وقد فصلنا هذه النقطة ونظائرها في مطاوي الكتاب.

وأما شرعياً ونقلياً، فإن هذه الدعوى تصطدم بالبديهيات التي يذعن لها المسلمون وتعارض صريح الآيات القرآنية الكريمة، مثل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(4) وقوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (5)، مع (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)(6).

والمستفاد:

أ: المتشابهات تُرجع للمحكمات، لا للسياق الاجتماعي الثقافي، ب: المحكمات، محكمات، لا يعاد تعريفها أو تحديدها أبداً،

ج: الذين في قلوبهم زيغ وانحراف ومرض هم فقط الذين يتبعون المتشابهات إبتغاء تأويلها حسب أهواءهم أو حسب السياق الاجتماعي الثقافي الذي يرضيهم أو ما أشبه.

ولا يخفى أن هذه المقولة تشابه تماماً المقولة التي ذهب إليها الماركسيون في نسبية المعرفة وقد نقلنا نصوصهم في موضع آخر.

ومن الضروري أن نشير إلى أن هذه المقولة (إن الإسلام لا يكتمل أبداً...) تستبطن وتستلزم مفهوماً أغرب وأعمق، هو أنه لا يوجد إسلام واحد، بل إسلامات كثيرة، وذلك لبداهة تعدد السياقات الاجتماعية ـ الثقافية، في الأمة، في كل مرحلة تاريخية، بل يستلزم أن الإسلام منذ ولادته، كان إسلاماتٍ كثيرة وليس إسلاماً واحداً، وذلك لوضوح أن المجتمع الإسلامي لم يكن موحداً ثقافياً واجتماعياً منذ البدء بل كانت تتحكم فيه تيارات اجتماعية ـ ثقافية عديدة.

وهذا يعني أيضاً إلغاء مرجعية الإسلام كدين موحد، بل وإلغاء مرجعية القرآن وعدم صحة الاحتكام إليه في معترك التناقضات الفكرية؛ إذ كل يقول إنه يقوم بتحديد الإسلام وتعريفه في السياق الذي يراه صحيحاً، بل إذا كان الإسلام يعاد تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي، فإن لكل أحد أن يقول إن لي الحق في أن أعيد تحديد وتعريف الإسلام داخل سياق منظومتي المعرفية الخاصة، إذ لكلٍ تصورٌ محدد عن السياق الاجتماعي ـ الثقافي، ولا تتطابق التصورات والقراءات مائة بالمائة، ثم (العلة) معممة ومخصصة، فإذا كان للسياق صلاحية حتى التفسير، كانت للمنظومة المعرفية الخاصة بكل فرد، الصلاحية كذلك، وهكذا يتحول (الدين) إلى (ألعوبة) بيد كل شارد ووارد، وإلى (إسلامات) بعدد أفراد المسلمين بل بعدد أفراد البشر!

ثم إننا نسأل: ماذا يعني مثلاً إعادة تحديد وتعريف القاعدة الإسلامية المصرح بها في القرآن الكريم: (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)(7) فهل يعني إعادة تعريف الإسلام حسب السياقات الاجتماعية والثقافية المتغيرة، إن تتحول الآية من مدلولها في أن لك رؤوس أموالك، إلى أنه ليس لك رؤوس أموالك، إذا تحول السياق الاجتماعي الثقافي إلى سياق إشتراكي أو شيوعي؟

وهل (يكتمل الإسلام) إذا عملنا فترة بـ(لا تَظلمون ولا تُظلمون)(8) ثم عملنا فترة أخرى ـ حسب تطور السياق الاجتماعي والثقافي ـ بـ(تَظلمون وتُظلمون) أو (تَظلمون ولا تُظلمون) أو (لا تَظلمون وتُظلمون)؟

وهل يكتمل الإسلام إذا تحول المجتمع إلى مجتمع رأسمالي ثقافة واقتصاداً وفكراً وسلوكاً وإذا استولت الرأسمالية والنيولبرالية على الحكم، ليتحول قوله تعالى: ( فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)(9) إلى: للشركات العابرة للقارات وللبنوك المركزية وللأثرياء فقط، رؤوس الأموال؟

ثم يكتمل(10) إذا استولت (الإشتراكية) على الحكم فيكون فقط: (الملكية العامة لوسائل الإنتاج توجد في ظل الإشتراكية في ظل نوعين "ملكية الدولة": الملكية العامة، وشكل المزرعة الجماعية والملكية التعاونية)(11) ثم يكتمل في ظل الشيوعية لتكون (ملكية واحدة هي ملكية كل الشعب)(12) فيكون التسلسل هكذا:

1- لكم رؤوس أموالكم شرط أن لا تظلموا ولا تظلموا، والذي يعني أن تكتسب المال من حِلّه ولا تجحف بحق أحد ولا يجحف أحد بحقك، وتنفقه في محله.

2- للإقطاعيين فقط رؤوس أموالهم وإن قهروا الفلاحين والفقراء.

3- للشركات الكبرى والرساميل العملاقة والتراست، رؤوس أموالهم حتى لو ظلموا وأكلوا أموال الناس بالباطل واجحفوا واحتكروا.

4- للدولة وللتعاونيات فقط رؤوس الأموال، وإن قتلوا وسرقوا وصادروا وفعلوا ما فعلوا.

5- ثم نعرج إلى أعلى درجات اكتمال الإسلام، لنصل إلى سلب الملكية الفردية عن الكل، بدعوى أن الملكية أضحت في ظل الشيوعية، لكل الشعب!

وسيصاب الإنسان بالذهول من مدى (الفوضى المعرفية) التي ستنجم عن (الإسلام الذي لا يكتمل أبداً)، بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي، وفي كل مرحلة تاريخية معينة!؟

ولنلاحظ ـ مثلاً ـ القواعد والأحكام والسنن الإسلامية التالية، فيما لو خضعت لمنطق إعادة التعريف والتحديد حسب كل سياق اجتماعي وثقافي وحسب كل مرحلة تاريخية:

(وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)(13)، (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)(14)، (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(15)، (لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ)(16)، (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ)(17)، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(18)، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(19)، (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ)(20)، (احل الله البيع وحرم الربا) (21)،(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)(22)، (وأحسن كما أحسن الله إليك)(23)، (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(24)، (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل)(25)، (ثم أتموا الصيام إلى الليل)(26)، (ولله على الناس حج البيت)(27)، (وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر)(28)إلى غيرها من ألوف الآيات التي توزعت على ما تتحدت عن أصول العقيدة، وفروعها، وما يتحدث عن فروع الدين، والأحكام الشرعية والقيم والمثل الأخلاقية وغيرها.

هذا كله، إضافة إلى أنه يحق للباحث أن يتساءل من صاحب هذا النص إذ يقول (بل ينبغي إعادة تحديده ـ أي الإسلام ـ وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي) نسأل من الذي يمتلك صلاحية إعادة تحديد الإسلام وتعريفه؟ الكلاميون أم المفسرون أم الفقهاء أم الأصوليون أم العلمانيون؟ المعارضون للحضارة الغربية أم المنبهرون بها؟ الهِرمينوطيقيون أم اللا هرمينوطيقيين؟ التقليديون أم المتحررون؟ خاصة إذا علمنا أنه يوجد داخل كل سياق ثقافي اجتماعي في الأمة عدة تيارات، ثم من يحدد أن هذا هو السياق دون ذاك؟(29)

ثم نتساءل أيضاً: هل السياق الاجتماعي ـ الثقافي في كل مرحلة تاريخية، مهما كان، هو الحجة وهو المتبع، أم إذا كان ذا مواصفات معينة؟ ومن الذي يحدد تلك المواصفات؟

ونتساءل من المتحررين: لماذا يكون السياق الاجتماعي ـ الثقافي كلما تحرر وانفتح أكثر فأكثر، كان هو (المحور) في عملية إعادة التعريف والتحديد للإسلام وقوانينه، لكن السياق لو سار بإتجاه (الأصولية) بأية درجة من درجاتها، أقمتم الدنيا ولم تقعدوها؟!

وهل يعني ذلك أن السياق الثقافي الاجتماعي لو سار بإتجاه السماح للمرأة بالزواج بعدة رجال، ومنع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة، إن نقلب الآيات والروايات ومداليلها إلى العكس تماماً!!

ثم هل يعني إعادة تحديد الإسلام وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي، إن هذه السياقات (ناسخة) للإسلام لكن بتعبير ملطف؟

ثم نسأل ما هو وجه شرعية وقدسية السياق الثقافي ـ الاجتماعي، في كل مرحلة تاريخية، لتكون له المرجعية؟

* من الفصل الرابع لـ كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة)
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

............................
(1) الدكتور محمد اركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص20.
[2] محمد أركون (1928 - 2010 )، باحث ومؤرخ جزائري، درس الأدب العربي والقانون والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر، وبإشراف المستشرق الفرنسي "لوي ماسينيون"، قام بإعداد دراساته في اللغة والآداب العربية في جامعة السوربون في باريس، اهتم بفكر المؤرخ الفيلسوف العربي الإسلامي "ابن مسكويه"، وكان موضوع أطروحته. عمل أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون، بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة منها، وعمل كباحث في معهد برلين، ومعهد الدراسات الإسلامية في لندن. بنى طرحه الفكري على محاولة نقد أسس العقيدة الإسلامية على غرار المدرسة الاستشراقية، وعدم الفصل بين الحضارات، واحتكار الإسقاطات بينها. ومن أهم مؤلفاته "نقد العقل الإسلامي"، و"نزعة الأنسنة في الفكر العربي".
(3) ومنها عندما نتطرق لكلام أبي زيد، حول أن النص المقدس يتأنسن.
(4) سورة المائدة: 3.
(5) سورة آل عمران: 7.
(6) سورة آل عمران: 7.
(7) سورة البقرة: 279.
(8) سورة البقرة: 279.
(9) سورة البقرة: 279.
(10) أو يتكامل أكثر فأكثر.
(11) الموسوعة الفلسفية مادة الاشتراكية والشيوعية: ص34.
(12) المصدر.
(13) سورة الإسراء: 32.
(14) سورة الأنعام: 151.
(15) سورة لقمان: 13.
(16) سورة الأنعام: 151.
(17) سورة البقرة: 233.
(18) سورة البقرة: 228.
(19) سورة النساء: 36.
(20) سورة القصص: 77.
(21) سورة البقرة: 275.
(22) سورة النحل: 90.
(23) سورة القصص: 77.
(24) سورة النساء: 58.
(25) سورة الإسراء: 78.
(26) سورة البقرة: 187.
(27) سورة آل عمران: 97.
(28) سورة لقمان: 17.
(29) أي مَن يحدد الصغرى والمصداق.

اضف تعليق