q
نحتاج إلى الذات، لأننا نستمد منها القيم الأصلية المركوزة في تكويننا النفسي والفكري، كما نحتاج إلى الآخر في تطوره وعلميته والمكاسب الإنسانية الضخمة. إننا لا ندعو إلى مواءمة بين الأنا والآخر، وإنما ندعو إلى بلورة الأطر المناسبة للإفادة المتبادلة عن طريق الحوار والتفاكر المشترك بين الأنا والآخر...

يمكننا أن نؤرخ للفكر الحديث وبحثه عن هويته وثوابته العقدية والفكرية، ومشروعه النهضوي، من خلال علاقاته بالآخر الحضاري المتفوق والقاهر -الغرب- بدءا من حملة نابليون بونابرت على مصر " 1798 م".

لذلك فقد انطبعت هذه الحقبة بعناوينها الثقافية، ومشاريعها السياسية، وتطلعاتها المستقبلية. لذلك أضحت أمهات الفكر العربي الحديث، منذ مطلع هذا القرن، هي حول مسائل مرتبطة بشكل أو بآخر بموضوع علاقة الأنا والآخر، والخيارات المعروضة تجاه هذه العلاقة. حوار -صدام- تعايش - قبول - رفض مطلق - توفيقية - انتقائية وما أشبه.

وقد تعنونت هذه العناوين في بعض الحقب التاريخية ببعض العناوين كـ "الغرب والمثقفون العرب"، وفي هذه الفترة من الزمن، وبالذات بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وانهيار الإتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، بدأت هذه الأفكار الثنائية، تطرح في الساحة الدولية تحت إطار "الإسلام والغرب". وكان لنظرية (صموئيل هنتجتون) "صدام الحضارات" وهو واحد من أشهر علماء السياسية الأمريكية ويعمل مدير معهد أدولن للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد ومحورها أن الصراع في المستقبل سيكون بين الحضارات في المقام الأول، وليس صحيحا أنه سيكون بين القوميات، أو بين المصالح الاقتصادية المتعارضة، ومن المرجح أن يصبح المحور المركزي في السياسات العالمية هو الصراع بين الغرب والحضارات الرافضة للهيمنة والقيم الغربية.

ويؤكد (هنتجتون) على عمق التحدي الحضاري الذي يمثله الإسلام، حيث وصفه بأنه أكثر العقائد والديانات صرامة. ويشير إلى أنه في الوقت الذي اختفى فيه الانقسام الأوروبي الأيدلوجي بين الرأسمالية والشيوعية، فإن الانقسام الأوروبي الثقافي بين المسيحية الكاثولوكية والأرثوذوكسية من ناحية والإسلام، عاد للظهور ثانية في تلك القارة. فالصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستمر منذ "13" قرنا، ولا يبدو أنه في طريقه إلى التلاشي، ولذلك شواهده عند الحدود الشمالية للحضارة الإسلامية.

فهذه النظرية وغيرها من النظريات والرؤى، ما زالت تسعى وتحاول الوصول إلى إجابة نظرية متكاملة حول علاقة الأنا والآخر في الفكر الغربي والفكر العربي الإسلامي.

ففي إطار مشروع النهضة العربية، ما زال السؤال المركزي الذي طرح في القرن الماضي "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" أو "لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون". يشكل النقطة الجوهرية لغالبية الجهود المعرفية والسياسية، التي تحاول بلورة المشروع النهضوي، وتوضيح مقاصده، وتحديد آليات عمله وآفاقه المنظورة والبعيدة.

ولا شك أن السؤال التاريخي المتقدم، يطرح مسألة النهضة والحضارة، باعتبارها تحققت لدى شعوب ومجتمعات، وما زال المسلمون والعرب بعد لم يصلوا إلى مستوى التقدم والتحضر الذي حدث في تلك المجتمعات والأمم. وعلى قاعدة هذه المسألة طرحت مسألة ترتيب العلاقة بين الأنا والآخر في الفكر العربي المعاصر، كشرط ضروري لتحقيق مشروع النهضة في الواقع العربي المعاصر. ولهذا نجد أن المكتبة العربية مليئة بتلك الكتب والدراسات، التي تعكس في مضمونها وعناوينها هذه الإشكالية المطروحة على الفكر العربي تاريخيا وراهنا.

ومن الطبيعي أن تتعدد الآراء والإجابات على هذا السؤال والإشكالية، لاختلاف الأطر المرجعية لكل كاتب أو مدرسة فكرية، أو بفعل تعويم وضبابية مصطلح الأنا والآخر في دائرة الفكر العربي والإسلامي.

لهذا فإنه ينبغي في البدء تحديد من هو "الأنا" ومن هو "الآخر"، وما هي حدود كل طرف وإمكاناته الحضارية والتاريخية. وعلى ضوء هذا التحديد، يتم تصور العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الطرفين "الأنا والآخر".

• تحديد الأنا:

بعيدا عن الأطر الجغرافية، التي تحبس المفاهيم والأفكار والمضامين العقدية في رقعة جغرافية واحدة، فإننا نرى أن الأنا كما الآخر، ليس رقعة جغرافية، وإنما نحن ننظر إلى الأنا باعتبارها مجموعة القيم الأصيلة، والمبادئ العليا التي جاء بها الدين الإسلامي، إضافة إلى التجربة التاريخية التي قام بها المسلمون، على هدى تلك القيم والمبادئ. فحينما نستخدم مصطلح الأنا أو الذات، فإن المقصود من ذلك، هو القيم المعيارية المتعالية على الزمان والمكان، مع تجربة إنزال تلك القيم المعيارية المطلقة، على الواقع النسبي المتحرك والمتغير.

• تحديد الآخر:

والآخر الحضاري أيضا، ليس عنوانا هلاميا، وإنما يعني مجموع القيم والمبادئ الأساسية التي جاء بها الغرب الحضاري، إضافة إلى التجربة التاريخية، التي قامت بها شعوب العالم الغربي عموما، انطلاقا من تلك القيم، وعملا باتجاه إنزالها في الواقع الخارجي.

وإننا وإذ نطرح هذه الإشكالية، لا نتجه في ثقافتنا وحركتنا الفكرية والاجتماعية إلى إخفاء حاضرنا وواقعنا المعاصر، إما بقناع الماضي المجيد، أو قناع حاضر الغرب الحضاري المتقدم. لأن في كلتا الحالتين تستمر الإشكالية، وتتولد العناوين تلو العناوين، التي تعكس بشكل أو بآخر جوهر الإشكالية التاريخية.

وفي الحاضر لم يقف الفكر العربي والإسلامي، في وجه المتغيرات والتطورات التي أدخلها الغرب في عالمنا العربي والإسلامي، طالما كانت هذه التطورات في نطاق العلم الوضعي والتنظيم المجتمعي، أما تلك المتغيرات التي تسعى إلى تشويه الأسس العقدية والأخلاقية للمجتمعات العربية والإسلامية، فإنها تعارض وتقف موقفا سلبيا من ذلك، لأنها ضد الذات الحضارية والأخلاقية للعرب والمسلمين.

وعلى هذا يمكننا النظر إلى إشكالية الأنا والآخر في الفكر العربي المعاصر من خلال منظورين أساسيين:

1- منظور القيم والتطورات التي يجريها الغرب في فضائنا على حساب ذاتنا وقيمنا.

2- منظور التطورات العلمية والإنسانية، دون المساس بالجانب العقدي والحضاري. وأشار إلى هذه المسألة المفكر العربي (برهان غليون) في كتابه "الوعي الذاتي" بقوله: إنه كما ينبغي أن ننطلق إذن من أنفسنا ومن ثقافتنا مع الاعتراف بمحدوديتهما في سبيل تطويرهما. لا ينبغي أن يكون تعلقنا بالعصر والحضارة حافزا إلى تدمير ذاتيتنا، وتهشيم أنفسنا، والتضحية بمستقبلنا كجماعة إنسانية مستقلة، وكمدنية متميزة فاعلة ومتجددة في ساحة الصراع التاريخي.

فالتقدم الحضاري وأسباب الحياة والعمران مبذولة للخلق على السواء. وإن من يتمسك بأسباب العمران يبلغ إلى غايته وهدفه بصرف النظر عن إيمانه وكفره. " فأنجع دواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، هو أن يعلم ذلك المسلم، أنه ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره ما تقدم بعدم إسلامه، وأن السبب في التقدم والتأخر هو التمسك والترك للأسباب ". على حد تعبير الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت – 1940م).

والتجربة الإسلامية التاريخية، تكشف لنا بوضوح، أن الأمة أو المجتمع الذي يتمسك بأسباب العمران الاجتماعي والحضاري سيصل إلى غايته، ويصبح مجتمعا حضاريا، تتوافر فيه كل خصائص مجتمع التقدم. والمجتمع أو الأمة التي تهمل أسباب العمران، وتبتعد عن عوامل الرقي، تكون دائما دون الأمم كلها، وتحتاج إلى الآخرين في كبريات الأمور وصغائرها.

من هنا فإننا من الضروري أن نبتعد عن عمليات الإسقاط المعرفي والأيدلوجي، لأنها لا تؤدي إلا إلى المزيد من تضخيم الذات، وتشويه الآخر، وعدم إدراك حقائقه التاريخية والمعرفية. ولعل هذا هو الخطأ المنهجي الأساسي الذي وقع فيه الآخر الحضاري، انطلاقا من منطق الغلبة والهيمنة، الذي أدى إلى تسيير وتوظيف كل الإمكانات والمعارف في سبيل إبادة الآخرين شعوبا وثقافات وحضارات. وقد كان نموذج "الاحتلال طريق الحضارة" هو أحد المؤشرات الأساسية في هذا السبيل. وكما يقول " فيصل دراج ": أن الأوروبي يعتمد على تقدمه ويلغي ما عداه، أي يبدأ بخلق الآخر خلقا زائفا، يستند على تقدمه ويخلق التخلف، ويتكئ على حضارته وينجب البربرية. يخلق الظواهر كلها عن طريق التسمية واللغة المسلحة، وعندها فإن المدافع الأوروبية، لا تؤمن مصالح التمدن. فلا مكان للمتعدد والمختلف إلا إذا كان الأخير وسيلة للإذعان والخضوع. يتم اختزال التاريخ الإنساني، إلى تاريخ المشروع الأوروبي المنتصر.

إن تكوين علاقة عادلة بين الأنا والآخر، وضمن الظروف والمعطيات المتاحة حاليا، لا يتم أو لا يبدأ بما هو سياسي، لأن تاريخ العلاقة بينهما مليء بالمشاكل التي صنعتها الحوافز والمصالح السياسية، مستفيدة من المنطق الأيدلوجي الجديد في أوروبا المتجه إلى القضاء على مكونات كل حضارة، وكل منطق ثقافي ينافس أو يعارض الحضارة والمنطق الغربي.

بمعنى أن وهن الأنا على المستوى الحضاري، وتحكم العقلية المركزية في ثقافة الآخر ومنطقه تجاه الأمور والقضايا، هو الذي دفع بالمجتمع الأوروبي بمؤسساته المختلفة، بدءا بمؤسسة الاستشراق وانتهاء بالمؤسسة العسكرية والأمنية، مرورا بما هو سياسي واقتصادي واجتماعي إلى الاستحواذ على الخارج " أو الإفادة الكلية منه، لا على أساس الغلبة المجردة فحسب، بل حسب منطوق الأيديولوجيات الجديدة، حسب مبدأ أن العبء الأبيض يحتم تحديث كل ما هو خارجي على أوروبا، ولا يعني العبء تحمله من جانب صاحبه وحده، بل تحميل الآخرين مسئوليات الاستجابة ترغيبا وترهيبا، بشتى السبل والوسائل" (الاستشراق في الفكر العربي، د. محسن جاسم الموسوي - ص 14).

وتداخل في سبيل تحقيق هذا التطلع العنصري، والقائم على نفي التعدد، وإقصاء الآخرين ثقافة وحضارة ووجودا، جميع الأساليب المتاحة والمتوفرة في الفضاء المعرفي والنفسي الغربي، فبدأت الحروب العسكرية ومؤامرات السياسة وخطط التخريب في حقل الاقتصاد والثقافة والاجتماع.

لهذا فإننا بحاجة لئلا ننظر إلى علاقة الأنا بالآخر من منظور ما يحتاجه الأنا من الآخر ويجوز استيراده والاستفادة منه، لأنه "لا ضمير في الأخذ من الشعوب والحضارات الأخرى، ولكن شريطة أن يتم أخذ ما يفيد ويطلق الطاقات وما تحتاج إليه مجتمعاتنا حقا، وأن يتم ذلك كله، بإدراك عميق لطبيعة ما يؤخذ وطبيعة المجتمع الذي أفرزه، وإلا انقلب ما يستورد إلى جسم سرطاني دخيل ينخر جسم الأمة ويمزق أوصالها ويقوي قيود تبعيتها للآخرين" (جدل الوعي العلمي - إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة، د.هشام غصيب، ص 97).

وإنما ينبغي أن يكون المنظور كيف تنظر الأنا إلى ذاتها، هل ينظر إليها باعتبارها ذاتا هامشية، لا تستطيع تطوير ذاتها فضلا عن المشاركة في تطوير الآخرين، أم ينظر إليها باعتبارها مجموعة من الإمكانات والقدرات، ما أن توفرت العوامل الموضوعية والذاتية حتى تمارس هذه الذات دورها المأمول وحركتها المعهودة في البناء والتطوير. لهذا فإن مربط الفرس في هذه المسألة أو الإشكالية بين الأنا والآخر، هو كيف ننظر إلى الأنا. لهذا فإن قاعدة فض الاشتباك أو إنهاء الإشكالية بين الأنا والآخر، هي مصالحة الذات الحضارية، لأننا لا يمكن أن نسقط هيمنة الآخر المعرفية، إلا بمصالحة الذات، وترتيب علاقتنا بها.

لأن الهيمنة المعرفية للآخر تستمر باستمرار أسباب نموها وديمومتها، من مخاصمة الذات والجهل بإمكاناتها وقدراتها المتنوعة. وأن الفكر السجالي الذي ينظر إلى الآخر كشر مطلق، لا يؤدي إلا إلى المزيد من هيمنة الآخر المعرفية والتقنية، والانطلاق والانحباس المعرفي على مستوى الذات، وهذا أدى بالبعض إلى بلورة مفاهيم الذات الحضارية وقيمها الأصلية، انطلاقا من القيم والمبادئ السائدة في الحضارة الحديثة وحدث ما يسمى بالمقابلة. حيث كل قيمة ذات جدوى وجدناها في الغرب، حاولنا أن نبحث لها عن مقابل وموافق لها في حضارتنا ومنظومتنا المعرفية. فكانت الشورى بموازاة الديمقراطية، وأهل الحل والعقد بموازاة البرلمان والمجالس المنتخبة، والبيعة بموازاة الاقتراع والانتخاب. وهكذا دخلنا في دوامة البحث عن مقابل في منظومتنا الفكرية لكل فكرة ذات جدوى ومنفعة وجدناها في الغرب.

لهذا فإن إهمال الذات وتجاوز أطرها المعرفية، لا يؤدي إلى فهم الآخر فهما دقيقا، بل يؤدي إلى الانبهار به والتلقي الأعمى لكل ما ينتجه ويصدره. وإن أصحاب هذا المنحى لا يدركون العلاقة الوثيقة التي تربط بين فهم الذات وفهم الآخر، وأن الطريق السوي لإدراك الآخر حضاريا وفهم حركة تطوره وصيرورته التاريخية، لا يتأتى إلا بمصالحة الذات وسبر أغوارها، واكتشاف معدنها الأصلي.

والسؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: كيف ننظر إلى هذه الإشكالية في الفكر العربي المعاصر؟

• الآخر طريق وعي الذات:

في بداية الأمر نحن بحاجة، لأن نخرج من دائرة الانبهار التي نعيشها تجاه الغرب، دون إغفال الموقع الطبيعي والفعلي، الذي تتبوأه الحضارة الغربية اليوم. وهذه العملية لا تتم إلا بامتلاك أدوات معرفية نقدية، ناتجة عن القراءة العميقة للتجربة الحضارية الذاتية، والتجارب الحضارية الأخرى مستنبطين من هذه القراءة تلك الأدوات المعرفية النقدية، التي تخرج نظرتنا من أسار الانبهار، وربقة التحيز المسبق، وبدون هذه العملية تبقى شعارات الاستقلال عن الغرب، وإنهاء التبعية التي نعيشها شعارات جوفاء لا حقائق فعلية.

لأن غياب هذه الأدوات سيبقي عالمنا العربي والإسلامي على المستوى النفسي والحضاري أسير اختيارات الغرب واستراتيجياته الكونية. وهذا ما دفع بعض مفكري النهضة إلى الاعتقاد والقول، أن الفهم المرافق للغلبة السياسية، لابد أنه يقود إلى هيمنة حضارية من قبل الآخر، ولا يمكن إنهاء هذه الهيمنة إلا بحركة معرفية - نقدية في خطابات الآخر المعرفية وقناعاته الفكرية. من هنا فإن وعي الآخر وعيا موضوعيا ونقديا، سيكون أحد المحفزات الأساسية لاكتشاف الذات " فكرا وقيما وأنماطا حضارية".

ويشير إلى هذه المسألة (الدكتور تركي الحمد) بقوله: كل ذات وأي ذات، لا بد لها من آخر تحاول من خلاله التعبير عن مكوناتها ومميزاتها ووجودها. بعبارة أخرى تحاول من خلاله أن تعي ذاتها بذاتها بدون هذا الآخر فإن أي ذات قد تكون موجودة بشكل موضوعي، ولكنها أي الذات لا تعي هذا الوجود. فإذا كان العالم في رأي هيغل ضرورة للروح المطلقة من أجل أن تعي هذه الروح ذاتها في صيرورة مستمرة، وإذا كان الصراع الطبقي ضرورة لدى ماركس من أجل أن تعي البروليتاريا ذاتها " طبقة لذاتها لا بذاتها "فإن وجود الآخر بصفة عامة ضرورة لأي ذات من أجل أن تكون ذاتها لذاتها وليس بذاتها" (جريدة الشرق الأوسط 27 / 2 / 1994).

• الآخر ليس شرا مطلقا:

إن الآخر يتضمن مجموعة من الإنجازات والمكاسب التي لا غنى للإنسان عنها. بمعنى أن الآخر الحضاري "ضمن هذا المنظور" نحن بحاجة إليه لتطوير راهننا. وإن من الخطأ الاعتقاد بأن طريق تمكن الأنا الحضارية في الواقع الخارجي، يمر عبر تدمير الآخر الحضاري. لأننا نقف نوقف الاحترام والتقدير والاستفادة من المنجزات العلمية والإنسانية الهائلة، التي حققتها الحضارة الحديثة في هذا العصر.

لذا فإن المنظور السليم الذي ينبغي أن ننظر من خلاله إلى إشكالية الأنا والآخر، هو أن الآخر لا يشكل الشر المطلق الذي ينبغي التخلص منه. وهذه النظرة الموضوعية والواقعية إلى الحضارة الحديثة، هي التي تساعدنا على تحقيق معادلة واعية وعادلة في علاقة الأنا والآخر على مستوى الفكر والممارسة العلمية. وفي قبال هذه النظرة أيضا نقول: أن الذات لا تشكل الخير المطلق. حيث أنها تتضمن أيضا كتجربة تاريخية، الكثير من الإخفاقات والإشكاليات والمزالق والمخاطر، التي لا يمكن السكوت عنها أو القبول بها. بمعنى أن الذات تتضمن العنصرين التاليين:

1- القيم المعيارية الكبرى، التي لا نختلف في أهميتها وضرورتها وأنها هي القيم التي بإمكان الإنسانية جمعاء أن تتجمع تحت مظلتها. وهي قيم خالدة ومتعالية على الزمان والمكان، لذلك فهي قابلة للتطبيق في كل العصور والأزمان، ولا شك أن هذه القيم الكبرى، تعتبر قيما مقدسة، ولا يمكن التنازل عنها. وهذا ما يصطلح عليه بـ"الإسلام المعياري".

2- التجربة التاريخية التي خاضها المسلمون، وعملوا "كل حسب فهمه" على تنزيل تلك القيم المطلقة على الواقع، فتفاوت حظ الناس في ذلك. وعلى هذا المستوى من التجربة التاريخية، لا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن ندعي أو نزعم، أن كل ما جرى فيها من أحداث ومواقف وشخصيات هي المعادل الموضوعي للإسلام المعياري. لأنه تجربة بشرية نسبية، سعى المؤمنون فيها إلى تنزيل القيم المعيارية المطلقة على الواقع النسبي. ولا شك أن عملية التنزيل على الواقع النسبي، ليست معصومة من الخطأ، أو بعيدة عن النقص.

وبهذا من الخطأ أن نقول: أن التجربة التاريخية " الإسلام التاريخي " تشكل الإسلام في كلياته وتفاصيله. ولكننا نقول إنها تجربة المسلمين في تطبيق الإسلام، وهذه التجربة، لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن ندعي بأنها تتماثل وتتطابق مع الإسلام في كل صغيرة وكبيرة. من هنا نجد أن آيات القرآن الحكيم وأحاديث السنة النبوية، تدعو الإنسان وتحثه باستمرار إلى تطبيق القيم الكبرى، وتشجعه على الالتزام بالمبادئ المعيارية التي جاء بها الإسلام. ولعل في الآية القرآنية الكريمة [يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه] (الانشقاق، آية 6)، إشارة إلى ذلك.

إننا ينبغي أن ننظر إلى إشكالية الأنا والآخر، وفق منظور أن الأنا ليست خيرا مطلقا، لأنها تتضمن التجربة التاريخية، التي ارتكبت فيها المظالم، وابتعد البعض في السلوك والأخلاق عن متطلبات القيم المعيارية الكبرى. كما أن الآخر لا يشكل الشر المطلق، فهو يتضمن العلم والتطور التقني والتكنولوجي وثورة المعلومات والاتصالات والإبداع الإنساني فيما يرتبط بالإدارة والسياسة وما أشبه، كما يتضمن الاستعمار والاستغلال وتدمير الآخرين والحروب والمؤامرات وما أشبه.

لهذا فمن الخطأ النظر إلى الإشكالية من زاوية الخير والشر، أو من زاوية أن ما عندنا خير مما عندهم. وإنما ينبغي أن ننظر إلى المسألة من زاوية أن إصلاح راهننا وتطوير حاضرنا، لا يتم إلا بالأنا والآخر، حيث لا يمكن لنا أن نبني دولة عصرية، أو نخلق مجتمعا حضاريا بعيدا عن مكتسبات العصر وإنجازاته.كما لا يمكننا أن نبني الدولة والمجتمع فقط عن طريق الآلات والتطور العملي.

إننا لا يمكن أن تقوم لنا قائمة إلا بقيمنا المعيارية واختياراتنا الكبرى التي يتضمنها الإسلام العزيز. وبالمنجزات الحضارية والعلمية التي صنعها الإنسان في هذا العصر. لذا فإننا نحتاج إلى الذات، لأننا نستمد منها القيم الأصلية المركوزة في تكويننا النفسي والفكري، كما نحتاج إلى الآخر في تطوره وعلميته والمكاسب الإنسانية الضخمة.

إننا لا ندعو إلى مواءمة بين الأنا والآخر، وإنما ندعو إلى بلورة الأطر المناسبة للإفادة المتبادلة عن طريق الحوار والتفاكر المشترك بين الأنا والآخر.

اضف تعليق